الحلقتان الاولى والثانية
اولا : تاريخ نضالات أم صفحة خيانات ؟
1/ مقدمة :
أهداني مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت كتابا نشره مؤخرا بعنوان ” الحوار العربي ـ التركي بين الماضي والحاضر ” ، ويتضمن بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها المركز المذكور مشكورا برفقة المؤسسة العربية للديمقراطية ومركز الاتجاهات السياسية العالمية ( جي بي او تي ) في استانبول التي انعقدت فيها الندوة المذكورة للمدة 21- 22 تشرين الثاني / نوفمبر 2009 ، وقد كنت احد المشاركين فيها بورقة علمية عنوانها : وجهة نظر عربية في مسألة الهوية بين تركيا والوطن العربي ” والتي عقّب عليها الزميل العزيز المؤرخ الدكتور وجيه كوثراني .. ولقد قدمت الورقة المذكورة وقدم التعقيب عليها .. ثم جرت عدة مناقشات حولها ، وقد قمت بالرد على السادة المناقشين ، وهم كل من الدكاترة : علي محافظة ومنذر سليمان ومحمد عبد الشفيع عيسى ومحمد نور الدين والسيدين فهمي هويدي وسعد الدين العثماني والمؤرخ التركي غونير اوزتيك . ولما كان المركز له تقاليده في نشر اوراق الندوات وكل التعقيبات وكل المناقشات منذ ان اختط له مشروعه الفكري والمنهجي منذ قرابة ثلاثين سنة في نشر ابحاث الندوات والمؤتمرات ، فان مقرر الندوة يطالب كل السادة المناقشين بعد انتهاء كل جلسة ، ان يقدموا اليه ما قالوه شفويا في كل جلسة ، ويكتبوه في اوراق تحريريا ، حتى يقوم بالحاق تلك النقاشات بالورقة كي تنشر كاملة ضمن اعمال الندوة ، كما هو الحال في كل الاعمال الرصينة التي نشرها المركز منذ ثلاثين سنة .. ولما كنت قد قدمت ردي على السادة المناقشين في الندوة المذكورة ، فقد طلب الاخ المنظم مني ايضا كتابة ما قلته من رد حتى يلحق في نهاية المناقشات ، وهكذا فعل ..
2/ لماذا هذا النقد التاريخي ؟
لقد فوجئت وانا اتصفح هذا ” العمل ” ان بعض السادة المناقشين قد استغل هذا ” التقليد ” ، لكي يكتب انتقادات وآراء وجملة اتهامات لم يتفوه بها في الجلسة حتى ارد عليها شفويا في الحين نفسه ، ولكنه قدمها الى الاخ مقرر الندوة ، وذلك عن نية مبيتة كي تنشر في الكتاب .. وهنا اطالب الاخوة الافاضل في مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت ، ان يراجعوا تسجيلات الجلسات ليتأكدوا ان ما نشر في نقاشات البعض حول ورقتي لا وجود له في الجلسات ابدا .. ولقد استخدم – هنا – اسلوب المواربة عن قصد مبيت ، فانني أنّبه الاخوة الافاضل في المركز الى ان هذا الاسلوب بعيد تماما عن الامانة العلمية ، بل بعيد جدا عن الروح الادبية .. واتمنى ان لا يتكرر في ندوات اخرى ..
وعليه ، فانني هنا ارد على بعض الاراء والانتقادات والتجاوزات والاتهامات والاخطاء التي لم اسمعها في الجلسة التي القيت فيها ورقتي المذكورة .
3/ الرد الاول : في الرد على د. منذر سليمان
بلغ عدد صفحات مداخلة د. منذر سليمان على ورقتي في مناقشته ثلاثة صفحات ونصف الصفحة من الكتاب المذكور ، واغلب ما كتبه هنا في مداخلته ، لم اسمع به في الجلسة ابدا ، وهذا التفاف واضح ومتعمد على التقاليد العلمية . وكنت اتمنى ان يواجهني الرجل بذلك في الجلسة ، او ينشر نقده ضدي في اي مكان يراه لاطلع عليه وارد عليه ان كان يستحق ذلك .. اما ان يتبع هذا الاسلوب فهذا لا يمكن قبوله ابدا !
3/1 الحيادية والمعرفة
ينتقدني د. منذر سليمان بعد ان يصف ورقتي بعدم الحيادية ، بقوله : ” حبذا لو حفلت ورقته بمراجعة نقدية جريئة للمرحلة الانتقالية من الهوية العثمانية الجامعة للعرب والاتراك وغيرهم ، التي أدى ضعفها الى نمو الشعور القومي لدى معظم الشعوب المنضوية تحت لواء الدولة العثمانية ، وبدلا من تحميل الامبراطورية العثمانية كل اوزار الفشل العربي في تحقيق آمالهم القومية ، ان تتم جردة حساب بكل صدق وتجرد للخيارات والسياسات والمواقف التي اتخذتها النخبة العربية المتنفذة حينذاك ، التي سهلّت جعل ” لواحق الامبراطورية العثمانية العربية ” مجالات للنهب المنظم والتبعية للاستعمار الاوربي من ذلك الوقت ” ( ص 371-372) .
هذا الكلام لم يقله صاحبنا في الجلسة ، وقد جادلني واتهمني بعدم الحيادية ، وطالبني بالصدق والتجرد .. هكذا ببساطة متناهية من دون ان يقرأ ويطلع على كل اعمالي في تاريخ العرب الحديث وتاريخ العلاقة العربية العثمانية ، وايضا الفصل الاول من كتابي ” العثمانيون وتكوين العرب الحديث ” المنشور ببيروت عام 1989 ودراستي مختلف الاتجاهات العربية من التاريخ العثماني .. انه يعلمني الحيادية ، وهو لم يقرأ كما يبدو ما نشرته منذ ثلاثين سنة في تاريخ الدولة العثمانية من بحوث ودراسات بالعربية والانكليزية . ان حياديته تعني اتهام العرب والنخب العربية المتنفذة كما يقول بتسهيل امر الاستعمار ، وكأن استعمار الجزائر وعدن ومصر وليبيا وتونسي والمغرب .. حصل ايضا بفعل النخب العربية وخياناتها لقضيتهم ؟؟
انني لا اعرف ما تخصص د. منذر سليمان ؟ هل كتب شيئا في التاريخ الحديث ؟ هل قرأ طبيعة الدولة العثمانية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ؟ هل نشر شيئا عن طبيعة المجتمعات العربية ابان العهود العثمانية ؟ هل ادرك خصوصية علاقة كل منطقة بالاتراك العثمانيين ؟؟ هل اشرف على رسائل واطروحات اكاديمية .. بل هل القى محاضراته في اقسام التاريخ بجامعات معروفة ؟ حتى يجعل من نفسه استاذا علينا ؟ اذا كان يريد ان يلوي الحقائق التاريخية لاغراض سياسية مبيتة ، فليلعب لعبته في غير هذا ” المكان ” ، وليجرب دوره مع شخص آخر !
3/2 التوظيف السياسي
يقول منذر سليمان : ” لاشك ان هناك حاجة ملحة في ظل المناخ الايجابي السائد حاليا ، الذي يعّززه مزاج جماهيري يؤكد المشتركات بين العرب والاتراك ، وخاصة منذ تسلم حزب العدالة والتنمية للسلطة في تركيا ، وانفتاحه عربيا ، وفق سياسة ” صفر مشاكل ” مع دول الجوار ، مع جرعة تأييد وتعاطف عالية مع القضية الفلسطينية من قبل اردوغان وحكومته ، هناك حاجة الى اعادة النظر والمكاشفة والنقد لصورة العرب لدى الاتراك وصورة اللاتراك لدى العرب ، بعيدا عن الاختزال باسقاط صور سلبية متبادلة ، غرست بدون تبصّر في ذاكرة جماعية طبعت في فترة محددة ، أو لحدث بعينه ، يتحكّم بالقراءة لمجمل تاريخ العلاقات العربية ـ التركية ، وفهم ونظرة كل طرف نحو الاخر ” ( ص 372) .
دعوني ارد عليه بالقول : كم من مؤتمرات الحوار العربي التركي قد حضرت ؟ كم من الرسائل العلمية في هذا الموضوع قد اشرفت او ناقشت ؟ كم من الدروس والمحاضرات في هذا الموضوع قد القيت ؟ ان هذا ” الموضوع ” الذي سخرت حياتي العلمية له على مدى اكثر من اربعين سنة ، قد ادركت ما الذي يعنيه بالنسبة الى اناس يريدون توظيفه سياسيا من خلال مراكز ( بحوث ) يؤسسونها في اميركا والغرب وتنفق عليها دولة معينة لاغراض ايديولوجية ! انني ادرك يا صاحبي ان ما قلته الان هو محاولة لتوظيف خاسر لسنا نحن اصحابه .. ولا يمكن لأي اكاديمي عربي مستقل ان ينجر وراء موظف سياسي لتسويق بضاعته ( العلمية ) سياسيا ! لقد تحدثنا وكتبنا كثيرا عن المشتركات بين العرب والاتراك ، وان العرب منفتحون على الاتراك قبل مجيئ اردوغان بازمان .. ولكن اسألك ان كنت تطالب باعادة نظر ومكاشفة ونقد .. فما معنى مطالبتنا الابتعاد عن الاختزال باسقاط صور سلبية متبادلة ؟ هل عندما نرد على التهم التي كان بعض المؤرخين والباحثين الاتراك يتهموننا بها .. نكون قد غرسنا تلك الصور في ذاكرة جماعية ؟ ما هذا المنطق ؟
واذا كنت قد صفقت لتعقيب المؤرخ الدكتور وجيه كوثراني على ورقتي ، وتقوّلت اشياء لم يقلها الرجل ، فان ما قاله اتفق مع بعضه واختلف مع بعضه الاخر ، ولكنني افهم وادرك ما يقول ، فنحن الاثنان نقرأ التاريخ العربي الحديث منذ عقود ولم نتطفل يوما ، وندخل انوفنا فيما لا يعنينا ، وقبل ان تصفق له ، فانني اعلمك بأن ما قاله وطالب به ، فانني كنت قد نشرته منذ اكثر من ربع قرن وطالبت به ..
3/3 تخوين الاوائل
يقول منذر سليمان مستطردا : ” أعتقد أن على الباحثين العرب والاتراك اجراء مراجعة دقيقة لمجمل الوثائق والوقائع التي رافقت العقود الاولى من القرن العشرين خاصة ، وأن يعيدوا تاريخ تلك الحقبة بعقلية وروحية نقدية شجاعة ، ويبدو لي ان النظرة المنصفة والعادلة ستقّر بأن العديد من النخب السياسية العربية خانت الاتراك ، وغرّر بها من قبل الاستعمار الاوروبي ، وأن الدعوة الى القومية العربية قبل سقوط الدولة العثمانية شابها الزيف والعمالة للاجنبي عموما ، أما بعدها فكانت فرض ضرورة وصادقة التعبير والتوجه . كما ان الاتراك منذ اعترافهم بالكيان الصهيوني حتى عام 2002 خانوا العرب وقضاياهم وتصرفوا كأداة امريكية أطلسية بامتياز ، معادية للعرب ، وحاربوا حركة القومية العربية بقيادة عبد الناصر ، وكانوا من اوائل المعترفين بالانفصال السوري عام 1961 ” ( ص 372-373 ).
