يعيش العرب اليوم مخاضا تاريخيّا صعبا وتحولات مصيريّة، وكثيرا ما أقول بأن جيلنا الجديد المخضرم بين قرنين، يشهد تجربة تاريخيّة فريدة سيؤسس من خلالها تراكيبه القادمة على امتداد القرن الواحد والعشرين.. سألتني إحدى طالباتي السابقات، وهي اليوم أستاذة جامعية متميزّة، قائلة: لديّ أسئلة صعبة، وأنا أتوقّع منك وضوح الإجابة وقوة العبارة وجلاء الرؤية.. لقد ذكرت قبل عشرين سنة، أننا كعرب لم نصنع تاريخنا المعاصر بأيدينا ، فماذا تقول اليوم؟ هل هناك مخفيّات لما تريد قوله عمّا لم يكشف حتى الآن؟
شكرتها وأجبت قائلا: لقد عشنا تاريخا معاصرا وسط عالم تسلط فيه الأقوياء على الضعفاء، وتسيّد فيه الجهلاء على العلماء، وتغنى فيه المجانين على حساب العقلاء.. الأغبياء يجمعون كتب تاريخ منمقّة ومطرزّة ومزينّة ليتباهوا بأغلفتها دون ان يقرؤوا منها شيئا، بل إنّهم صفقوّا للطغاة وخدعوا طويلا، وهم في ظلّ مؤامرات وانقلابات ! وإننا لم نزل نشهد وندرك أن هناك من يقدّس أكاذيب الأنظمة الجائرة، ولا يريد زحزحة تفكيره بالوعي واستخدام العقل.
لم يزل هناك من يصفّق للمستبدّين والطغاة وقتلة الأطفال والنساء والشيوخ .. لم نزل إزاء بنية كهنوتيّة من الذين وجدوا أنفسهم فجأة في مكان غير مكانهم وفي زمان غير زمانهم، وهم يصفون أنفسهم بأسمى الصفات.. إنهم طبقة ماكرة مضللة تشعرك بالغثيان، وهي تتنطع بالشعارات الميتة، وتخفي نوازعها الباطنية ، وتنعدم منها المشاعر الإنسانية، ولا تفقه سنن الحياة والتاريخ التي قتلتها الأنظمة السياسيّة والاجتماعيّة البليدة. اليوم، وفي خضم تحوّلات التاريخ ومخاضه الصعب، سينبثق تفكير جديد لا يدركه الذين ليس لهم إلا الخضوع والتصفيق وترديد المقولات الخاطئة!
اليوم سيكبر الوعي عند الناس ليشعروا بأن حقائق الأمور لا بد أن تعرف كلها، من دون أيّ استسلام لما يريده نفر معيّن من الانتقائيين والجهلة وحملة الصولجانات، الذين لا يريدون الكشف عن كل مخفيّات القرن العشرين وأسراره، خوفا ورعبا من إرادة الناس! اليوم لم يعد من طريق أو خيار إلا إعادة النظر والتفكير في تاريخنا المعاصر، الذي مورست فيه كل البشاعات.. اليوم لم يعد هناك متنفس للانقساميين والطائفيين كي يلعبوا كما يشاؤون تحت واجهات ومسميّات شتى !
اليوم ننتظر ولادة نخب جديدة تترك سلوكيات الماضي لتمارس سلوكيات جديدة، بحثا عن الحريات وتكافؤ الفرص والعدالة والعقل.. اليوم رحلت قوى الماضي الطاغية، وحتى إن حلّت بدلها قوى طاغية أخرى، فلن تكون لها القدرة كي تمارس سطوتها كما كان يفعل سابقوها! إن مجتمعاتنا اليوم لا تريد تاريخا يمشي على عكازات مكسّرة كما جرى في القرن العشرين، بل تريد إيضاحات، وجلاء مواقف، ومشاركة سياسية بعد أن عاش كل مجتمع عربي تجربة الآخر بكل دقائقها، مسجلا حضورا تاريخيا متماسكا.
إن مجتمعاتنا التي كنّا ننعتها بالكسل والرضوخ والاستسلام، قد أثبتت للعالم أنها حيّة وأبيّة ومتماسكة ومرتبطة بقضاياها حتى الرمق الأخير، كما منحت الآخر الذي مارس ضدّها كل أساليب التوحّش صورة لصمودها واحتمالها الجَلَد، مع التصاقها المدهش بالأرض والمبادئ والقيم الحية .. وسيأتي اليوم الذي يقف فيه الأحفاد بعد عشرات ومئات السنين ليقولوا كلمتهم في حاضرنا، وسيفخرون بما تحقّق من صفحات ناصعة وما سطرّه الشرفاء من كلمات الحرية ومطالب العدالة . ربما نتشاءم من حدوث تناقضات جديدة في السنوات القادمة والمستقبل المنظور، خصوصا مع تفاقم مشكلات وتصفية حسابات لا يمكن إيقافها، ولكن مستقبلنا البعيد سيكون منقطعا بشكل نهائي عن كل موروثات القرن العشرين، كما أتصوّر..
لقد حمل تاريخنا المعاصر في القرن العشرين جملة موبقات عبر مراحله وعهوده واجياله ، وبالرغم من القفزات والمنجزات التي تحققت فيه ، الا ان القرن الجديد سيشكّل حالة تاريخية جديدة ، وآمل ان تتقدّم شعوبنا ، وتأخذ بزمام التسارع التاريخي بعد ثلاثين سنة من اليوم . لقد مرّ أكثر من مائة سنة على ولادة أفكار ومناهج وإيديولوجيّات.. ولكن يبدو أن العرب لم يوفّقوا في تطبيق سبل الحداثة والتقدّم، بفعل سطوة التفكير القائم والذهنيّة المركبّة وصراع المستويات، وفقدان الوعي وسطوة السلطات وجور الحكّام وركام التناقضات! إنني أجد اليوم شعوبا لها القدرة والجرأة على أن تفصل بين الماضي والحاضر. لقد مرت عشرات السنين وتاريخنا المعاصر يمشي على عكازات مكسّرة، ولا يثير أية إشكاليات أو معالجات لأية مشكلات.. اليوم نجح الناس في الكشف عن ذواتهم الحقيقيّة، وكانت لهم الشجاعة الكافية لكي يرسموا خطّا جديدا موحدا بصنع تاريخ جديد لهم، ولم يعودوا يعتمدون على غيرهم في صنع مصيرهم.
لا بد أن تدرك الأجيال اليوم أن تاريخنا ليس كلّه مزدهرا وعظيما، ولكن مجتمعاتنا لم تعد كما كانت، ولم يعد الإنسان يصفق ليعيش هذا ويسقط ذاك، أو يصمت على الموبقات! إنه اليوم يسجل ملحمة تاريخيّة رائعة وهو يواجه أقسى الظروف.. اليوم يوقع الطغاة على نهاياتهم البائسة جرّاء ما مارسوه من استبداد وجور وقمع اليوم سجلت المرأة العربيّة أسمى مواقفها وأروع قدراتها.. اليوم سجل الأطفال العرب أنفسهم قوة مدهشة في ضمير التاريخ.. اليوم لا يمكن أن يحتكر التاريخ لنفسه أي زعيم أو أيّة عصابة أو حزب، فالتاريخ بدأ يمشي على رجليه لأول مرة، بعد عشرات السنين.
نشرت في البيان الاماراتية ، 24 تموز / يوليو 2012 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …