إن الشعب العراقي يعاني اليوم من حصيلة ارتداد تاريخي كبير، ربما كان الثقافي معلما من معالم التشظيات الاجتماعية والصراعات السياسية. المجتمع العراقي منقسم على نفسه بعدما عاش متعايشا في التاريخ. انه اليوم مفكك باسم المكونات التي تؤسس للتمايزات، أو يتم التعامل بانقسام بين اكثريات وأقليات على حساب الوطنية الموحدة. ولولا التماسك الجغرافي للعراق نفسه لا لأهله، لأصبح العراقيون شذر مذر! إن جغرافيته هي التي تقف حامية للعراق منذ القدم! إن ما حدث هو ثمرة نضوج مكبوت لتمزقات كانت موجودة، لكنها غير معلنة على الملأ. كانت مخفية، وقد أذكتها سياسات القمع السياسي، أو السلطوي أولا، ثم ممارسات اجتماعية بليدة بين العراقيين أنفسهم ثانيا.
الارتداد الثقافي هو محصلة أكيدة لأوضاع اجتماعية يعيشها المجتمع العراقي منذ نصف قرن. أوضاع اجتماعية يحس فيها أبناء المجتمع بعدم العدالة. بالتفرقة. الإحساس بالتهميش. القرف من الدولة (هذه الحالة ملازمة للعراقيين منذ العهد التركي). اضمحلال المواطنة. الشعور بالمهانة. الكبت الاجتماعي. الكبت السياسي. انعدام الحريات. نمو الإجرام وتعاظم الخروقات. الإحساس بالاضطهاد. فوبيا الخوف والرعب. الشعور بعدم جدوى المستقبل، بعدم جدوى الحياة أصلا. الاستخفاف بالقيم الحضارية، والأخطر هو الاستخفاف بالعراق نفسه ووجوده. الهروب إلى العشيرة. والطائفة والعائلة والمدينة، الخ…
إن من مهامنا الأساسية اليوم زرع الثقة في نفوس أبناء الشعب العراقي، بحيث يطمئن كل عراقي الى الآخر، بل ويتفاهم معه ويتعايش مهما اختلفت بهم الأفكار والاتجاهات. إن العراقيين في حاجة أيضا إلى برامج تربية مدنية بحيث تخلصهم من التعّصب والتطرف والتزام المواقف الحيادية، وتعلمهم كم نحن في حاجة إلى العراق موحّدا كي يغدو على أيدي شعبه مشروعا حضاريا في مركز هذا العالم. إن حالات الارتداد الثقافي التي يعيشها العراقيون مصدرها جملة من العوامل السياسية والاجتماعية، ذلك أن كلا من الدولة والمجتمع لا بد أن يسهما معا في إعادة بناء اللحمة العراقية سواء من خلال القوانين والتشريعات الرسمية، أو من خلال الأفكار والتربويات. أربعون سنة من الارتداد الثقافي تكفي، كي يعيد العراقيون تشكيل مشروعهم الثقافي من جديد. وما ذلك عليهم ببعيد!
الأسبوعية، العدد 63 ، 15 /3/ 2009
تنشر على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com