من اكبر فواجع العراق أن تختلط حالاته، ويغدو بيئة تسودها الفوضى منذ خمسين سنة! كان المجتمع يعرف حدوده قديما، لكن اختلط البدو بالحضر، لأول مرة، فأنتج شقيا متمردا. وهاجر الريف راحلا ودخيلا للمدن، فأنتج نقيضا مختنقا بعفونة الأهواء والأجواء الكريهة. وضاق المكان بأهله حتى بدا اليوم وكأنه زنزانة كريهة مضجرة. شخوص البداوة انتهت، ولم يبق الا روحها السيئة وآثارها المتوحشة. والريف ترك قلبه وهواه وروحه وحنجرته وأطواره مجردة من البشر في بيئاته الجميلة، وجاء بكل شحناته وأسلابه وأوجاعه وأحزانه. فماذا سيحصل في أعماق المدن القديمة التي كانت مقفلة قرونا طوالا ؟ تبددت روحها، وتوحشت أماكنها، وفسدت تقاليدها. انتهت روحها، ولم تعد متعايشة بين سكانها! لم يعد سكانها يعرف احدهم الآخر. لم تعد شوارعها وأزقتها نظيفة. لم تعد شوارعها وضفافها كما كانت عليه! كانت مدننا تعرف بثقافة خدمية بلدية محلية مع حراسة ومراقبة. أصبحت الشوارع مزابل، والأرصفة بسطات وأكشاك بلا ترخيص!! لم تعد المرأة تمشي وحدها في الشارع وكأنها ابنة وأخت للجميع، بل غدت فريسة للتحرش وكأنها سلة موبقات! لم يكن العسكري يمشي على هواه فثمة انضباط عسكري! ولم يتردد الملالي والمعممون إلا في أماكن العبادة! ولم يكن الباعة إلا في دكاكين ومتاجر، فالأرصفة للمارة والعبرية! كانت الشوارع نظيفة وترشها سيارات البلدية أو الأمانة بالماء عصرا ومساء! كانت الأفندية في العهد الملكي وحتى الموظفون في العهد الجمهوري يتأنقون يوميا بقمصانهم البيضاء وأربطتهم وبدلاتهم الغامقة شتاء والبيضاء صيفا. كان كل أبناء المدن (باستثناء رجال الدين) يحلقون ذقونهم كل صباح، وبعضهم صباح مساء. كانت العلاقات بين الطبقات المدينية يسودها الاحترام والإجلال والتعظيم من دون أي زيف. إذ هكذا تربّى الناس! أما الريف، فكانت له خصوصياته وتقاليده بين السكان، والتي تختلف عما هو في المدن والبلدات. إن اكبر جريمة ارتكبت في تاريخ العراق الاجتماعي، أن تعبر هذه الموجات، ليختلط السكان اختلاطا غريبا، فينتج اليوم كل التناقضات العجيبة . إذا كانت المدن تعرف سابقا اشقياءها وأرباب المشكلات فيها، فإنها اليوم لا تعرف من أين تأتيها الفاينات، وحصار المافيات، وجملة الكارهين! إذا كان نسيم القداح والرازقي وزهور الياسمين يهب عليلا في أحياء بغداد والمدن الجميلة. فلم تعد تشم اليوم، إلا روائح المزابل والقذارة ودخان البارود! أما الوقاحة، وقلة الذوق، وندرة الأدب، وهيجان الأعصاب، واستعراض الأكتاف، والصلافة والصياح، وسماع السباب والشتائم المقذعة (حتى في حق رب العباد). فهي بديل ما كان يتهادى لأسماعنا من أنغام موسيقى، وطرب المقاهي. أو هدير قطار، أو غناء سليمة باشا! وهناك في الريف بدوره، انتهت الأطوار، وذبلت المزارع، وحلّت الكآبة، واحتضر النخيل.
إن ضمير العراق يحمل جراحا هائلة لأولئك السكان الذين لعبت بهم المقادير، وكان المجتمع برمته ضحية للأفكار المجنونة التي لاكتها الدولة لأكثر من نصف قرن، فاهلكوا أهواء الريف الجميلة وجعلوا مدننا محطات فجور لا تجد فيها إلا رهبانا مرتعبين، وجياعا معذبين، وسفلة وقوادين، وقتلة مجرمين . فيا أيها العراق المنكوب، ليس أمامك إلا المستقبل كي تولد من جديد بتقاليد عراقية جديدة لا علاقة لها أبدا بما مضى من الأزمان.
نشرت في مجلة الأسبوعية ، 5 ابريل/ نيسان 2009 .
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)
ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …