المسيحيون جزء من انثربولوجية الاجناس العراقية
هناك إبهام كبير حول جذور الأقوام العراقية القديمة نظرا لتشابكها مع بعضها البعض ، فضلا عن ندرة المعلومات التاريخية المؤكدة ، علما بأن هناك تداخلا معقّدا في تقديم كل فئة معلوماتها على حساب الأخرى .. واستنادا إلى علم الأجناس البشرية، يقول البعض بأن جذور القدماء تنتمي إلى الجرامقة في الشمال .. وهناك من يقول بأن الكلدان وآلاشوريين المعاصرين ينحدرون من سلف بابلي وآشوري وآرامي قديم، سكنوا وعاشوا لعدة آلاف من السنين في وادي دجلة والفرات وفي أعالي بلاد النهرين في شمالي العراق وسورية ( = إقليم بلاد الجزيرة الفراتية ) ، وتمكنوا عبر قرون عديدة وقبل ظهور المسيحية من فرض سيادتهم السياسية على الشرق الأدنى، مع سقوط مملكتي آشور وبابل(في القرنين السابع والسادس قبل الميلاد على التوالي) وارتقاء الميديين والبارثماتيين والفرس على الوضع السياسي (من حوالي القرن السادس ق.م إلى القرن السادس ب .م وخاصة خلال حكم سلالة الفرس الساسانيين) ، لقي السكان القدماء في العراق الكثير من المعاناة السياسية والاضطهاد الديني فيما بعد، لكنهم تحملوا التجارب ببطولة نادرة ، إلا إنهم نتيجة لتلك التجارب التاريخية القاسية ، فقدوا هويتهم العرقية – كما يقولون – وتبدد روح استقلالهم الوطنية.. كما يشير إلى المؤرخ ادورد غيبون .
وعليه انغمسوا في دوامات تيارات دينية وعنصرية وسياسية والتي اجتاحت أوطانهم لأكثر من عشرة قرون كاملة، ومع فتوحات العرب وهيمنتهم للفترة من القرن السابع الميلادي وحتى القرن الثالث عشر الميلادي، تمتع المسيحيون قاطبة بقدر وافر من الرفاهية وتطورت كنائسهم وانتشرت أديرتهم ( = دياراتهم حسب التسمية العربية ) لتصبح الكنيسة المسيحية الأكثر نفوذا في الشرق وذات ميزات سياسية ودينية شاسعة ، وان رافقتها بعض النزاعات المحلية في بعض الأحيان، بحلول القرن الثالث عشر وحتى يومنا هذا عانى المسيحيون من المآسي والاضطهاد كما هو حال أهل العراق كلهم ، وعلى يد التتر والمغول وأخيرا الحكومات التركمانية وصولا إلى الحكم العثماني .. فلقد وجدوا في المجتمع العراقي حضنا دافئا لهم ، إذ تعايشوا مع المسلمين عربا وأكرادا وتركمانا في مدنهم وبلداتهم وقراهم وأريافهم .. ووصلت قوة التعايش بين كل المسلمين والمسيحيين العراقيين إلى درجة الشراكة الحقيقية للدفاع عن العراق ضد كل ما تعّرض له من هجمات وغزوات كانت تجتاحه من الشرق .
تنبؤنا المصادر التاريخية الموثوقة عن الأدوار الناصعة التي أداها المسيحيون في العهود الأموية والعصور العباسية ، إذ اعتمدت كل من الدولة والمجتمع عليهم في الطب والتجارة والصيرفة والعلوم العقلية والترجمة والأدب والسوق والخدمات والعمارة .. الخ وتؤكد ذلك كل التواريخ التي كتبها مسيحيون عراقيون مشهورون ويقف على رأسهم المطران سليمان صايغ في كتاباته وترجماته ومقالاته . وفي كل من القرنين التاسع عشر والعشرين ، قدّم المسيحيون العراقيون أدوارا ناصعة في خدمة العراق والعراقيين ، وبالرغم من القسوة التي استخدمت لقمع حركة الاثوريين ابان الثلاثينيات في القرن العشرين من قبل السلطات ، فلا يمكن أن يتهم المجتمع العراقي بذلك القمع أبدا .. لقد احتفى العراقيون باستقبال مهاجرين مضطهدين من الأرمن النازحين ، فوجدوا أرقى أنواع الحماية بين ظهراني العراقيين ، فأسسوا كنائسهم ، وتعايشوا مع السكان ، وتقاسموا وإياهم الحياة بمحبة واعتزاز. إنني أقف في بعض المرات على حوادث قد تكون مؤلمة تحدث بين أشقياء وضعفاء ، أو بين متسلط ومقهورين ، أو بين متزمت ومتحررين في مجتمع بدأت تختلط فيه الطبقات وتضيع منه القيم ، فكان نصيب المسيحيين من ذلك كبيرا ويا للأسف الشديد ! وإذا كان المسيحيون العراقيون قد هاجر قسم كبير منهم إبان النصف الثاني من القرن العشرين نحو العالم الجديد بشكل خاص ، فليس لأنهم لاقوا من الاضطهاد وحدهم ، بل لاقى ذلك كل العراقيين ظلما وجورا ، فتهيأت فرصة الهجرة المنظمة لإعداد غفيرة من المسيحيين ما لم تتح لغيرهم من العراقيين ، حتى لحق بهم بقية العراقيين بعد العام 1991 الموجة ما قبل الأخيرة ، وبعد 2003 التي تشكّل حتى اليوم الموجة الأخيرة .
وضع شعب بلاد الرافدين خلال فترة ما بين سقوط بابل وقدوم المسيحية:
اضطربت الفترة التاريخية ما بين سقوط بابل ونينوى وقدوم المسيحية نحو العراق ، وهي غير واضحة المعالم تقريبا ، لكونها فترات حروب وتناطح القوى الساسانية والرومانية فيما بينها للاستيلاء على منطقة بلاد الرافدين الإستراتيجية، وهي فترة ثورات وتمردات من السكان الأصليين، فبعد سقوط نينوى فرّ عشرة من قواد الجيش ببعض فرقهم إلى أطراف المملكة “منطقة الرها”وشكلوا هناك مملكة عسرايا ( أي : مملكة القواد العشرة ) ، ويذكر التاريخ أن هذه المملكة الصغيرة تحالفت مرات عديدة مع الفراعنة من اجل استعادة نينوى سلطة بلاد الرافدين من الفرس، كما قامت عدة ثورات في بلاد الرافدين إلا أنها فشلت، وقد بقي بعض ملوكها حتى عهد السيد المسيح (ع) ، ومنهم ابجر الخامس الذي يقال انه راسل السيد المسيح (ع) وطلب منه أن يسكن في مدينته ، فبعد سقوط بابل بيد كورش ، لم يحاول كورش أن يحنث بوعده للكهنة، فترك لهم حرية ممارسة الشعائر الدينية والعبادة واحترم آلهتهم ، فكان أن ضمن خضوع الكهنة له خضوعا كاملا . وكان يحصل على جميع الضرائب بسهولة من خلالهم، إلا أن فترة حكم الفرس لبلاد الرافدين لم تدم طويلا، إذ أن مطامع أوروبا من تلك الفترة كانت تتجه إلى الشرق، فكانت حروب الإغريق الهيلينيين بزعامة الاسكندر المقدوني واحتلال بلاد الرافدين بالكامل وسقوط داريوس صريعا في معركة اربيلا الشهيرة عام332 ق.م ، مما انهي الوجود الفارسي في بلاد الرافدين لفترة طويلة استمر خلالها حكم اليونان الهيلينيين لهذه المنطقة.
وهناك تفسيرات متنوعة تقول بما أن بقايا رعايا الدولة الآشورية كانوا يملئون هذه البلاد ، فكان أن أطلق تسمية Assyrian على الشعب القاطن في بلاد الرافدين لعدم وجود حرف الشين في اللغة اليونانية، وحرف الشين في اللغات الأوروبية الحديثة مركب من حرفين هما “c-h” أو Sh تمييزا له عن غيره ، فعمّت هذه التسمية على جميع الفئات من دون تمييز بين فئة وأخرى ، أي بين ساكني مناطق بابل أو نينوى ، فقد تحوّل الاسم إلى ” سريان ” . وقد تطورت لغتهم الآرامية أيضا تطورا كبيرا خلال هذه الفترة من حيث النحو والتطبيق والصرف وعرفت بالسريانية . وبعد موت الاسكندر المقدوني وانقسام الإمبراطورية المقدونية إلى قسمين ، كان نصيب سكان بلاد الرافدين ضمن سلطة السلوقيين خلفاء “الاسكندر المقدوني”إلى أن جاء من تسّموا بالكاشيين في العام 250 ق.م وأسسوا ممالك مستقلة في المدائن وغيرها ، فما مضى زمن حتى قويت شوكة ملوك الفرس من جديد ، فانقض اردشير بن بابك في جيوش جرارة على سهول ما بين النهرين وارزون وبازبدي وبابل .. وظفر بارطبان آخر ملوك الفرثيين ونصب كرسيه في المدائن” .
إن التواريخ التي تبحث في حياة السريان وواقعهم الاجتماعي نادرة جدا حتى بدء الديانة المسيحية بالانتشار في هذه المنطقة ، أي في القرن الأول الميلادي، عندئذ بدا بتأريخ حوادث السريان المسيحيين في الأديرة والكنائس على الأغلب ( راجع تحليلات الاب البير أبونا ، تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية ، بيروت ، 1992) . وهذه نقطة تاريخية مهمّة أود التوقّف عندها ، إذ أن السريان – كما يبدو لي – كانت قوتهم البشرية قليلة سواء بتخلخلهم السكاني أم بوجودهم في شمال العراق عند نينوى ، وليس في الوسط والجنوب ، إذ اعتقد بأن ليس لهم أي علاقة بالمناذرة والحيرة وهم من العرب الذين قطنوا في العراق منذ مئات السنين على وجود الإسلام . كما ويبدو لي من خلال ندرة المعلومات التاريخية عن كل من السريان والكلدان العراقيين أن لا صلة حقيقية بين الطرفين لما قبل المسيحية ، وحتى بعيد انتشار المسيحية في ما بينهم ، فلقد بقي الانقسام ماثلا للعيان بين قوميتين مختلفتين : السريانية والكلدانية ، وبقيت سارية المفعول حتى في ظل المسيحية حتى اليوم .
اعتناق السريان الديانة المسيحية حتى الانشقاقات المذهبية
عرف السريان المسيحية منذ القرن الأول ، أو بداية القرن الثاني الميلاديين “ويرد ذكر الآسيريان كأوائل الناس الذين اعتنقوا المسيحية على يد مار ماري ومار أدي في القرن الأول للميلاد إلى كرخا دبيث سلوخ ( = كركوك في شمال العراق ) .وكان للاضطهاد الذي لاقاه أحفاد الاسيريان (= الآثوريون او الأشوريون ) دور كبير في البحث عن وسيلة للاحتجاج ضد الظلم الاجتماعي الذي كان يمارس بحقهم من قبل الروم والفرس الذين كانوا يتقاسمون بلاد الرافدين، فكان قدوم المسيحية – كما يقول أحفادهم اليوم – خير وسيلة لذلك، لذا انضوى جميع السريان المنحدرين من أصول الحضارة الآشورية البابلية تحت لواء المسيحية، ولأول مرة توحد ألأحفاد منذ سقوط سلطتهم الآشورية السياسية عام 539 ق.م ، وان كان اتحادهم هذا تحت صفة دينية، فأصبح للسريان الآشوريين قيادة واحدة يخضع لها الجميع دينيا ويطيعونها مدنيا فكانت هذه القيادة بمثابة إدارة دينية اجتماعية متكاملة .
