تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، ونحن نبدأ تاريخا جديدا يحمل كل أضغاث العقود الماضية والسنين العجاف. ولكن هل يمكننا المطالبة بلائحة أخلاق نادى بها النهضويون الأوائل قبل مائة سنة؟ هل بإمكاننا الاستفادة من لوائح أخلاقية لدى الغير حتى نتلمس خطانا نحو المستقبل؟
لم ألق أحدا من العقلاء المستنيرين ، أو التعساء الحقيقيين، إلاّ وهو يتشكّى من مجتمعاتنا وضعف أخلاقياتها، وكأنّ الناس أصبحت وبالا على بعضها في زمن مضطرب على أشدّ ما يكون من الاضطراب، وهناك من يدافع عن شعوبنا بشكل عاطفي محموم، ولكنه يقضم نصف بني جلدته، أو ينفي وجود من يخالفه في الدين، أو المذهب، أو العرق، أو اللغة..! وهناك من يهرب من هويته الحقيقية ليتمسّح بهويّة أخرى، وهناك من يهرب فهو ضائع أو مغترب في دواخله المعقدة.. وهناك من عميت بصيرته، إذ لا يرى إلا نفسه.. بل ولا يجد إلا الزقاق الذي خرج منه، أو يتنطّع باسمه، أو يتفاخر بعشيرته، أو يتغنّى بطائفته! وهناك من يخرّب كل الأشياء جرّاء سخطه المضطرب السياسي أو الاجتماعي، من دون أي إحساس أو شعور بممتلكات وطن أو مال عام! الفساد يضرب أطنابه في بلداننا بشكل غير معقول.. والكلّ يتفاخر بدينه أو مذهبه أو عاداته وتقاليده.. والجيّد عندنا يقصى بسعر السيئ، وكل مبدع يضطهد، وكل كفؤ يحارب، وكل منتج يهمّش.. وهلّم جرا.
لا بدّ من لائحة أخلاق عربيّة تتربّى الأجيال عليها، أسوة ببقيّة المجتمعات الحيّة التي تعّد “الأخلاق” عنوان تحضرّها ورمز حياتها المتقدمّة.. لا بدّ من نقد مجتمعاتنا وأحوالها اليوم في خضم متغيرّات بلداننا، وما اجتاح مجتمعاتنا من مآس وكوارث لا يمكن تحمّلها. لندع الأوهام جانبا بأنّ فلانا سيصلح الأوضاع، وأنّ علانا سيوصلنا إلى برّ الأمان، وأن “الثورة” ستلحقنا بالركب العالمي، وأن “الديمقراطيّة” ستوفر لنا التقدّم.. وأنّ هذه الزعامة أو تلك وراء وحدة الوطن، وأن القائد الضرورة سيحرّر الأمة، وأنّ الربيع العربي سيخرجنا من الظلمات إلى النور.. وأن الرئيس العلاني سيبقى يعيش على جماجم شعبه ويتلذّذ بشلالات دمائهم.. الخ. لم نجد أحدا اليوم يدعو إلى لائحة أخلاق تحكم علاقاتنا مع أنفسنا ومع الآخرين، باستثناء مفكّر عربي قدير سيصدر عمله بعد أيام، وسأكتب عنه بحول الله. إنّ تاريخنا كان مزدهرا بثوابت قيم وتصرّفات وآداب وحسن معاملة وتهذيب ومصداقيّة ونزاهة وانتظام، وروعة معاشرة وتقديس عمل وألفة ومروءة ونخوة وتعايش وحسبة.. الخ، فأينّ هي اليوم كما وردت في أحكام وحِكَم عظمائنا القدماء؟
