Home / الرئيسية / رموز وأشباح الحلقة 45 : وقفة عند مبادئ فيصل الاول في تأسيس العراق المعاصر

رموز وأشباح الحلقة 45 : وقفة عند مبادئ فيصل الاول في تأسيس العراق المعاصر

رموز وأشباح
الحلقة 45 : وقفة عند مبادئ فيصل الاول
في تأسيس العراق المعاصر
أ.د. سيّار الجميل

لقد اخترت هذا ” الموضوع ” الذي يحتاجه العراق اليوم والوعي به لمناسبة مرور 99 عاما على تأسيس العراق المعاصر دولة ومجتمعا بتتويج فيصل الاول ملكا على العراق يوم 23 آب / اغسطس 1921م ، وقد استخلصت هذه ” المبادئ ” النهضوية ملخصة من كتابي الجديد عن الملك فيصل الاول : مشروعاته النهضوية وأدواره التاريخية ” ( قيد النشر وسينشر في العام القادم لمناسبة مرور 100 سنة على تأسيس العراق المعاصر ) وهو كتاب كبير غني بالوثائق والمعلومات الجديدة ،واعتبره من أهم الكتب التي اصدرتها في حياتي . ويهمني جدا ان اتوقف في سلسلة “رموز وأشباح ” حول هذا ” الموضوع ” ، لأنني وجدت ان فيصل الاول هو الزعيم الوحيد الذي حكم العراق من خلال مبادئ فكرية وسياسية وأسس دولة لها مؤسساتها ،وصنع نسيجا وطنيا متماسكا وخصوصا ابان العشرينيات من القرن العشرين ، وقد انتج ثمار ما زرع لاكثر من ثلاثين سنة من تأسيسه للعراق المعاصر . وعليه ، فان هذا ” الموضوع ” يصلح ان يكون جوابا على تساؤل يقول : لماذا كان فيصل الاول شخصية مهمة في زمن كان يجري الحديث خلاله عن رسم الحدود في الشرق الأوسط ؟ وما حقيقة افكار فيصل الاول ومبادئه ؟ والاهم ما هي مضامين مشروعاته النهضوية وادواره التاريخية ؟

 

1/ الزعامة الحقيقية والمشروعية التاريخية : يقول ماكس فيبر بأن الزعامة الحقيقية لا تمنح بل تستمد عند من ينتصر حقيقيا في الحرب ، وقد كان لفيصل الاول مشروعيته في ان يحمل الزعامة ، اذ كان اسمه مثار اعجاب لدى جيل منقطع النظير عند العرب جميعا في ذلك الزمن ، وتعلمنا الوثائق بأن العراقيين انفسهم رحبوا به ملكا ، وان بريطانيا استجابت لهم في مؤتمر القاهرة 1921 في ان يكون فيصل زعيما عليهم بعد فشلهم في اختيار اي عراقي يتولّى امرهم وقت ذاك . ولم تكن المهمة سهلة ابدا ، ولكنه نجح في كسب التأييد لصالح أهدافه .

2/الحكمة في معالجة الترسبات التاريخية : ان العراق بات محظوظا بزعامة فيصل اذ كان خير من عالج تركة تاريخية معقدة من الرواسب العثمانية ، وارهاصات مثيرة للقلق كونها نتاج مؤامرات سياسية لكل من بريطانيا وفرنسا ؛ ناهيكم عن المشكلات الاجتماعية الصعبة التي عبرت عنها القوى السياسية العرقية والدينية والمذهبية والطائفية التي لا تزال تمارس نفوذا كبيرا في جميع أنحاء البلاد بغياب عقلية قيادية حكيمة كالتي امتلكها فيصل الاول وما اتصف به من المرونة وبعد النظر .

2/ الانتماء .. اين هو عمق العراق ؟ فهم فيصل اين يكمن عمق العراق بالرغم من كونه متعدد الاعراق تجمع كل الناطقين بمختلف اللغات ، والانتماء مسألة حيوية في تشكيل مصالحه من خلال عائلته ؟ وان قوى كبرى ثلاث تحيط بالعراق : تركية وايرانية وعربية فالعقل يقول بأن الانتماء يتوجب ان يكون عربيا . وان يكون العراق ركيزة اساسية في المنطقة او محورا عربيا قويا ومؤثرا بعيدا عن السياسات الغادرة والمؤامرات المضادة والضغوطات الدولية والمشكلات الداخلية ، بعد ان أحبط حلمه وماتت آماله .

