الرئيسية / النقد السياسي والتاريخي / قليلا من جماليات اللغة والثقافة العامة

قليلا من جماليات اللغة والثقافة العامة

يبالغ البعض في إسهابهم وإطنابهم ولغوهم وعجمتهم، كتابيا وشفاهيا، وكثير منا اليوم لا يميلون إلى النقد والتدقيق والاختزال.. والاخطر ، انهم يتناقلون المفاهيم والنصوص والتعابير من دون التأكد من معانيها الحقيقية . ولم تزل الاذهان تعد الاوهام حقائق بعيدا عن المعرفة العامة والأخطر أن هؤلاء يتناقلون المفاهيم والنصوص والتعابير، من دون التأكد من معانيها الحقيقية، وكثير من الأخطاء يرتكب من دون أي شعور بالنقص. بل وتستنسخ المعلومات كأنها حقائق وما هي كذلك أبدا. إن الأخطاء كبيرة في الثقافة العامة جراء تداولها، حتى عند معظم الساسة والمثقفين والكتاب والإعلاميين، مع صمت العلماء والمتخصصين والمجمعيين.
إن مصطلحات ومفردات غدت تستخدم إعلاميا وسياسيا، وحتى أكاديميا، في حياتنا اليوم من دون أية تصويبات ولا نقدا وملاحظات.. والحال مفضوح بتدمير جماليات اللغة والمعارف العامة، فنجد عربية هزيلة عند مسؤولين ووزراء وسفراء ومديرين، بشكل يثير الاشمئزاز والقرف. وهي أزمة تخلف ثقافي ومعرفي تعيشها مجتمعاتنا العربية في غالبيتها. وهي قضايا معيبة لو جاءت من أناس عاديين، فكيف تحصل عند مثقفين ومسؤولين وأكاديميين؟ ويعود السبب أساسا إلى ضعف التكوين الأولي في المدارس والجامعات، وبشكل محزن على امتداد خمسين سنة مضت!
إن ما نسمعه أو نشاهده أو نقرأه، يثير النقمة حقا. وعلى الرغم من نداءات المخلصين إلى تصحيح الأحوال مرارا وتكرارا، لا توجد أية استجابة، بل أصبحت الناس لا تهتم بما هو صائب وصحيح، ولا أحد يقبل أن يصحح منطقه أو أخطاءه أو لغته أو معلوماته. ذلك أن أكثر من جيل عربي قد تربى تربية خاطئة مع انتفاء النقد وضحالة المنهج وضعف القدرات.. إن توظيف المعرفة العامة من أخطر المهام التي لا يمكن تمرير خطاياها ببساطة، كونها تتطلب الدقة والتحري والتأكد من الحقائق قبل إطلاقها، بل ولا يمكن الاعتماد على كتابات ثانوية لا يعد كتابها من المختصين الحقيقيين.
لقد جنى على ثقافتنا العربية مسؤولون ومعلمون وكتّاب وإعلاميون، بإطلاق أحكام أو بث خطابات أو استخدام مرادفات وتعابير غير حقيقية استخدمها الناس ببلاهة، فشاعت الأخطاء وتفشت عندهم وكأنها حقائق! ينبغي أن يتعلم الناس أن وجهات النظر شيء، والمعلومات شيء آخر.. علينا أن نعلمهم أن الاختلاف يحدث في تباين وجهات النظر، ولكن لا يمكن أن نجادل على معلومات ثابتة أو مفاهيم وتعابير مؤكدة. وربما يحدث خلاف حول معلومات غير مؤكدة، فيحكم العقل والمنطق للفصل فيها.