ولما أصبح الرومان من المسيحيين ، كثر عددهم وازداد بشكل مخيف، فكان لهذا القرار تأثيره السلبي على السريان العراقيين القاطنين ضمن بلاد فارس حيث ذاقوا الأمرين، لان الفرس اعتبروا السريان أحفاد الآشوريين القاطنين ضمن سلطتهم عملاء لروما لاتفاقهم في عقيدة دينية واحدة مع الرومان،. وقد تخوف الرومان في الفترة الأخيرة من الإدارة الواحدة للسريان في بلاد الرافدين من ظهور قادة سياسيين يغتنمون فرص معينة لإعادة أمجاد أجدادهم الآشوريين والبابليين، وخوفا من ضياع هذه البلاد من أيديهم وللأبد! ويتابع الأحفاد يقولون بأنه قد حدثت ما تعرف بمذبحة الاضطهاد الأربعيني سنة 341م واستمرت عشرة أيام وراح ضحيتها 130 رجل دين مسيحي ،وفي سنة 345 م حدثت مذبحة أخرى راح ضحيتها 120قسا وكاهنا . إلا أن وضع المسيحيين في العراق تحسن في عهد الملك الساساني يزدرجر الاول (399-420 م) بعد أن تحقق الصلح مع الرومان . إلا أن الملك بهرام الخامس (421-438 م ) عاد إلى ممارسة اضطهاد المسيحيين في العراق موغلا في قتل القساوسة والرهبان موجها حملة دموية قاسية على منطقة (كرخ سلوخ) أي كركوك كانت نتيجتها مقتل 446 من القساوسة هناك .
الشهيدان مار بهنام واخته : المأساة الحية
كتب المؤرخ الرهاوي المجهول عن سنحاريب والد بهنام ( هو غير الملك الشهير سنحاريب ) يقول : وفي هذا الزمان سنة 359م استشهد مار بهنام وأخته سارة على يد أبيهما سنحاريب ملك آثور. وآثور في القرن الرابع ، كانت واحدة من ولايات المملكة الفارسية، وكانت عاصمتها نمرود القريبة من الموصل . في هذه الولاية وُلد مار بهنام، ولا يعرف شيئاً كثيراً عن حياته، سوى أنه كان صياداً ماهراً، وعندما كان مرة يصطاد مع رفاقه، لاح لهم أيلٌ عظيم ، فطاردوه حتى وصلوا إلى جبل مقلوب، وهناك تراءى له ملاك النور وأشار عليه بأن يذهب إلى شيخ ناسك يتعبد ويتهجد في ذلك الجبل اسمه متى، فذهب إليه وآمن على يديه بعد أن تمَّ شفاء أخته الأميرة ساره من دائها ” الجذام ” على يديه . أما والدهما سنحاريب ، فقد استاء جداً من أمر إيمانهما ، وأمر بقتلهما مع الأربعين الآخرين الذين كانوا برفقتهما.