يجعل منذر سليمان من نفسه معلما على جميع الباحثين العرب والاتراك ويطالبهم بكيت وكيت .. وهو لا يعلم ابدا حجم الدراسات والبحوث الوثائقية التي نشرت منذ خمسين سنة ليس من قبل الطرفين ، بل من قبل العديد من العلماء والمستشرقين الغربيين .. لم يحضر اية مؤتمرات ولم يشارك باية ورقة تاريخية عن تلك المرحلة .. وكأن لم يكتب عن تلك المرحلة الا سواي .. من خلال ورقتي التي جعل منها مثلا كي يسفه اعمال الباحثين والعلماء والمؤرخين في العالم ولم يدرك الجدل الساخن بين العرب والاتراك حول قضايا مركزية في بحث العلاقات الثنائية ليس في التاريخ المعاصر ، بل في بحث التاريخ العثماني الذي اشترك العرب فيه بحكم السيطرة العثمانية الطويلة .. وهو لا يدرك ان المشاكل بين الطرفين لا تنحصر في مرحلة بدايات القرن العشرين ، بل تمتد في العمق على امتداد اربعة قرون عانت خلالها المجتمعات العربية كل المآسي ! ولا ادري كيف يسوّق لنا نظرته ” المنصفة والعادلة ستقّر بأن العديد من النخب السياسية العربية خانت الاتراك ، وغرّر بها من قبل الاستعمار الاوروبي ، وأن الدعوة الى القومية العربية قبل سقوط الدولة العثمانية شابها الزيف والعمالة للاجنبي عموما ” حسب قوله . أسألكم بالله : هل هذا حكم رجل علم يمتلك اي حد أدنى من التفكير النسبي ، ليأتي يلقي بالتهم الكبيرة في مداخلة له على ورقة بحثية ؟ هل من الانصاف ان نعمّم ونتهم العديد من النخب السياسية العربية انها خانت الاتراك ؟ هل ان العديد من النخب قد غرر بها الاستعمار الاوربي ؟ وهل الدعوة الى القومية العربية قبل سقوط العثمانيين شابها الزيف والعمالة ؟ اسأله ان كان بمقدوره ان يعدد ما عناوين تلك النخب ؟ وكم تتألف كل نخبة ؟ ومن يقود تلك النخب ؟ واذا كان البعض من العرب كانت له علاقاته او صداقاته .. افلم يكن للاحرار الترك اصدقاءهم وعلاقاتهم مع الاوربيين ؟ الم يكن للايرانيين والافغان والهنود واليونانيين وغيرهم علاقاتهم وارتباطاتهم مع هذه القوة او تلك ؟ وهل كانت تلك ” النخب ” عصر ذاك قد عرفت معنى الاستعمار ؟ اذا كان المصطلح قد ولد بعد الثورة البلشفية .. واذا كان البعض له اتصالاته مع الروس او الفرنسيين او الالمان او الانكليز ، فهل معنى ذلك ان العديد من النخب كانت عميلة وشابها الزيف ؟ وهنا اطالبك امام كل العالم ان تثبت لي وثائقيا هذه التهم على العديد من النخب كما قلت .. وان تثبت للعالم وثائقيا حجم العمالة لتلك النخب ان استطعت .. هل كان عبد الرحمن الكواكبي عميلا ؟ هل كان عبد الكريم الخليل مزيفا ؟ هل كان عبد الغني العريسي تافها ؟ هل كان الشيخ احمد طباره مرتزقا ؟ هل كان عبد الحميد الزهراوي جاسوسا ؟ هل كان احمد عزت الاعظمي مأجورا ؟ الى آخر القائمة الرائعة من المناضلين الاوائل الذين قدموا للاجيال اعز ما يملكون .. وفنوا اعمارهم الشابة في سبيل الامة العربية .
3/4 الطعن بالعرب : عادة قديمة
ما هذا الطعن بالعرب الذين وجدوا انفسهم ازاء تحديات صعبة فرضتها عليهم حكومة الاتحاد والترقي وسياساتها القميئة ؟ انك تقرن الثورة العربية الهاشمية – كما اسميتها – باعدامات جمال باشا بقولك : ” .. السقوط في خلل اختصار وتجميد تاريخ ستة قرون من التاريخ الاسلامي ، وتبسيط اربعة قرون من التاريخ العربي المرتبط جلّه بالسيادة العثمانية ، على أساس الذاكرة الجماعية ( سواء لدى العرب أو لدى الاتراك ) التي تقرأ التاريخ المشترك ، أما من خلال ذاكرة عربية تستعيد اعدامات جمال باشا من جهة ، أو من خلال ذاكرة تركية تستعيد تداعيات الثورة العربية الهاشمية من جهة اخرى ” ( ص 372 ) .