دعوني اعرض عليكم بعض الامثلة عن اخطاء اصبحت متداولة في الحياة الثقافية والسياسية العربية من دون اي شعور بالتقصير ، فعلى سبيل المثال لا الحصر : سمعت مسؤولا عربيا كبيرا قبل يومين يقول : ” اننا ننتقل من عصر الى عصر ” من دون ان يعلم المعنى الحقيقي لمصطلح العصر Age ، والصحيح القول ” الانتقال من عهد الى عهد آخر ! والمشكلة ان كاتبا مثل حسنين هيكل قد اخطأ في ذلك منذ ثلاثين سنة في وصفه عصر السادات ! وهناك مسلسل تلفزيوني يعرض اليوم بعنوان “نابليون والمحروسة”، يحكي قصة احتلاله للقاهرة، ولكنه – للعلم – تسمّى بـ ” نابليون” بعد أن غدا إمبراطورا لفرنسا، وكان اسمه عند غزو مصر بونابرت فقط! وبغداد يتغنى البعض باسمها القديم “دار السلام”، وهذا خطأ كبير فاسمها الصحيح “مدينة السلام”، اما دار السلام فيقصد بها عاصمة تنزانيا! وخطأ تسمية محمد علي باشا باسم محمد علي الكبير، فذلك خلط بينه وبين علي بيك الكبير الحاكم المملوكي الذي حكم مصر في القرن 18، بينما حكم الأول مصر في القرن 19! والعالم كله يسمي البحر المتوسط، والعرب يصرون على تسميته بالبحر الأبيض، تمثلا بالتسمية التركية القديمة له التي لسنا بحاجة إليها اليوم، علما بأن هناك بحرا يسمى بالأبيض شمال روسيا! وللمدارس تلاميذها، أما المعاهد والجامعات فلها طلبتها. ولا يجوز الخلط عربيا بين تلاميذ وطلبة!
وعادة ما يسود الخلط في استخدام مصطلحات كالأمة والدولة والوطن، فالأمة للناس، والدولة للمؤسسات، والوطن للأرض! وكثيرا ما يطلق على الدولة العثمانية دولة الخلافة، وهذا خطأ تاريخي، فهي سلطنة عثمانية، ولم تكن دولة خلافة أبدا إلا في نهاية حياتها التي دامت أكثر من ستة قرون! وكثيرا ما نسمع بعض السياسيين والمثقفين يقولون “القوانين الدولية”. وهذا خطأ شائع، فهناك قانون دولي واحد فقط! وكثيرا ما يلتبس الأمر حتى على المختصين فلا يميزون بين “الشرق الأوسط” و”الشرق الأدنى”، والفرق بين الاثنين كبير جغرافيا، فالأول يقصد به منطقتنا الممتدة بين باكستان وإيران والمشرق العربي وتركيا ومصر، أما الثاني فيقصد به الشرق القريب لأوروبا الغربية، وهو الذي يؤلفه البلقان واليونان وتراقيا وبلغاريا..
ولقد عمّ استخدام مصطلح “الإشكالية” على “المشكلة” عند الجميع، دون معرفة الفرق بين المرادفين، فـ”المشكلة” قد تكون قائمة بذاتها، أما مصطلح “الإشكالية” الذي نحت مطلع الثمانينات، فيعني ما يمكن إثارته من قبل أي إنسان من إشكال معين! هذا غيض من فيض لا يمكن تخيل حجمه، وهو يعلن عن تخلف فاضح في مستوى الثقافة العامة لدينا.
إن المعرفة العامة مطلوبة أساسا، ولا يمكن أن تبقى هكذا أحوال مأساوية مسيطرة ومتفاقمة، فاللغة العربية يذبحها أبناؤها أمام الملأ دون أي حياء، والمعرفة العامة منتهكة في مجتمعاتنا بلا أي علاج.. وستزداد الأمور سوءا بفعل التدهور الحاصل في تربية أبنائنا لغويا ومعرفيا.. نحن لا نريد أناسا يأخذون مجتمعاتنا نحو الضحالة والتخلف، إزاء قوة مجتمعات أخرى في هكذا أسس حقيقية لتربية الأجيال.

نشرت في البيان الإمارتية في 7 آب / اغسطس 2012 ،
http://www.albayan.ae/opinions/articles/2012-08-07-1.1703367
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيّار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الأولى والثانية)

الحلقتان الاولى والثانية اولا : تاريخ نضالات أم صفحة خيانات ؟ 1/ مقدمة : أهداني …