بعد استشهادهما ظلما وعدوانا والاربعين رفيقا ، أصابت سنحاريب لوثة عقلية ، فأخذوه إلى مار متى على الجبل ، فتشافى على يديه ، فآمن بالمسيح وعمّده، فأمر سنحاريب ببناء دير لمار متى في جبل الفاف، ومعبداً لولديه بهنام وساره في موضع استشهادهما، وصان فيه رفاتهما ورفاة الأربعين شهيداً، وهو معبد الضريح المعروف اليوم بـ : الجب. وعيد مار بهنام المعروف أيضاً بـ : خضر الياس هو عيد شهير، خاصة في العراق. وبعد أن أصبح شهيداً انتشرت سيرته بين المسيحيين، وكتب كثير من الشعراء قصائد عن سيرته، وسميت كنائس وأديرة على اسمه، كما أن الكثيرين اتخذوه شفيعاً لهم، بل وحل اسمه بين المطارنة والمفارنة والبطاركة ، اذ اتخذوا من اسم مار بهنام شفيعاً ، بل وغدا اسمه أسطورة نبيلة في عموم الشرق الوسط .. وبنيت اهم الكنائس والاديرة على اسمه في بلاد الشام والموصل وماردين وجزيرة ابن عمر وتنورين في لبنان وحلب واللاذقية والقدس ، ولكن الأشهر هو دير مار بهنام قرب الموصل على سفح تلة جميلة تطل على قرية الخضر والبساطلية في نينوى، وهو دير عظيم وآهل بالسكان يعود تاريخ تأسيسه إلى القرن الخامس للميلاد، وقد بني في البدء ليكون مكاناً للمرضى وملجأً لذوي العاهات، ثم توسع البناء فيه وأخذ شكل الدير قبل القرن السادس للميلاد. وفي الجب ضريحه وضريح أخته القديسة ساره الشهيدة ورفاقهما الشهداء الأربعين.
خضر الياس : رمز عراقي صرف يجمع كل العراقيين
إن مناسبة عيد خضر الياس عراقية صرفة جمعت المسلمين والمسيحيين معا ، والى جانبهم اليزيدية أيضا .. هناك من قال أن مزاره أصله دير ، فنفى ذلك المهتمون بالآثار ، وهو يضم قبورا ، ولكنها لم تكن على هيئة قبور النصارى .. ورد الاثاريون على قول آخر يقول بأن المزار أصله لليزيدية ، إذ أن قبابه تشبه قبابهم المخروطية .. وحكموا عليه كونه مزار إسلامي .. وسواء كان إسلاميا ، أو مسيحيا ، أو يزيديا ، فإنني اعتبره عراقيا اشترك الجميع بالاحتفال به ، ووزعوا الخبز على الناس ، أيا كان مصدر الخبز .. وخضر الياس لا يعرف من هو ، إلا كونه عبدا صالحا يعتقد البعض انه ما زال حي يرزق ( كذا ) ، ويدّعي البعض مشاهدته عدة مرات على ذلك التل !
ويزار المكان في أقرب خميس من 17 إلى 25 شباط / فبراير من كل عام، حيث يعتبر يوم الزيارة عيداً للعراقيين منذ القدم ، فتتجمع المئات بل آلاف على هذا التل الذي يحترمه الجميع ويعدون أكلات وحلويات خاصة لهذا اليوم الذي يعتبر أول أيام الربيع.. وفي مزار خضر الياس عادات اعتاد عليها البعض منها: أن البناية فيها (ثقب المُراد) فإذا نوى الشخص عمل شيء ما يقف أمام الثقب ويغمض عينيه ويمد سبابته إلى الأمام فإذا دخلت إلى الثقب فإنه يحصل مراده وإلا فلا !! ويعتقد أبناء المنطقة أن هذا اليوم هو النهاية الحتمية لموسم الشتاء ومَن يزرع بعده بيوم فلن تطلع له نبتة ولا ينمو في أرضه زرع.. ويُشار إلى أن عيد خضر الياس يحتفل به بعض اليزيدية ويقع هذا العيد عندهم أول خميس من شهر شباط / فبراير وقد يصوم البعض منهم الأيام الثلاثة التي تتقدمه (الاثنين والثلاثاء والأربعاء) وقد يصومون يوماً واحداً فقط ! إن المسيحيين السريان يقولون بأن هذا العيد مقتبس من عيد خضر الياس عند النصارى حيث يسمونه (عيد مار بهنام) فكلا العيدين يقع في وقت واحد . أما الصوم الذي يصومه النصارى في هذا العيد فيسمونه (الباعوثة) ومدته ثلاثة أيام كما هو عند اليزيدية، ومن عادة يزيدية سنجار أنهم يقلون الحبوب في هذا العيد ويعملونها سويقاً يوزعونه على الآل والمعارف. والسويق هو طحين بزر البطيخ الشمام الأصفر المحمّص على النار قليلا ، ويخلط بالسكر ومسحوق السماق ، ويلهم أو يرش على الخبز الرقيق ويؤكل .