أود ان تعلم يا عزيزي منذر ان المؤرخ الحقيقي ليس بحاجة الى ان يتعلم منك مثل هذه التعاليم ، فهو يدرك ما الذي يقوله وما الذي يعنيه مستندا على وثائقه ، ومتبعا منهجه ، وغير متنازل عن رؤيته الانسانية .. لقد وجدت ان هناك جماعات وارتالا تتسمى باسم العرب في مجتمعاتنا ، ولكنها تكره العرب كراهية عمياء ، وليس لها الا ان تطعن في نخبهم ومنجزاتهم .. كما كان حال اولئك الذين عاشوا منذ اكثر من الف سنة ! هنا أود ان يعلم الاخ منذر انه ان كان يقصدني بدلالة طرحه لتقولاته في مداخلته على ورقتي ، فاعلمه ان تجربتي المتواضعة قد انتجت اكثر من خمسة كتب تفصيلية في كل من التاريخ العثماني لآكثر من ستة قرون ، وتاريخ العرب الحديث لأكثر من اربعة قرون ، ومنها كتب منهجية تدرّس في الجامعات ، مثل ” تكوين العرب الحديث 1516- 1916 ” ( نشرته جامعة الموصل 1991 بمجلد كبير ) واعيد طبعه عدة مرات .. فضلا عن عشرات البحوث العلمية .. فالمؤرخ لا يسقط في خلل اي اختصار كما ادعيت ، كما انه ليس من المعقول ان يجمّد اربعة قرون تدارسنا فيها طبيعة المجتمعات والعلاقات الاقتصادية والتراكيب الادارية والتعايشات الاجتماعية ضمن البنى السياسية .. ولا يمكن لكائن من كان ان يقحم نفسه ليطالب ليس المؤرخين العرب ، بل المؤرخين الاتراك التخلي عن الذاكرة القومية لكليهما .. ! ومن الخطأ ان نطالب الاتراك بمثل هذه المطالب ، بل علينا ان نقنعهم بحيثيات ما جرى للعرب ودوافع العرب من اجل الثورة والانفصال عنهم بعد ان بقي العرب يطالبون بحقوقهم القومية والانسانية المشروعة.. اما ان نأتي لنشّوه الصورة العربية متعمدين ونضفي صفة العمالة والارتزاق للنخب العربية من دون ان نحدد من كان فعلا ضالعا في عمالته ، فنكون قد خرجنا عن طور سياقاتنا الوطنية ومبادئنا الفكرية ، كما يجري هذه الايام على ايدي ثلة من الارتال الخامسة في مجتمعاتنا العربية ، والذين يكرهون اي منجز عربي نهضوي حقيقي .. علما بأن الاتراك انفسهم قد نمت فكرتهم القومية من خلال تجمع تركيا الفتاة في الحاضنة الاوربية ، وسأتطرق الى ذلك بعد قليل .
يكمل منذر سليمان مداخلته قائلا : ” ليس صحيحا على الاطلاق ان علي الجميل هو أول من رفع لواء القومية العربية ومنذ عام 1909 ، اي سبق ياسين الهاشمي وجعفر العسكري وعلي رضا الركابي وغيرهم ” ( ص 373 ) .
هل بذمتك انني قلت هذا ؟ فلماذا هذا التشويه ؟ دعوني اعود الى النص الذي كتبته في ورقتي لنرى حجم التزييف الذي مارسه صاحبنا . قلت : ” إن الرأي العام التركي قد ظلم العرب كثيرا على امتداد مئة سنة كونهم قاموا بالثورة على الدولة العثمانية وانفصلوا بمساعدة الانكليز من دون معرفة الأسباب التي دعت العرب يعلنون ويعبرون عن معاناتهم من السياسة الاتحادية قبل نشوب الثورة العربية لأكثر من ست سنوات ! دعونا نقرأ بعض ما كتبه علي الجميل وهو احد مؤسسي النهضة القومية العربية في بيانه الموسوم : ” على رسلكم يا زعماء الاتحاد ” ، يقول : ” يا أحرار القوم ، ويا ولاة الأمر عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم، أصلحوا أنفسكم من قبل أن تبحثوا عن سبل تصلحون بها غيركم إن أصلحتم ، فالكل يصطلحون … ولئن فسدت أخلاق الأمة ، فأخلاقكم أشد فساداً .. وما فساد الأمة إلا منكم ، فأنتم الأولون ، وأنتم الآخرون والناس على دين ملوكهم ، كلام مأثور… لعبت بأدمغتكم خمرة الغرور ، فشهرتم سيوفكم .. توهمون الأمة أنكم تجاهدون في سبيل حريتها ، وتمتعها بحقوقها ، وما ذاك إلا جهاد في سبيل المناصب الرفيعة ، والرتب العالية ، والتنعم بالرواتب التي تتسرب إلى جيوبكم من دماء الأمة والسيطرة على الضعفاء . ويحكم إن الذين ولدتم تحت لوائهم ، ورضعتم ثدي نعيمهم ، وترعرعتم في أكنافهم ، يعرفونكم خير من أبائكم الذين أنتم من أصلابهم ، ولو تحققوا صدقكم ، وإخلاصكم ، لوضعوا ثقتهم فيكم قبل أن نضعها نحن بكم ، أولئك قوم درسوا كنه أخلاقكم فعرفوا منكم ما لم نكن لنعرفه ، وأنزلوكم منزلتكم التي أصبحتم عليهم من أجلها ناقمين . لا لوم عليهم ، يغفر الله لهم ولعبد الحميد فقد كانوا العالمين وكنا الجاهلين وما عاقبة الجهل إلا ما نحن فيه ثم إليه منقلبون . لئن أحبتكم جهلاء الأمة اليوم ، فلا أظنها تحبكم غداً ، فسحب الجهل لا بد وأن