إنّ أسئلة لا حصر لها تبحث عن أجوبة حقيقية إزاء صمت الضعفاء، أو هيجان المتعصبّين، أو مناورات المنافقين، أو تفاهات الساذجين.. ينبغي أن يحدّد كلّ منّا جوابه على أسئلة مفروضة علينا جميعا منذ خمسين عاما: لماذا نتشدّق بالأمجاد، أو نستعرض العضلات، أو نتباهى بهذا الشكل أو ذاك، ونغفل الجوهر والمضمون؟ لماذا الأخلاق السيئة في المعاملة اليومية؟ لماذا مداهنة السلطة زيفا ووصولية وانتهازية؟ لماذا الإصرار على احتكار “الرأي”؟ لماذا كلّ هذا الفساد؟ هل تبقّى شيء اسمه “كرامة” كما كانت في الزمن الجميل؟ لماذا أصبحت القيم الرائعة عند البعض خزيا وعارا وشنارا؟ ولماذا تضطرم العقائد والفرق والملل والنحل والمذاهب والطوائف والأيديولوجيات سياسيا، بحملات محمومة على حساب المبادئ الأخلاقية والوطنية والإنسانية؟ لماذا تتغلّب العواطف الساخنة كي تعبث بموضوعيّة الأشياء؟ لماذا تبعدنا نزعاتنا الذاتيّة عن عقلنا وتفكيرنا أو يقذفنا تعصبّنا وتطرفّنا جرّاء انقساماتنا، بعيدا عن إنسانيتنا ومروءتنا وأخلاقياتنا وقيمنا الدينية الحقّة، بل وآدميتنا؟ اين النخوة ونحن نرى كيف يذبح الاطفال ؟ وكيف تشرّد النساء ؟ وكيف تقصف الناس ؟ وكيف يقتّل الابرياء .. ؟
نعم، إنّ من يقرأ صورة الناس في العلن يجدها الأفضل بمعسول الكلام، ولكن من يذهب عميقا معهم سيجدها وكما فعلت بالناس نوائب الزمن وتردّيات الحياة؛ بقايا منغلقة ومظاهر هشّة من حياة متوحشة، أو كراهيّة معمقّة ونفسيّات مركبّة، بفعل أمراض متوارثة.. نفسيّات كانت مؤهلة لأن تكون متضامنة ومتقدمة ومنسجمة ومتلاقية ومبدعة، لولا أوبئة التاريخ واستشراء عدواها، وسوء التربويات، وقسوة السلطات وتمايزات المجتمعات، والملاحقات والاضطهادات والظلم والتهميش، وما بقي من عادات سقيمة لا تستقيم كلها والضمير الحي وكل لوائح الأخلاق.. من يقرأ ما جرى في القرن العشرين في حياتنا من تصادمات بين ثقافات المدن والريف والبداوة، سيجد أن الخلطة لم تستقم أبدا، جرّاء كلّ ما حدث من اختلاطات وأضداد وتخندقات وانقسامات سببّت كلّ المعاناة..
والسؤال المهم الذي نطالب دوما بالإجابة عليه: لماذا لم يزل البعض في مجتمعاتنا يتعلق بإرث الماضي العقيم وببعض شخوصه تعلقّا مازوشيا بحيث غدت القبور والاضرحة مصادر لكلّ مشاكلنا اليوم ؟ ولماذا نكئت الجروح وتورّمت القروح عن قصد وسبق إصرار؟ إن التقيّحات التاريخيّة تتراكم اليوم متورمّة في الأحشاء العربيّة لتدمّر كلّ مصيرنا.. وعليه، فإن بقيت الحال والأحوال هكذا طويلا، فسيكون الأمر صعبا وسيجرّنا جميعا نحو الهاوية. إننا الآن أحوج ما نكون إلى “لائحة أخلاق” موحدة تجمعنا معا لإدامة حياتنا والتطلع الى بناء مستقبل زاهر.
نشرت في البيان الاماراتية ، 20 نوفمبر / تشرين الثاني 2012 .
http://www.albayan.ae/opinions/articles/2012-11-20-1.1770318
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
الأغلبيّة والأقليّة.. تصويب مفاهيم خاطئة
كان من أبرز الأمور التي خرج بها مؤتمر “الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي”، الذي انعقد في …