3/ دور النخبة الذكية في بناء الدولة : لقد كان فيصل هو الوحيد الذي رسم بمعية نخبة من رجالاته الاكفاء سواء كانوا من المدنيين او العسكريين العراقيين او الوافدين العرب او المستشارين البريطانيين الذين وقفنا على المزيد من الشواهد التاريخية الموثقة التي تمنح القارئ الاطمئنان الى دورها مع فيصل في تشكيل المؤسسات الجديدة سواء في الجيش او القضاء او التشريع او الخارجية او الامن والداخلية او الادارة او الصحة او المالية او الاقتصاد او التعليم او البلديات او حتى المتاحف والمكتبات. الخ . ان تأسيس العراق لم يكن عملا هينا في البدء من نقطة الصفر ، بل كان بحاجة الى نخبة ذكية قادرة على حل المشكلات وبناء كل ما هو جديد ، وقد ثبت بأن فيصل كان “اسطورة تاريخية في تأسيس الدولة وتوحيد المجتمع ” ، وعلينا ان نعترف اليوم بدور بعض المستشارين البريطانيين وخدماتهم في العراق.

4/ احترام القانون والضبط والربط: كانت الحياة العراقية قبل فيصل اشبه بالفوضى ، مشبعة بالتمردات والنزاعات القبلية ، وتزدحم المدن بالاشقياء واللصوص ، وينتشر في البراري قطاع الطرق وفرض الاتاوات .. الخ ولم يستطع الانكليز فرض النظام بالقوة المسلحة ، ولكن انبثاق دولة عراقية بزعامة فيصل راقبنا منذ البدء كيف جرى احترام القانون وضبط المناطق الصعبة بقوة الادارة واحترام السلطة واستقلالية القضاء ، فقلّت التمردات وفرضت السيطرة حتى في المناطق النائية. واعتقد ان فيصل كان يحسب حسابا لما يحمله المستقبل بعد رحيله من تشويهات تاريخية ، فقام بكتابة مذكرته الشهيرة ، وهي الخطط التي حظيت باحترام واعجاب كبيرين نظرا لأمانتها ، فكانت الاكثر اثارة والاقوى ردا حتى الان.

6/ مبدأ عدم التمايز بين العراقيين : ان المبادئ الوطنية لا تمايز بين المواطنين ، ولا يمكن ان تجد بديلا عنها في لاعتبارات الدينية والمذهبية . ان ابقاء بعض التقاليد لا يعني الايمان بها ، بل احترامها ، خصوصا عندما تكون الدولة مدنية متقدمة ، وكان لزاما على فيصل ان يقّدم مشروعه الوطني على اي مشروع آخر ، اذ ان التمايز – كما جرى لاحقا – سيذبح المجتمع سواء كان دينيا او مذهبيا نظرا لما سيؤدي به من الانقسامات واحياء النعرات وتفسخ المجتمع ، وهذه نقطة اساسية تحسب لصالح الفكرة غير التمايزية التي ولد عليها العراق . واذا انتقد البعض اعتماد فيصل على طيف معين دون آخر ، ذلك أنه لم يجد عناصر الكفاءة متوفرة عند الجميع ضمن بناء مشروعه ، فسعى الى تسوية الامر بتخريج كفاءات جديدة .

فيصل الاول في المانيا

7/ مبدأ خذ وطالب : لما كان الجميع يدركون بأن العراق كان في حالة تأخر شديد جدا في سلّم التقدم ، وهو منغلق يخضع لشروط الاجنبي الذي بدّل سياسته من الاحتلال الى الانتداب، فان فيصل وجد ان التعامل الذكي معه لا يتم بالعناد والثورة والعنتريات ، بل بكسب المصالح واثارة الشعب للمطالبة ، واجراء المفاوضات على اساس تحقيقها ، وقد نجح فيصل في ذلك على مدى عشر سنوات بتحقيق مكاسب كبرى في التسلح وبناء الطرق والجسور واعمار المؤسسات والدينار العراقي .. الخ حتى حقق الاستقلال للعراق في معاهدة 1930 وتطبيقها عام 1932 . وقد اتبع هذا ” النهج ” من بعده نوري السعيد ..

8/ تجانس العراقيين: هناك في العراق ، واجه فيصل الاول جملة من التحديات الخطيرة والقوية ، اذ كانت حدود العراق قد رسمت بشكل مصطنع ، واقول بأن العراق كان يعيش تخلخلا سكانيا كبيرا ، فضلا عن انعدام التجانس بين السكان العراقيين اساسا وتنافرهم دوما ! لقد واجه فيصل بالفعل اخطر المشكلات وتحمّل مسؤولية “دولة” وليدة يمثلها شعب غير متجانس ومجتمع غير منسجم بالرغم من تعايشه تاريخيا منذ اكثر من الف سنة .. ان محاولة التوصل الى عقلية فيصل الاول وطريقته الذكية في حكم العراق منذ بدايات عهده وحتى ايامه الاخيرة ، وربما فات ذلك على من لم يتشبّع بثقل التاريخ الحديث لهذه المنطقة ، وللعراق بالذات ، منذ القرن الثامن عشر وحتى اليوم .