تنكشف ، والحقيقة لا بد أن تنجلي ، ولو بعد حين … ولا تدرون إلى أين أنتم سائرون ولا إلى أين نحن صائرون . رويدكم نحن أسلام قبل أن تخلقوا ، ووطنيون قبل أن تعرفوا الوطنية … وممرضوا أمة قد أشرفت على الهلاك ، فلا نريد أن تمتص دمائها لنقضي عليها وهي في عالم اليرقان .. يا زعماء الأمة رفقاً بالأمة …. سيلعنكم التاريخ غداً إن لم يلعنكم اليوم وسحقاً للقوم الظالمين .. ” (نقلا عن مخطوط البيان بخط صاحبه علي الجميل ضمن أوراق قومية ، وقد نشرت مقتطفات من البيان في اكثر من مكان ، انظر مثلا : سيار الجميل ، زعماء وأفندية : الباشوات العثمانوين والنهضويون العرب ، ط1 ( عمّان / بيروت : الأهلية للنشر والتوزيع ، 1999 ، ص 234) . إن صاحب هذا ” البيان ” كان واحدا من مؤسسي جمعية المنتدى الأدبي بالأستانة ونشر عدة مقالات وقصائد في مجلتها ، وهو أول من قال بمصطلح ” الأمة العربية ” عام 1909 في الأستانة ، وأعاد إذاعته في واجهة كتابه عن السنوسيين وقد جمع المشرق والمغرب العربيين في امة واحدة عام 1911.. ( كتابه : التحفة السنية في المشايخ السنوسية ، 1911) وقد لوحق وشّرد سنوات طويلة . سؤالان مهمان : لماذا قامت الجمعيات العربية السرية والعلنية ؟ ولماذا انعقد المؤتمر العربي الأول بباريس عام 1913 ؟ (مجلة المنتدى الأدبي ، الأستانة ، الجزء الثاني، جمادى الأولى سنة 1332هـ / شهر آذار ( مارس ) 1914 م ، المجلد الثاني، ص76-77) والاعتماد على مراسلاته مع صديقه ورفيق دربه الاستاذ زكي الخطيب واعضاء جمعية النهضة العربية .
لم اقل ان الرجل اول من رفع لواء القومية العربية ، بل قلت انه احد مؤسسي النهضة القومية . وقلت انه اول من اطلق مصطلح ” الامة العربية ” . ولقد عالجت ذلك في كتابي زعماء وافندية وغير ذلك من المصادر ، ولن ابالغ في ذلك فالحقائق موجودة في منشورات ذلك الوقت ومنها مجلة المنتدى الادبي التي كانت تصدر بالاستانة . ولا ادري لماذا ذكرت يا اخ منذر اسماء مثل ياسين الهاشمي وجعفر العسكري وعلي رضا الركابي ، فالهاشمي التحق بالامير فيصل لاحقا ولم يكن احد مؤسسي اي جمعية عربية ، وجعفر العسكري بقي قائدا عثمانيا حتى العام 1916 بعد ان كلّف من قبل الباب العالي بقيادة الحرب الطرابلسية في ليبيا عام 1911 ، وعلي رضا الركابي عمل في ظل جمال باشا ضابطا عثمانيا وقبل رئاسة بلدية دمشق على عهده .. ثم التحق بحكومة فيصل العربية .. اذا لم تكن متمكنا من تاريخ تلك الفترة وشخوصها ودقائقها ، فلماذا تأتي بمثل هذه الاسماء ؟ كنت أتمنى عليك ان تذكر المؤسسون الاوائل امثال : عبد الحميد الزهراوي وعبد الكريم الخليل وعبد الغني العريسي وقافلة الشهداء العرب الابرار من المثقفين وشباب العرب المتميزين الذين اعدمهم الوالي جمال باشا ( انظر عنهم لاحقا ) .. او تذكر احمد عزت الاعظمي وثابت عبد النور وعزيز علي المصري وغيرهم ، متمنيا عليك ان تطلع على التفاصيل في كتابي زعماء وافندية : الباشوات العثمانيون والنهضويون العرب ( المطبوع في الاهلية عام 1999) .
ضياء كوكب
1/ النزعة الطورانية والقومية العربية : من سبق الاخر ؟ من ينازع من ؟
يقول منذر سليمان : ” يبالغ الدكتور الجميل في تحميل النزعة الطورانية مسؤولية العداء للعرب ، فالدعوة الطورانية بدأت مع ضياء كوك الب الذي توفاه الاجل عن عمر 48 سنة ، وفي عام الغاء الخلافة ، ولم يكن أنور وجمال وطلعت ونيازي من مؤيدي دعوته أكثر مما هم عثمانيون يرغبون في التركيز الشديد للسلطة ، في ضوء تمردات البلقان ( المسيحية ) ، وتململ الارمن المدعومين من روسيا ، وازدياد التدخل الاجنبي في مسائل الاقليات داخل الدولة .. ” ( ص 373 ) .
ماذا نصف هذا ” النص ” الذي يبتعد به صاحبه عن حقائق التاريخ ، اما عن جهل بها ، او عن تشويه لها .. لقد حسم صاحبنا الامر باختزال شديد ، واطلق احكاما جزافا بعد ان اتهمني بالمبالغة في تحميل النزعة الطورانية مسؤولية العداء للعرب .. وللرد عليه ، أجد نفسي مضطرا لتوضيح الامر تفصيليا .. فما بنيته من احكام قد تبلور من خلال بحوث ودراسات وقراءات لارشيفات وكتب ووثائق لا اعتقد ان الرجل يعلم باولوياتها . فهل من حقه ان يلقي بالاتهامات على الناس ؟ ولكي افهمه جيدا حقائق الموضوع ، لابد ان اسعف كلامي بالمزيد من التوثيقات .