الانقسامات المسيحية
حدث الشقاق الديني المشهور في تاريخ الكنيسة السريانية عندما قدم نسطور أفكارا جديدة انعقد على آثرها مجمع مسكوني أدى إلى تحريم نسطور واتباعه (نسطور Nestorius ( نحو 380- 451 ) بطريرك القسطنطينية 428 . قال باقنومين في المسيح . وأنكر على مريم لقب أم الله . حرّمه مجمع افسس 431. أتباعه هم النساطرة ) .وكان لهذا الشقاق وهذه الحرومات دورها الكبير في تمزيق شمل وحدة السريان إلى عدة مذاهب متفرقة بل متآمرة بعضها ضد البعض الاخر ! هكذا فعل الرومان أيضا ، فانقسم السريان إلى شرقيين مركزهم ضمن السلطة الفارسية “واعتبرت النسطورية دينا لجميع السريان . والى غربيين يتواجد اغلبهم ضمن سلطة الروم وتحول بعض رجال الدين من أتباع كلا المذهبين إلى مثابة جواسيس وعملاء لكلا السلطتين ضد أبناء قومهم من أصحاب المذاهب المخالفة لهم “،وقد بقيت أحوال أبناء الكنيسة السريانية على هذه الحال بين مد وجزر، كما لاقى بعدئذ أيضا أصحاب الطبيعة الواحدة (=اليعاقبة) اضطهادا من قبل الإمبراطور يوسطينيوس الأول عام518م وكنيسة الدولة ، ولكنهم لم يهجروا الإمبراطورية البيزنطية ، وبقوا فيها كتلة ساخطة اشد السخط”. لقد انفصل اليعاقبة عن كنيسة أنطاكية اثر المجادلات حول طبيعة السيد المسيح ، وتنظمت في سوريا والعراق بفضل يعقوب البردعي الذي تسمّوا بأسمه ( القرن السادس الميلادي ) .
لقد خلق الانشقاق الديني هوة عميقة بين أبناء السريان عجز الزمن حتى الآن من محو آثارها السلبية ، وكانت سببا في شتاتهم وتمزقهم، فإنها أبدعت أذهانهم بروائع الأدب الفكري والاجتماعي شغلوا به الشرق بالكامل أكثر من ثمانية قرون متتالية، وقد التحق في ما بعد قسم آخر من السريان بكرسي الكنيسة البيزنطية وعرفوا بالسريان الملكيين (= الملكانيين ) وهي تسمية أطلقها العرب على مسيحيي سوريا والعراق من الذين خضعوا لقرارات مجمع خلقيدونيا في العام 451 م ، وهم الذين يطلق عليهم بـ ” الروم الارثودكس ” ، ولما انضم قسم منهم إلى الكنيسة الكاثوليكية وتكثلكوا في القرن الثامن عشر ، أطلق عليهم بالروم الكاثوليك، وقد تناسوا اللغة السريانية والارتباط بالتاريخ نهائيا في الوقت الحاضر تقريبا.