9/ الاستقلال السياسي: كان هدف فيصل الاول الاساسي طوال سنوات عهده هو ” الاستقلال” للعراق . وكانت تلك المسألة شغله الشاغل ، وقبل وفاته وهو في سن 48 عام 1933، حصل العراق على استقلاله عن بريطانيا العظمى من خلال التوقيع على معاهدة 1930 ، والتي بدأ تطبيقها عام 1932 ، ولكن بالرغم من ذلك ، فان ” النفوذ البريطاني كان كبيرا بما يكفي “لإعطاء مصداقية لمطالبة المعارضة بأن العراقيين ما زالوا عبيدا لقوة عظمى ” – كما جاء في كتاب علي علاوي – وهذا ليس بصحيح ابدا ، بدليل ما شهده العراق ابان العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين . واعتقد ان رحيل فيصل يعد حدثا مأساويا وفاجعة للعراق والعراقيين – كما وصف ذلك اغلب المؤرخين المنصفين – وحادثة انحرفت بالعراق الى مسار آخر ما كان ليسلكه لو بقي فيصل على قيد الحياة لعشرين سنة اخرى !

10/ المرونة السياسية والتفكير المدني : لقد اثبت حكم فيصل الاول للعراق ان الرجل كان يحمل تفكيرا مدنيا ديمقراطيا مرنا سمحا وعامل العراقيين بمنتهى الشفافية والمرونة ، ولم يكن مغاليا ولا متعصبا ولا متشددا ولا طاغية ولا أوحدا ولا مستبدا ولا طاغية .. وكان متقدما على زمنه كثيرا بحيث لم يوقّع على اعدام أي سياسي عراقي .. ويمكننا القول بعد قراءة تاريخه في العراق. بما جعل يسود من التسامح العرقي والديني في العراق وسوريا منذ زمن مبكر في القرن العشرين ، واتمنى على المؤرخين والباحثين في المستقبل توظيف تاريخ فيصل لمعالجة حالة العراق المعاصر ، وان يستحضر دوره التاريخي في نزع فتيل الأسباب الجذرية للعنف والطائفية والتمزقات التي كانت وراء تهتكات العراق وسوريا ، وأجزاء أخرى من الشرق الأوسط في بدايات القرن الحادي والعشرين ؟

11/ الاستنارة والمصداقية : لقد كانت لفيصل الاول مصداقيته في السياسة التي اتبعها مقارنة بما يحدث اليوم ، ذلك ان لوائح المثل العليا تعلمنا ان فيصل الأول في مبادئه وافكاره المستنيرة ومحطات سيرته الشخصية التاريخية قد سبق الجميع بمبادئه السياسية التي تستحق المزيد من الاهتمام . والتأكيد بشكل خاص أيضا على تحليل تلك ” المبادئ ” في عمل عربي رائع يشرح أصول تعامل فيصل مع الديناميات العرقية والدينية والسياسية والطائفية في كل مجتمعات المنطقة والتي لا تزال تشكل اعاقات في إعادة تشكيل الشرق الأوسط اليوم.

12/ وأخيرا أقول ، كان فيصل زعيما ناجحا في اقناع اي خصم له بما يحمل من افكار وما يثير من قضايا ، فضلا عن سياسته المرنة ويستحق ان يكون رمزا تاريخيا للعراق بالرغم من يقف ضده اليوم كونه غير عراقي الاصل وكأن كل العراقيين متأصلين ومتجذرين في العراق .. علما بأن فيصل كان زعيما عراقيا أكثر من اي زعيم آخر اذ عاش متواضعا وحريصا على دم العراقيين ، ولم يكن له من معارضين عراقيين الا فرادى، وباستثناء قضية الآثوريين – التي ساعالجها لاحقا في حلقة خاصة – والتي آلمته جدا وعاد لمعالجتها سياسيا بعيدا عن الدم . لقد كسب فيصل الاول ولاء الجميع ، وكان يدرك ذلك ، ويعدّ عهده تأسيسيا بجدارة ، واستمر العراق يتقدم حتى انتكس وعاد يتقهقر عندما لم يعد يحكمه زعماء حكماء امثال فيصل الاول .

تنشر يوم 23 آب / اغسطس 2020 على الموقع الرسمي للدكتور سيار الجميل
https://sayyaraljamil.com/wp/

Check Also

رموز وأشباح الحلقة 41 : ثورة العشرين وتناقضات الذاكرة التاريخية العراقية

رموز وأشباح الحلقة 41 : ثورة العشرين وتناقضات الذاكرة التاريخية العراقية أ.د. سيّار الجميل 1/ …