عندما قلت بأن الطورانية قد سبقت العروبة ، فان ثمة مستندات تاريخية تؤكد ذلك ، فالطورانية ، اذا كان ضيا كوك الب قد قدم فلسفتها ، فان انبثاق النزعة قد سبقه ، اذ تأثر الضباط العثمانيون بالالمان منذ العام 1870 . ويجمع عدد كبير من المؤرخين والمستشرقين على ذلك حول هذا ” الموضوع ” ، وفي مقدمتهم ستودارد ت. لوثروب الذي يؤكد على التأسيس التاريخي لما قام به ضيا كوك الب .. دعونا نتأمل في النص التالي ( بالانكليزية ) مع مراجعه:
” Traditional history cites its early origins amongst Ottoman officers and intelligentsia studying and residing in 1870s Imperial Germany. The fact that many Ottoman Turkish officials were becoming aware of their sense of “Turkishness” is beyond doubt of course, and the role of subsequent nationalists, such as Ziya Gökalp is fully established historically” . ) see, Stoddard, T. Lothrop. “Pan-Turanism”. The American Political Science Review. Vol. 11, No. 1. (1917): 16). See also, Paksoy, H.B., ‘Basmachi’: TurkestanNational Liberation Movement 1916-1930s , Modern Encyclopedia of Religions in Russia and the Soviet Union, Florida: Academic International Press, 1991, Vol. 4) .
زعماء جمعية الإتحاد والترقي
مثلما أكدت في ورقتي البحثية بولادة النزعة الطورانية قبل انبثاق القومية العربية ، ذلك ان العرب شغلتهم همومهم الاجتماعية ، واوضاعهم السياسية ، ومعاناتهم الفكرية ، فاهتموا بصحافتهم الجديدة وأفكار العروة الوثقى الإصلاحية .. كانت قد ولدت لدى الاتراك حركة تركيا الفتاة والتي انبثقت عنها جمعية الاتحاد والترقي التي اعتبرت اهم تنظيم سري داخل المدرسة العسكرية .. وكنت قد عالجت تفاصيل ذلك في اكثر من كتاب وورقة ، اذ قلت : ” يعود أساس التنظيم إلى إبراهيم تيمو حيث فاتح ثلاثة من أصدقائه في مايس / آيار 1899 لخلق منظمة ثورية، وهم كل من : اسحق سكوتي وجركس محمد رشيد وعبد الله جودت .. وقد توضّح تأثير جمعية الكاربوناي الايطالية على التنظيم العثماني هذا ، إذ بدا الأعضاء لا يعرف احدهم الآخر الا من خلال أرقام سرية ، ثم انضم إلى هذه الحركة بعد مدة وجيزة أشخاص ، مثل : شرف الدين مغمومي وكرتيلى شفيق وكريم سيباطي ومكلي صبري وسلانيكي ناظم. ثم شكلت جمعية الاتحاد والترقي فروعا لها في العواصم الأوربية حيث كان لها فرع في باريس انضم إليه الكثير من الطلاب والدارسين فيها، كما كان لها فروع في ولاية سلانيك ( اعتمادا على كل من المؤرخين ارنست رامزور وشريف ماردين ).
وتابعت قائلا : ” حاولت جمعية الاتحاد والترقي منذ البداية استقطاب الأشخاص الذين لهم ماض مجيد في القضايا الوطنية. وعلى الرغم من المراقبة الشديدة المفروضة على هذه الجمعية، إلا أنه انضم إليها عدد من الموظفين في الحكومة. وقد ركزت قيادة الجمعية على الجيش واستقطابه إلى جانبها ، فكان أن انضم إليها عدد كبير من الضباط المتنفذين في الجيش العثماني مع انخراط موظفين ومشايخ .. وعدّ فرع سلانيك يخضع تماما للمركز في باريس الذي كان يعتبر نقطة مركزية في الخطط والتوجيهات والأفكار والبيانات . ولقد فشل التنظيم في حركته الانقلابية عام 1896 ، ونفي القادة إلى الخارج . وعقد الاتحاديون مؤتمرين لهم ، كان أولاهما في باريس عام 1902 باسم المؤتمر الأول للأحرار العثمانيين ، وكان ثانيهما في باريس أيضا عام 1907 باسم المؤتمر الثاني للأحرار العثمانيين .. وكان الاتحاديون قد انشقوا على أنفسهم بين مركزيين بزعامة احمد رضا ولا مركزيين بزعامة الأمير صباح الدين ” ( اعتمادا على رامزور وتوفيق على برو ) .
ويبدو واضحا أن التنظيم كان تركيا خالصا ، فهو وريث جمعية تركيا الفتاة ، فمسحته قومية واضحة ، إذ لم نجد أي ضباط أو موظفين أو حتى أعضاء عرب قد انخرطوا إلى داخل التنظيم لا في باريس ولا في أي جزء من الدولة .. كما يشير البعض إلى أن التنظيم كان موجها من قبل محافل ماسونية في كل من ايطاليا وفرنسا ، وان ذلك واضح من خلال صفة رسمية بمساعدة تلك المحافل للجمعية .. ناهيكم عن ارتباط البعض من أعضائها بالماسونية. إن هذه الصلة صفة رسمية وقد ساعدت المحافل الماسونية الجمعية وكانت مفيدة جدا للحركة، كما أن البعض من أعضاء الجمعية كانوا ماسونيين، ولكن رامزور ينفي هذه التهمة ، ويشير إلى أن الضباط الذين قاموا بالثورة لم يكونوا كلهم بماسونيين ، وان أولئك الأعضاء كانوا يؤمنون بقوميتهم ، ولا يمكنهم الرضوخ لأوامر خارجية تملى عليهم أبدا ( اعتمادا على احمد عبد الرحيم مصطفى وسيار الجميل وقارن مع المؤرخ رامزور ) .
