لن يخلو أي بلد في العالم من الفساد والمفسدين، ولكن جرت العادة أن يقبض على الفاسدين وأن يحاسب المسؤولون ويأخذوا جزاءهم العادل، ولكن هذه المعادلة لا تعمل في العراق، الذي يغرق اليوم تماما في الفساد والمفسدين، ويكاد يكون البلد رقم واحد في ما يحصل فيه، فهو يخلو من معارضة حقيقية، وتنكّل الحكومة بالمتظاهرين، وينعم الفاسدون بمباركة المحتلين ومساندة الطامعين.
قرابة تسع سنوات تمر بعد احتلال العراق، وحياته تسير من سيئ إلى أسوأ، فالفساد فيه يستشري بشكل لا يصدق، والنهب المنظم للموارد الضخمة يقوم على قدم وساق.. والعراقيون يتضورون جوعا وعطشا، ويعيشون عيشة غير لائقة وغير كريمة، مع انقطاع للكهرباء ومعاناة لا يمكن تخيلها في بيوتهم وشوارعهم وأسواقهم، وفي دوائر الدولة، وفي رواقات المستشفيات والمدارس والجامعات.. حكومتان منتخبتان منذ 2005، كما يسمونهما، والبلاد تعيش فوضى عارمة من الفساد في الخدمات والاتصالات والمصالح العامة.. ناهيكم عن اختراقات أجنبية مع فقدان الأمن، وانتشار المليشيات والجماعات المسلحة والإرهاب المنظم!
كل يوم يمضي والعراقيون يصحون على مشكلة معينة أو قضية كبرى.. واليوم يسمعون ضجة عن عقود ظالمة يقوم بها أو ينظمها مسؤولون عراقيون من المتسلطين الجدد، الذين ليس لهم إلا النهب وضرب مصالح البلاد والعباد بلا شفقة.. اليوم، يعيش العراقيون ركاما من عدة مآس يمرون بها بلا أية مساءلة، ولا أية معارضة، ولا أية معاقبة، بسبب انتفاء صوت المعارضة الحقيقية التي كان لا بد أن تقف لهذه التحديات بالمرصاد، وضد وجود محتل يدعم الحكومة وعملاءه فيها..
اليوم يشترك كل المسؤولين مع كل من يصفق لهم، في صنع أغرب الجرائم ضد العراق والعراقيين، عندما يوقعون عقودا مع شركات وهمية، أو يجرون صفقات مشبوهة بمليارات الدولارات، كلها توقع خلسة من دون أن يطلع عليها الشعب العراقي.. والمسألة لا تنحصر بعمولات أو بقايا فضلات أو غيرها فقط، بل تتجاوز كل ما هو مفضوح من عمليات الفساد المعروفة، كي يدخل المسؤولون أنفسهم شركاء وبصورة مافيا في النهب المفضوح على أعلى المستويات، لعشرات السنين القادمة..
الثورة تجتاح كل المفسدين اليوم في الأرض العربية، ولكن يتهم كل ثائر عراقي اليوم بشتى التهم، فيصمت أمام الكارثة ورسوخ الفوضى الخلاقة التي تأكل الأخضر واليابس. هنا أسأل أصحاب الضمائر الحية من العراقيين: هل من الإنصاف والعدل أن تعاد الثقة بأناس كشفوا عن غاياتهم ومصالحهم وأهدافهم وسوء إدارتهم، ليحكموا مرة أخرى باسم الإرادة العراقية؟
هل من العقل أن لا يصحح المرء تجربته الفاسدة، وهو يغرق البلاد بعقود ظالمة وصفقات مشبوهة مع شركات وهمية أو قوى نهب بالمليارات، من دون تحقيق أي منجز يذكر حتى اليوم؟ هل من الأخلاق أن يبقى البعض يصفق لأناس فاسدين حاقدين ينهبون بلا خجل، ويوقعون الصفقات بلا أي مساءلة؟ هل من العدالة أن يبقى البعض يسبّح باسم هؤلاء الذين تتكشف عملياتهم وسياساتهم الفاشلة على كل العالم؟ هل من الحق أن يبقى العراق مهترئا ويغرق أهله بالمآسي والمشكلات، وهم يعانون الأمرين في حياتهم التي افتقدت لأي معنى.. ولأي كرامة؟
إن من يراقب بعض البرامج التلفزيونية التي تنقل حياة العراق والعراقيين اليومية، سيجد كم هو حجم المأساة كبيراً! سيجد كم العراق بحاجة ماسة إلى ثورة حقيقية للتغيير، وإلى أناس مؤهلين تأهيلا وطنيا وعلميا واجتماعيا، لقيادته وإصلاح كل مرافقه وكبح جماح الفساد والفاسدين.. سيجد كم هي حاجة المجتمع إلى حكومة صاحبة ذمة وضمير في تجنيد نفسها من أجل العراق والعراقيين، وليس إلى حكومة لا يعرف قاموسها إلا الفساد والعزلة والنهب وإثارة النعرات والمحاصصات وسحق العباد وشرذمة البلاد والخضوع لواقع الفوضى..
لماذا كل هذا الفساد؟ أين تذهب المليارات من الدولارات، والبلاد تعيش ظلمة العصور الوسطى؟ من خّول هذا أو ذاك من المسؤولين عقد صفقات وإبرام عقود مستترة لا يكشفون مضامينها للعراقيين؟ من المسؤول عن المليارات التي أنفقت لشراء توربينات لإعادة الكهرباء.. ثم تترك ولم يتم نصبها حتى اليوم؟ لماذا انشغال المسؤولين العراقيين ببحث ونقاش قضايا ساذجة تافهة، وترك العراقيين في متاهة سياسية بعيدا عما تمارسه الأحزاب الحاكمة من النفوذ والسلطة وتوزيع المناصب، وعدم حل أهم القضايا المستعصية التي تخص الخدمات والأمن والكهرباء وتوزيع الثروة والتنمية؟
لقد قرأت كل المدرجات حول قضية عقود الكهرباء أو إبرام صفقات النفط مع شركات بلا رقيب ولا حسيب، من دون أي مساءلة أو عرض مستمسكات.. وتساءلت: لماذا يسكت بعض العراقيين على ما يمارس اليوم من شناعات وجرائم في حقهم، من قبل مسؤولين كبار.. بل ويتستر آخرون على كل فضائح السنوات المنصرمة؟ ولماذا يحرص آخرون على كشف المستور، والذي يتلقفه كل العراقيين على أمل أي انفراج في المواقف وبدء أي تغيير حقيقي نحو الإصلاح والقضاء على الفساد ومعاقبة كل المسيئين والفاسدين..
هل فساد العراق كله مسؤول عنه وزير كهرباء أو وزير نفط أم جهاز حكم فاشل؟! قضية الكهرباء المأساوية لا يمكن أن يكون مسؤولا عنها وزير واحد، وصفقات النفط المشبوهة تقف وراءها جوقة مسؤولين عراقيين، لا بد أن يحاسبوا على كل ما اقترفوه في حق العراق والعراقيين. فهم مسؤولون تماما عن كل المأساة.. إن من يحكم البلاد يتحمل مسؤولية ما يحدث فيها، والقيادة مسؤولة عن كل العقود والصفقات التي تبرمها مع شركات متنوعة في العالم.. فمتى يشتعل فتيل الثورة عند العراقيين؟
نشرت في البيان الاماراتية ، 15 اغسطس / آب 2011 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …