رموز وأشباح
الحلقة 44 : العراق وسلالات الخيانة
أ.د. سيّار الجميل
مقدمة
عالجت قبل يومين في سلسلة (مصطلحات ومفاهيم ) مصطلح ” الخيانة ” ومفهومه في الادبيات العالمية مع جذره التاريخي ، وهو مفهوم بشع لا يمكن ان يوصم به الا الذين اجرموا بحق الوطن ، وكل من تجسس على اسراره ونقلها الى الاعداء ، او خان العهود والمواثيق على مستوى الافراد او المجاميع او الطوابير .. واليوم دعوني اعالج ظاهرة تاريخية تخّصص الساسة العراقيون بها على نحو مثير للجدل، بل مثير للسخرية التاريخية بخلط الامور ، ومن المؤسف ان اجيالا قد ترّبت على سماع هذا ” المصطلح ” والتصفيق له عندما يطلق من حين الى آخر على حكام وزعماء وقادة وسياسيين ومتحزبين وجماعات معارضة وتنظيمات وشرائح سياسية واجتماعية لأكثر من ستين سنة،وخصوصا على عهود الجمهوريات العسكريتارية والحزبية والجماعات الاسلامية الاوليغارشية الحالية. ربما ابتذل المصطلح والمفهوم معا لدى العراقيين، لكن فاقد الشيئ لا يعطيه اولا،وربما التعجيل باطلاق مثل هذه ” التهمة ” على الخصوم بغرض تبرئة من يدفع التهمة الحقيقية عن نفسه ثانيا !
الاثارة تاريخية للدرس والفهم
لا يعتقد البعض ان هذا ” المقال ” يدين عهدا معينا وينزّه عهدا آخر من المثالب ، ولكن لاثارة الاسئلة في تفكير العراقيين اليوم عن الاحوال الصعبة التي وصلوا اليها اليوم بعد تاريخ طويل من توظيف هذه ” الظاهرة ” ليس اعلاميا وسياسيا حسب ، بل اصبح العراقيون يطلقونها ضد بعضهم البعض اجتماعيا ، كما لو انها حقيقة ثابتة ويا للاسف الشديد . واذا كان السابقون ينفرون من هكذا تهمة باطلة ، بل انها بشعة بحق من يتهم بها ، فيحاول بشتى الطرق نكرانها ، فان ” الظاهرة ” اليوم غدت حقيقة ثابتة لدى اناس يعلنون عن انفسهم بانهم يرتبطون باجهزة خارجية ، بل ويتنطعون ويتفاخرون انهم يستلهمون توجهاتهم وسياساتهم من الخارج ، وكأن ” الخيانة الوطنية ” وهي الخيانة العظمى اصبحت عندهم تحصيل حاصل وشرف كبير .
ارث الخيانة : ظاهرة تاريخية
اتمنى من القراء الكرام التفكير في العبارات التالية التي قمت برصدها منذ تفاقم استخدام هذه التهمة سياسيا في السوق العراقية عبر انظمة سياسية متنوعة ، اذ ندر استخدام تهمة ” الخيانة ” رسميا قبل البيان رقم 1 في فجر 14 تموز / يوليو 1958 ، ولكنها استخدمت في بعض صحف وجرائد ومنشورات المعارضة :
1. اتهم العقداء الاربعة والكيلاني والسبعاوي في حركتهم عام 1941 ومن معهم كونهم خونة وبالخيانة العظمى كونهم اتصلوا بالالمان، وقد اعدموا باستثناء رشيد عالي الكيلاني الذي هرب واحتمي بادولف هتلر .
2. وردت ” الخيانة ” في بيان رقم 1 فجر 14 تموز / يوليو 1958 ووصف كل من الملك فيصل والامير عبد الاله والسيد نوري السعيد بتهمة الخيانة وقتلوا وسحلوا، وزاد عبد السلام عارف وهو يصف عبد الاله بـ ” سليل الخيانة “ونقل التوصيف عن احمد سعيد وصوت العرب !
3. عدّ الضباط الاحرار بجملتهم خونة للنظام الملكي في ردود الفعل المتنوعة الداخلية والخارجية ، وكما نعتوا بذلك من قبل دول متعددة !
4. عدّ العديد من الضباط الاحرار كلا من عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف ومن معهما خونة للضباط الاحرار بتفجير الحدث من دون علمهم ( انظر ترديد الخائن ).
5. وردت تهمة ” الخيانة ” مئات المرات في المحاكمات التي جرت في محكمة الشعب (المحكمة العسكريةالعليا الخاصة ببغداد) ضد اغلب المتهمين السياسيين والعسكريين سواء من رجال العهد الملكي او رجال العهد الجمهوري ، وبعض الشهود ايضا ( راجع : المجلدات التوثيقية العديدة في طبعتها الاولى وطبعتها الثانية الخاصة باعمال تلك المحاكمات برئاسة فاضل عباس المهداوي ) .
6. اتهم عبد السلام عارف بتهمة الخيانة كونه اختلف مع رفيقه قاسم ، فحوكم بتهمة الخيانة وصدر قرار باعدامه ، لكن القرار لم ينفّذ عام 1959.
7. اتهم عبد الوهاب الشواف الذي قام بحركته الانقلابية في الموصل في 11 آذار / مارس 1959 ضد حكم قاسم، واتهم في بيانه رقم 1 الزعيم قاسم بخيانة العهد ، لكن قاسم قضى على الحركة، فقتل الشواف وسحل متهما بتهمة الخيانة لعبد الكريم قاسم !
8. قام عبد الكريم قاسم باعدام الطبقجلي ورفعت الحاج سري ومجموعة ضباط الموصل كونهم تآمروا ضد حكم قاسم، فاعدموا في ساحة ام الطبول بتهمة الخيانة .
9. عدّ فؤاد الركابي ( اصغر وزير بعثي بعد 14 تموز 1958) خائنا لعبد الكريم قاسم ( بسبب تنظيمه لمجموعة بعثيين لاغتيال الزعيم في 7 تشرين الاول / اكتوبر 1959 ، وقد وصفوا بـ ” الخونة ” ) .
10. وصف الملا مصطفى بارزاني خائنا لثورة 14 تموز وللزعيم قاسم ، كونه تمّرد عليه بعد ان وصل من منفاه ، فضربت حركته بطائرات الهوكرهنتر في تموز / يوليو 1961.
11. أعدم عبد الكريم قاسم من قبل البعثيين في حركتهم يوم 8-9 شباط / فبراير 1963 بتهمة الخيانة. ووردت تهمة الخيانة والخونة في بيان رقم 1 صباح يوم 8 شباط 1963 ، واعلن ذلك رسميا : لقد تم القضاء على “الخائن الغدّار الجبان .. ” بحضور عبد السلام عارف ومجلس قيادة الثورة .
12. وردت في حركة يوم 15 ايار / مايس 1963 عبارة ” تطهير تربة هذا الوطن وتحريره من رجس الخونة المجرمين ” في قمع انتفاضة العريف حسن سريع من قبل عبد السلام عارف واحمد حسن البكر .
13. اتهم كل من البكر وحردان التكريتي ومن معهما من البعثيين باتفاقهما مع عبد السلام عارف في 18 تشرين الثاني / نوفمبر 1963 وعدّوا خونة للبعثيين .
14. عدّ عارف عبد الرزاق رئيس الوزراء وجماعته خونة للرئيس عبد السلام عارف رئيس الجمهورية في حركتهم الانقلابية الفاشلة في 4 ايلول / سبتمبر 1965. وخونة ايضا في انقلابهم الفاشل ضد عبد الرحمن عارف في 30 حزيران / يونيو 1966 وبتخطيط من الرئيس المصري جمال عبد الناصر .
15. عبد الرزاق النايف وعبد الرحمن الداود وسعدون غيدان خانوا الرئيس عبد الرحمن عارف 17 تموز / يوليو 1968 بعد ان فتحوا ابواب القصر امام البعثيين .
16. قام الرئيس البكر وحردان وعماش بالقبض على عبد الرزاق النايف وعبد الرحمن الداود وتسفيرهما يوم 30 تموز / يوليو 1968 باعتبارهما قد خانا الامانة !
17. اتهم العديد من الساسة والقادة ورؤساء العشائر بالخيانة وعذبوا واعدموا في قصر النهاية من قبل مدير الامن العام ناظم كزار .
18. جرت عدة محاولات انقلابية في السبعينيات ، واتهم قادتها بالخيانة ، ومنهم ناظم كزار نفسه الذي قام بحركة انقلابية غامضة في 30 حزيران / يونيو 1973 واعتبر خائنا لكل من الرئيس البكر وصدام حسين .
19. وصف ملا مصطفى والبارتيين سواء قبل المفاوضات الرسمية ام بعدها بالجيب العميل لايران وخونة حتى رفع “الجفية البيضة” اثر اتفاقية الجزائر عام 1975.
20. كل الشيوعيين الذين قتلوا ولوحقوا وهربوا بتهمة خيانة الجبهة الوطنية التقدمية حتى 1979 . ( تأسست عام 1973) .
21. المؤامرة الشهيرة كما نشرت ادبياتها في الاعلام تؤكد ان عدنان حسين وكل رفاقه من الكادر المتقدم في قيادات حزب البعث العربي الاشتراكي خونة للرئيس صدام حسين ، وقد اعدموا جميعا مع السجن المؤبد لغيرهم من ( الخونة ) عام 1979 .
22. مشكلة حسين كامل وعشيرته اعتبروا خونة للرئيس صدام حسين نظرا لهروبهم الى الاردن والافشاء باسرار العراق 1995 ، وعاد الى العراق ليقتل شر قتلة عام 1996 .
23. كل من اتصّل من العراقيين بالامريكان او مؤتمرات المعارضة سواء في صلاح الدين او لندن عام 2002 ضد نظام صدام حسين عد خائنا .
24. كل من تخلّى عن النظام السابق في الغزو الامريكي ، وخصوصا من البعثيين والعسكريين ورجال الامن وهرب عد خائنا ( كما ورد على لسان الصحاف ) .
25. كل عراقي تخلى عن وطنه واصبح ولاءه لأي طرف خارجي ( وخصوصا ايران ) يعد خائنا خيانة عظمى .
تحليل الظاهرة
بعد التي واللتيا ، هذا غيض من فيض عندما نقرأ بدقة تاريخ هذه ” الظاهرة ” في العراق ، وكم نتلمس توظيفها في محلها او في غير محلها على امتداد القرن العشرين ، بل وان المثير للتساؤل أن اجد هناك ابرياء من العراقيين قدموا ارواحهم ودمائهم واعدموا او عذبوا بالصاق تهم باطلة بهم ، وان أجد خونة حقيقيين ، مارسوا الخيانة العظمى بحق وطنهم حتى يومنا هذا ، ولا أحد يدقّق في ارتباطاتهم وتجسسهم ، وكم كان هناك من قيادات ووزراء وثائرين كانوا يؤّدون مهمات خطيرة، وهم جناة خونة ولم يقبض عليهم ولا يحقق معهم وبعضهم قد فرّ الى خارج العراق ازاء من سّلم العراق على طبق من ذهب الى حثالات من الخونة الحقيقيين ليحكموا البلاد بعد 2003 كي تتمزق وتهترئ على ايديهم ..
ان تحليل هذه ” الظاهرة ” التاريخية التي اخذت لها بعدا عراقيا بامتياز تؤكد لنا بما لا يقبل مجالا للشك ان ترديد تهمة الخيانة بكثرة في كل العهود الجمهورية قد فقدت معناها الحقيقي ، وكلما زادت الكذبة قل تأثيرها او الخوف منها ، وخصوصا عن المغفلين والجهلة والاغبياء ، او أن العراق غارق بالخونة الى رأسه وقد تشبّع بالخيانة والجواسيس على امتداد زمن طويل ، فكان ان سار نحو الهاوية كما هو حاله اليوم ! والسؤال الاهم : اذا كان هناك كائنا عراقيا اسمه منير روفا قد خان وطنه قبل اكثر من خمسين سنة ، فما الذي نقوله اليوم وان العراق تحكمه الخونة والجواسيس والمليشيات الايرانية !؟؟؟
تنشر يوم 3 آب / اغسطس 2020 على الموقع الرسمي للدكتور سيار الجميل
https://sayyaraljamil.com/wp/