3/ التداعيات التاريخية
لقد أصدرت الجمعية بعض الصحف ومنها مجلة رسمية باسم مشورت في باريس وميزان في القاهرة وعصمانلي في جنيف وذلك لنشر أفكارها الثورية، وكانت الصحف ترسل إلى تركيا بواسطة دوائر البريد الأجنبية . ولا اعتقد أن إصدارها في مصر قد قدم شيئا إلى المصريين وقت ذاك ، لأن مصر كانت منشغلة بهمومها الوطنية بسيطرة الانكليز عليها ، ولكن يبقى اسم عزيز علي المصري الذي يقال انه كان قد ارتبط بالاتحاديين وهو ضابط عثماني ..
السلطان عبد الحميد الثاني
القائد العثماني العراقي محمود شوكت باشا
4/ المشروطية الثانية
لقد بدأت صفحة تاريخية جديدة بين العرب والعثمانيين عام 1908 بعد أن كانت لهم شراكتهم التاريخية الطويلة غير المتكافئة أبدا ، والتي عولجت تاريخيا باحتراز وانفرادية من قبل الطرفين على امتداد القرن العشرين ، إذ لم نجد إلا محاولات قليلة لحوار ثنائي بين الطرفين العرب والأتراك من اجل فهم العلاقات التاريخية التي ربطت كل طرف بالآخر على امتداد أربعة قرون سبقت القرن العشرين (نجحت محاولات كل من الأستاذين الدكتور عبد الجليل التميمي ( في تونس ) ، والدكتور خير الدين حسيب ( في لبنان ) في إجراء حوارات عربية – تركية منذ ثلاثين سنة مضت ومن خلال عقد مؤتمرات بحوث وندوات حوار نشرت كل مضامينها في كتب ومنشورات بالعربية ولغات أخرى ).
جمعية النهضة العربية
جمال باشا السفاح
5/ الموقف من التاريخ
ثمة مستلزمات أساسية في كتابة التاريخ ، ابرزها عدم التسرع في اطلاق الاحكام ، وخصوصا في الاحداث المثيرة للحساسيات والجدل ، وعدم استخدام التاريخ مطية نصنع مواقفنا منه كيفما نريد او كيفما نهوى بناء على ما يحركنا من دوافع ، او ما يحكمنا من اهواء .. وان لا نستخدم المطلقات الايديولوجية والآراء المبيتة القاطعة في اية قراءة للتاريخ .. ولا ان نعيد ونكرر نشر ما تقوله جماعة معينة او فئة من الناس بعيدا عن الذاكرة الجمعية .. وان لا تتحكم بنا امراض التاريخ نفسه والتي ورثت بقاياها مجاميع من الناس كي تصبغ التاريخ بالصبغة التي تريدها .. علينا ان نفتح اي مجال للطعن في هذا وذاك من دون اي دراسة معمقة ولا اية مقارنات نقدية ولا اي منهج عقلي .. علينا ان لا نردد ما يقوله اي زعيم سياسي او اي قائد ديني او اي شيخ طريقة او شيخ طائفة .. الخ .. علينا ان نجهر بالحقائق ان امتلكنا وثائق دامغة نتأكد من صحتها وحيثياتها لنعلن عن معلومات جديدة ..
جعفر العسكري في الوسط وعلى يمينه علي جودت الايوبي وعلى شماله نوري السعيد
ان مثل هكذا مواقف مشبوهة لا يمكن الحوار بشأنها لأنها مضيعة للوقت وتكريس للاحقاد والكراهية وهي اولا واخيرا تافهة لم يكتبها مؤرخون عقلاء لهم وزنهم وحياديتهم وموضوعيتهم وسمو الفاظهم .. وهنا أسأل عن سر هذه الهجمة الرعناء ضد تاريخ الذاكرة الجماعية ، وضد المعرفة الاكاديمية الحقيقية لا المزيفة ، وضد كل ما من شأنه ان يحطّ من شأن مجتمعاتنا على حساب مجتمعات اخرى معينة .. وكأننا في حلبة سياسية قابلة للمناورة والفذلكة والمزيد من الاكاذيب ونشر التزويرات وتشويه اكبر قدر ممكن من الحقائق التي لا يقبل بها كل المنتمين للطوابير الخامسة في دواخل مجتمعاتنا .. فكانوا وما زالوا سببا في الكساح الذي تعاني منه تلك المجتمعات .
ولكن ؟
الشريف حسين بن علي
الماضي لا يمكن حذفه او الشطب عليه ، وهو خطير جدا كونه المسؤول عن حاضرنا اليوم بعيدا عن المستقبل الذي سيتشكل ان بقي المجتمع برمته يعيش في شرانق الماضي ، كما يحصل اليوم ، ولكن مني كثر الدجالون والمزورون فان الحقائق ستظهر ان ليس في هذا الجيل ، فانها ستظهر لدى جيل آخر .. اقول الماضي ولا اقول التاريخ . اننا لم نزل من البعد بمكان عن معرفة تواريخنا معرفة علمية .. وعليه فلم تزل مجتمعاتنا تتعلق بالماضي .. ولكن اي ماض؟ كل شريحة تريد ان تتبنى لونا معينا من الماضي لتفرضه على الاخرين .. وعليه ، فالماضي الذي يتعلق به المجتمع باشكاله المتباينة ، هو غير الماضي الحقيقي الذي يدركه التاريخ .. وهكذا ، فان المشكلة التي لابد من معالجتها تكمن بمن يزيف الماضي ، وهذا هو الذي يصيب حاضرنا بالاعصار .
