من اجل أن نعيد إلى بلدنا مكانته الحقيقية بين الأمم، ينبغي نشر الوعي بأهمية العراق في حاضره ومستقبله أولا، وان نؤمن إيمانا حقيقيا بالسلام والتعايش في المجتمع ثانيا. إن ما يثلج الصدر حقا، أن العراقيين من الأجيال الجديدة يختلفون في تفكيرهم قليلا عما ساد من مفاهيم عند أجيال القرن العشرين. إن الارتداد الثقافي للمجتمع اتسع كثيرا اليوم، بحيث لم نعد نجد بروز أي مبدعين عراقيين جدد. لم نسمع بظهور مطربين جدد ولا بفنانين جدد، وينبغي أن يجد العراق استقراره وأمنه بعد ضخامة التحديات التي عانى منها العراقيون. لقد انهزمت البنية الفكرية للمجتمع العراقي منذ زمن طويل. ولم يعد هناك أي فكر عراقي حقيقي منذ ثلاثين سنة. البنية الفكرية كانت تستقطبها النخبة، وليس الفئات، وليس أيضا الناس العاديون الذين عاشوا صراعا مكتوماً من اجل الحياة، لكنهم كانوا يفقدون ثقافتهم المدنية يوما بعد آخر على حساب اتساع التوحش والرعب والانتقال إلى التخلف بانحسار جملة من القيم المدنية التي كانت متوارثة منذ قرون!
إن الشعب العراقي يعاني اليوم من حصيلة ارتداد تاريخي كبير، ربما كان الثقافي معلما من معالم التشظيات الاجتماعية والصراعات السياسية. المجتمع العراقي منقسم على نفسه بعدما عاش متعايشا في التاريخ. انه اليوم مفكك باسم المكونات التي تؤسس للتمايزات، أو يتم التعامل بانقسام بين اكثريات وأقليات على حساب الوطنية الموحدة. ولولا التماسك الجغرافي للعراق نفسه لا لأهله، لأصبح العراقيون شذر مذر! إن جغرافيته هي التي تقف حامية للعراق منذ القدم! إن ما حدث هو ثمرة نضوج مكبوت لتمزقات كانت موجودة، لكنها غير معلنة على الملأ. كانت مخفية، وقد أذكتها سياسات القمع السياسي، أو السلطوي أولا، ثم ممارسات اجتماعية بليدة بين العراقيين أنفسهم ثانيا.
الارتداد الثقافي هو محصلة أكيدة لأوضاع اجتماعية يعيشها المجتمع العراقي منذ نصف قرن. أوضاع اجتماعية يحس فيها أبناء المجتمع بعدم العدالة. بالتفرقة. الإحساس بالتهميش. القرف من الدولة (هذه الحالة ملازمة للعراقيين منذ العهد التركي). اضمحلال المواطنة. الشعور بالمهانة. الكبت الاجتماعي. الكبت السياسي. انعدام الحريات. نمو الإجرام وتعاظم الخروقات. الإحساس بالاضطهاد. فوبيا الخوف والرعب. الشعور بعدم جدوى المستقبل، بعدم جدوى الحياة أصلا. الاستخفاف بالقيم الحضارية، والأخطر هو الاستخفاف بالعراق نفسه ووجوده. الهروب إلى العشيرة. والطائفة والعائلة والمدينة، الخ…
إن من مهامنا الأساسية اليوم زرع الثقة في نفوس أبناء الشعب العراقي، بحيث يطمئن كل عراقي الى الآخر، بل ويتفاهم معه ويتعايش مهما اختلفت بهم الأفكار والاتجاهات. إن العراقيين في حاجة أيضا إلى برامج تربية مدنية بحيث تخلصهم من التعّصب والتطرف والتزام المواقف الحيادية، وتعلمهم كم نحن في حاجة إلى العراق موحّدا كي يغدو على أيدي شعبه مشروعا حضاريا في مركز هذا العالم. إن حالات الارتداد الثقافي التي يعيشها العراقيون مصدرها جملة من العوامل السياسية والاجتماعية، ذلك أن كلا من الدولة والمجتمع لا بد أن يسهما معا في إعادة بناء اللحمة العراقية سواء من خلال القوانين والتشريعات الرسمية، أو من خلال الأفكار والتربويات. أربعون سنة من الارتداد الثقافي تكفي، كي يعيد العراقيون تشكيل مشروعهم الثقافي من جديد. وما ذلك عليهم ببعيد!
الأسبوعية، العدد 63 ، 15 /3/ 2009
تنشر على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
الأرمن العراقيون.. الخصوصيّة والجاذبيّة والأسرار الحيويّة ! -2-
الحلقة الثانية :حذاقة الصنّاع وعظمة المشاهير الشخصيات العامة الأرمنية ينقل لنا الأستاذ آرا اشجيان عن …