التصنيفات والاطياف : الملل المسيحية في العراق وما يجاوره
كان السريان قديماً قبل المسيح يسمون آراميين نسبةً إلى آرام الأبن الخامس لسام بن نوح الجد الأعلى لجميع الشعوب السامية على حد ذكر التواريخ الأسطورية . ان كل السريان قد تقبلوا دعوة الإنجيل في ولاية الكرسي الأنطاكي ، وكانت الكنيسة السريانية هذه تشمل على قسمين شرقية وغربية ، وهي تقسيمات جغرافية ، فالشرقية كانت تحت حكم الفرس ، وكانت مشتملة على بلاد الجزيرة الفراتية ، أو بلاد ما بين النهرين والعراق و يسمى أهلها بالسريان المشارقة و كان مركزها الديني أولاً المدائن حتى أواخر القرن الخامس الميلادي . وفي هذا القرن ، لما أعلن نسطور بطريرك القسطنطينية 428 م تعليمه المخالف لعقيدة الكنيسة الجامعة أنفصل عنها و أتباعه و أستقلوا بذاتهم و أستحدثوا لهم مركز رئاسة خاصة في المدائن ، ثم نقل إلى بغداد عام 762 م و منهم تفرع الكلدان الكاثوليك سنة 1553 ، وسميت بطريركيتهم ببطركية بابل عام 1713 م .
أما الغربية : فكانت تحت حكم الروم ، وهي مشتملة على البلاد الواقعة غربي الفرات ، وهي سوريا وفلسطين وامتدادا لآسيا الصغرى وتوابع بلاد الشام .. وأهلها يعرفون بالسريان المغاربة و يرأسها بطريرك أنطاكية مباشرة . وهذه أيضاً بحكم الزمان والأحداث السياسية والمكانية و المذهبية تفرعت عن 415 م ، وعلى أثر إنعقاد المجمع الخلقيدوني إلى القائلين بالطبيعتين إلى السريان الأرثوذكس الباقين على عقيدتهم بالطبيعة الواحد ، وإلى المنضمين إلى الروم الخلقدونيين أطلق عليهم في النصف الثاني من القرن الخامس الميلادي ، أخوانهم السريان الأرثوذكس بلغتهم السريانية أسم الملكيون أو الملكانيون . والملكانيون : جمع ملكي ، وذلك لأنهم تركوا إيمانهم و إيمان الآباء الأجداد السريان ، وقالوا بمقالة مرقيان ملك الروم ، كما سموهم أيضاً روماً نسبةً إلى الدولة الرومانية التي كانت تأخذ بالعقيدة الخلقيدونية ، وسموهم أيضاً (يونان) نسبة إلى سكان القسطنطينية عاصمة الدولة التي كان أهلها يتكلمون باليونانية . وهكذا أيضاً تفرع عن السريان الروم الأرثوذكس ، وعنهم تفرع الموارنة في القرن السابع الميلادي ، والروم الكاثوليك عام 1724 م .
اما في العراق ، فيقول المطران صليبا : ” فمنذ العصور الأولى برزت كنيستان فقط في العراق، هما الكنيسة الشرقية القديمة، أو الكنيسة النسطورية كما يسمونها، إلا أننا سنشير إليها هنا بالكنيسة الشرقية القديمة، والثانية هي الكنيسة السريانية الأرثوذكسية الأنطاكية التي تأسّس كرسيها في أنطاكية حيث دعي المسيحيون أولاً، وقد اتخذها البطاركة السريان مقراً لهم ومن ثم انتقل الكرسي إلى أعالي ما بين النهرين، أما المفارنة السريان فقد اتخذوا تكريت مقراً لهم والتي ذهبت لها شهرة مستفيضة كنسياً وتجارياً وهي قريبة من بغداد عاصمة العباسيين، وخضعت للمفريان الذي كان بمثابة نائب عن البطريرك: في أبرشيات فارس وأذربيجان وأفغانستان إلى جانب أبرشيات العراق، أما بين النهرين وسورية وسواهما فقد خضعت مباشرة للبطريرك ” .
انتظروا الحلقة الثالثة بعنوان : العراق والإسلام : التحدي والاستجابة
نشرت في ايلاف ، 16 نوفمبر 2010 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com