ان الحد الفاصل هو اللحظة التاريخية الراهنة التي باستطاعة المجتمع ان يفصل بين المزيف عن الحقيقي من خلال ما اسميته بـ ” القطيعة التاريخية ” ، فاغلب المجتمعات تعتز بتواريخها ولكن لا تبقى اسيرة او مسجونة في ازقة ماضيها .. ولكنها بنفس الوقت ، لا تسمح لهذا او ذاك ان يعبث بمواقف التاريخ ولا يطعن برجاله او نسائه من الاحرار والنهضويين الذين قدموا حياتهم ثمنا لمبادئهم ولتقدم امتهم وخدمة مجتمعاتهم .. لا يمكننا ابدا تكوين رؤية للمستقبل او اي بناء له الا من خلال تكوين قطيعة تاريخية بيننا وبين ترسبات هذه الفئة وتقاليد تلك الجماعة .. ان البعض يتوهم الاكاذيب حقائق ، والبعض كونه لا يقرأ بدقة وعمق وتفاصيل ، فهو يطلق عموميات مزورة .. ويتوهم انها حقائق ، والاتعس من ذلك ان الامم ترى مستقبلها في الانطلاق اليه الا مجتمعاتنا التي يعيش البعض ضمن اوهام وتعصبات ومصالح .. فهو يغرّد بعيدا عن الذاكرة الجمعية ، ويبدأ بمهاجمة من لم يتفق والاراء التي يحملها .. بل ويختلف مع الاخرين كونه قد لقّن طويلا ضدهم .. فلا يرى الا من زاويته ، ولا يعّبر الا عن انحيازاته ! وهذا جزء من الزيف الماضوي .. وعليه اقول : ان الماضي لا يبني المستقبل ولكن لا يمكن بناء اي رؤية من دون معرفة التاريخ ..
7/ الاعتذار التاريخي ليس عيبا !
وكم هي الحاجة ماسة في مثل هذه الظروف العصيبة إلى المواقف الحيادية والموضوعية لمن يحمل اية صفة معرفية الذين عندهم الفرص السانحة في وسائل الإعلام الصوتية والمرئية والمكتوبة ، وان لا يتطفل العداء على موضوع من اجل إقصاء أصحابه من ذوي الضمائر الحية . فلندع صاحب الشأن وشأنه وصاحب الاختصاص في تخصصه من دون أن تمحق إرادته ويلوي صوته ويقمع وجوده ! إن التواريخ الحية وموضوعاتها ينبغي ان تشغل الناس اليوم ليل نهار ، والتأكد من دقة المعلومات من دون اي اقصاء او تزييف او تعصب لأي طرف من الاطراف .. علينا ان لا نستهين بحقوقنا التاريخية من اجل مصالح سياسية اقليمية او دولية .. علينا ان نقول الحقيقة مهما كانت مريرة لكل من شاركنا تواريخنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والحضارية .. علينا ان نطالب دولا اخرى بالاعتذار التاريخي لما جنوه بحق مجتمعاتنا ونخبنا ومصالحنا .. علينا ان نقول ان نكون شجعانا في عرض حقائق ما جرى في مجتمعاتنا على ايدي حكام وزعماء سفاحين وغزاة وقتلة في اي بقعة من بقاع جغرافياتنا المتنوعة .. وان نقدّم اعتذارنا التاريخي لشعوب ومجتمعات آذيناها او دمرناها .. ولا اعتقد اننا قد فعلنا ذلك بحجم ما فعل الاخرون بتواريخنا ! علينا ان نقول كم كان حجم تعايشنا مع الاخر .. وكم كان حجم تعايش الاخر معنا ! علينا ان نفصح عن المغيب الحقيقي الذي يريد البعض تشويهه وتزويره عن قصد وسبق إصرار في الإفصاح عما يريده ، بل ويصفق للاخر ان قام بتشويه الحقائق ضد تاريخنا .. اننا ازاء ازمة فكرية واخلاقية لكل من يتبجح بالضد من الحقائق ومحاولته البائسة في لي عناصرها .. ويطبل لكلّ البعداء من دون أي إحساس أو وازع من ضمير !
8/ واخيرا
هنا قد يسألني سائل ومن حقه أن يسأل عن عوامل كل هذه التهرؤات ، أقول : لقد غابت الموازين اليوم في الدفاع عن الحق والعدل مقارنة بما كانت عليه موازين الماضي حيث يقف المثقفون الملتزمون ليشهروا بياناتهم وآرائهم ويوضحوا مواقفهم إزاء القضايا التي يجمع عليها كل الناس بل أن بعض المثقفين دفع حياته ثمنا لمواقفه الملتزمة إزاء قضية معينة واحدة ! اليوم تتآكل حصوننا من دواخلها بفعل عوامل متنوعة سايكلوجية وتربوية واجتماعية وسياسية بالدرجة الاساس .
يتبع كل من الحلقتين الثالثة والرابعة ..
نشرتا في الزمان اللندنية ، الحلقة الاولى 16 آب / اغسطس 2011 ، والحلقة الثانية 19 آب / اغسطس 2011 ، ويعاد نشرهما على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
أ.د. سيّار الجميل
مؤرخ عراقي / كندا