مقدمة
كل يوم اكتشف شيئا جديدا في تفكير قادة العراق الجدد اليوم .. فهم لا يعترفون بأخطائهم كما هي عادة كل حكام العراق ، بل انهم لا يدركون ابدا صعوبة مهمتهم ، وانهم ليسوا اهلا لها ، فحكم العراق مهمة صعبة جدا في الظروف العادية ، فكيف والعراق اليوم يمّر بأصعب مرحلة تاريخية متوحشة في حياته ؟ اسمع من ناس كثيرين كانت لهم صلات وصداقات مع بعض القادة الجدد أنهم لم يحلموا يوما بهكذا مناصب ابدا لولا الاقدار التي ساقتهم ورفعتهم درجات عليا فوق الناس بعد سقوط النظام السابق ، وجعلتهم يمثلون ادوارهم على المسرح القيادي والسلطوي بمثل هذه الطريقة او تلك ، وهم يتبعون اجندة هذا الطرف او ذاك كون اغلبهم لا يعرف فن الحكم .. في خضم مأساة الحكم والصراع السياسي في العراق اليوم ، دعوني اكتب قليلا في باب القيم السياسية والوطنية والاخلاقية المفتقدة من اجل ترسيخ قوة ناعمة في العراق ، وان اسجل رؤية معينة علّها تنفع في طرح خيارات جديدة وصنع خارطة طريق جديدة لعراق المستقبل المنظور .
معنى القوة الناعمة
القوة الناعمة (أي : Soft power) مفهوم يناقض مصطلح القوة الخشنة ( أي : Hard power) وهذه الاخيرة تمثلها (القوة العسكرية) وهي من المصطلحات السياسية العسكرية الحديثة. كان أول من ابتكره المؤرخ جوزيف ناي الذي كان مساعدا لوزير الدفاع في حكومة بيل كلينتون ورئيس مجلس المخابرات الوطني، في كتابه الذي كنت قد قدمت تحليلا عنه قبل سنوات . ان معنى القوة الناعمة باختصار : أن يكون للدولة قوة روحية ومعنوية من خلال ما تجسده من أفكار ومبادئ وأخلاق ومن خلال الدعم في مجالات حقوق الإنسان والبنيتين التحتية والفوقية وما تبدعه في مجالات الثقافة والفنون ، مما يؤدي بالآخرين إلى احترام هذا الأسلوب والإعجاب به ثم اتباع مصادره , وكثيرا ما يطلق هذا المصطلح على وسائل الإعلام الموجهة أو ما يسمى ب ” الإعلام الموّجه لخدمة فكر ما ” . وتعتبر القوة الناعمة من أفضل الأسلحة السياسية العسكرية إذ أنك تستطيع السيطرة على الآخرين وأن تجعلهم يتضامنوا معك دون أن تفقد قدراتك العسكرية .. واستطيع القول بأن القوة الخشنة ان مثلتها العسكريتاريا ، فان القوة المتوحشة يمثلها الفاسدون والميليشيات السلطوية والتحزبات الانقسامية وجماعات غرس التربويات السقيمة والاعلاميات الكاذبة ..
وطن ام مكونّات ؟ النظرية الماكرة
صحيح ان العراق قد انزلق نحو الفوضى والصراعات والحروب المتعددة وانهارت اعتباراته القيمية والحضارية منذ اكثر من خمسين سنة ، لكننا نشهد اليوم تمزقا في احشائه وتشويها لقيمه الوطنية والسياسية والاجتماعية والثقافية ، وعبثا في معايير الامن والسلم، ولعل اخطر الظواهر التي يؤمن بها سياسيو العراق اليوم تتمثل بالفتك الطائفي ، وتوظيف الارهاب ، وهتك الثوابت الوطنية، واستخدام حرب الهويات الفرعية والتأسيس على التشظيّات التي خلقتها نظرية المكر الجديدة الممثلة بالمكونات الرئيسية بديلا عن المواطنة العراقية ، واشاعة الفتنة بدل اخمادها .. وتعميم التوحش والغلظة ، وانتشار الفساد بكل صوره واشكاله ، وسحق الاعتبارات الاخلاقية ونظم الحياة بما فيها الحقوق والواجبات .. أي بمعنى سحق الانسان وحياته ومستقبله ! وعليه ، فهل ثمة معالجة لمحو نظرية المكر الجديدة ( النظرية الماكرة كما اسميتها ) التي صنعت ما اسمي بـ ” المكونات ” مما قاد الى صراع المجتمع وتفتيته بديلا عن ” المواطنة ” التي جمعت كلّ العراقيين في ظل خيمة واحدة ؟ هل باستطاعتنا سحب بساط التعبئة الانقسامية قليلا كي يحل التعايش والاندماج بديلا عن التمييز والاقصاء ؟ هل لدينا القدرة على زرع مفاهيم جديدة تحمل قيم العراق الاصيلة بدل كل الموروثات السياسية القميئة ؟ انني لا اعوّل ابدا الا على الجيل الجديد الذي سيتولى مهام المستقبل .
القوة الناعمة : ادارة ذكية لا زعامة اشقياء
ليس مهمة من يحكم العراق سهلة ابدا ، فالعراق بحاجة ماسة الى قائد ذكي جدا ومتمدن جدا ومثقف جدا ومخلص جدا وله سيرته الحافلة والنظيفة ، فضلا عن حرصه ووطنيته وحياديته وقيمه العليا وعدم انحيازه الى أي طرف كان .. وما دام يقف على رأس البلاد فمن واجبه ان يمثّل كل العراقيين ولا يمثل حزبه او مدينته او طائفته او انتمائه .. بل عليه ان يمّثل كل العراقيين ويخدمهم جميعا ، لا يتحدث بمنطق الاغلبية وهو يدرك بأنه يقف على رأس حزب ديني طائفي لم يضم كل العراقيين في لوائحه وشرائعه وشوارعه .. بل ولم يدرب هذا الرئيس نفسه على جعل تفكيره السياسي المسؤول قوة ناعمة تجاه كل العراق بدل ان يكون متوحشا ازاء طرف ضد اخر ، او منحازا مع هذا الطرف ضد ذاك .. لقد كانت ثماني سنوات عجاف كافية لمعرفة الدرس التاريخي من اجل وصول قائد عراقي يتمتع بالمرونة والتواضع والذكاء والثقافة وان ينجذب كل العراقيين اليه ، ويجده كل عراقي جزءا منه .. وان نكتشف فيه نزوله الى الناس من دون ان يبقى في برجه العاجي ولا يريد احدا الصعود اليه ! هل سنجد قريبا زعيما يرى نفسه مديرا للعراقيين لا رئيسا عليهم ؟ هل سنجد عما قريب قوة ناعمة تعرف كيف تتعامل مع هذا العالم بأجندة وطنية عراقية مستقلة من دون ان يكون تابعا او بيدقا بيد الاخرين ؟
سيد العراق يجمع كل الاطياف
عليه ان يتعلم بأن الفكر السياسي الذي يعمل به في كل العالم اليوم لا يقوم على منطق حكم الاغلبية الطائفية والفرق كبير بينها وبين الاغلبية السياسية.. ان باستطاعته ان يضم كل الاطياف الاجتماعية لو كان حزبه حزبا سياسيا وطنيا يجمع كل الالوان ويتحدث باسم الوطن لا باسم الدين او المذهب ، وسيقبله كل العراقيين لو فعل ذلك وجّرد حزبه من الانتماء الديني او المذهبي او الجهوي ، ولكان كلامه مقبولا في حكم الاغلبية السياسية .. اما ان يهدد بتأسيس حكومة اغلبية برئاسته ، معنى ذلك انه يؤسس لحكم ” طائفة ” ، فهو ينسف في هذه الحالة كل المجتمع نسفا متوحشا .. وبقدر رفضنا استخدام الاغلبية الطائفية في العراق وغير العراق ، فينبغي ان يكون الرفض ايضا لنظام الحزب الواحد في العراق وغير العراق ، فالعراق لا يمكن ان يحكمه هذا النوع من الاغلبية او ذاك الشكل من الاحادية.. ولقد اثبت الواقع ان كلا من الاثنين يعبران عن غباء سياسي وجهل للمجتمع لا حدود له كونهما لا يتمتعان بأفق واسع لا في الرؤية ، ولا في اسلوب الحكم ، ولا عند حدود الديمقراطية ولا في استخدام الاساليب المدنية ، بل في اشاعة الكراهية والتوحش ورسم الطريق لحرب تفني مجتمعاتنا .. وهذا ما تسعى اليه الدول المتطرفة في المنطقة .
كرة النار ام كرة الثلج ؟
لقد تعلمنا من تاريخ مضى او من واقع معاش منذ عشر سنوات خلت بأن الطائفية والتمييز الطائفي مهما كان شكله ونوعه ومضمونه كرة نار ماحقة وليست كرة ثلج متدحرجة ، ومن يلعب بها في مجتمع تملؤه التناقضات كالعراق ، فانما يقوم بحرق الاخضر واليابس معا .. ان المسألة ليست سياسية كما يفهمها بعض الساسة الاغبياء حتى يعيشونها وهم ينادون بالشراكة او التعايش .. انها مسألة تتصل بسايكلوجيات مجتمع تتنوع فيه النزعات والمشاعر ، بل وتفيض عن حدودها المرئية والمخفية ، فكيف يمكن ان يدحرجها القادة السياسيون الجدد في العراق ويتحاصصون على اساسها ؟ انها كرة نار عمياء تكبر بشكل متسارع ومذهل ومتوحش ، فكانت سببا في زرع احقاد وكراهية وثارات .. من خلال استفحال المليشيات الطائفية المسلحة التي وجدت مباركتها من قبل السلطة وممارستها الارهاب والترويع والقتل الطائفي على الهوية لهذا الطرف او ذاك . ولعل اسوأ ما يحدث لدى كل من يفجّر الازمات ولا يعرف كيف يديرها او يعالجها هو من لديه القوة المالية والتغطية الاعلامية ، اذ اضحت السلطة قوة جبارة في تكريس الفساد ، وتسخير الموارد لرسم طريق النار في حرب طويلة الامد ستأكل الاخضر واليابس وستقود الى الفناء البشري . فمن يا ترى يقف معي من العراقيين النجباء في اطفاء كرة النار الملتهبة ؟
المشكلة في التستر على الفاسدين
ليست المشكلة في الفاسدين وحدهم ، ولكن المشكلة الحقيقية تتمثل بالتستر على الفاسدين ، بل واستخدام اسوأ الديماغوجيات في جعل احدهم فاسدا ومبعدا ، ثم جعله بعد حين صالحا ومشاركا . ان الفاسدين في العراق لا يعدون ولا يحصون ، ولكن اين المحققون ؟ اين المعاقبون ؟ من يقطع دابر المفسدين في الارض العراقية ؟ لماذا تكثر الاتهامات وتبث الاشاعات عن جماعات في حين يتم التستر على آخرين من المختلسين والمتهمين والمفسدين الحقيقيين ؟ لماذا يسكت المسؤولون عن ملفات فساد تزكم روائحها الانوف ؟ ان العراق بحاجة ماسة الى من يخدم العراق والعراقيين جميعا بعيدا عن التحيز لأي جماعة وعن التكبر على الناس وعن التستر على الفاسدين .. ابعد كل هذا الفساد وهذه القوائم من الفاسدين والمفسدين يعاد انتخاب بعض المسؤولين عن هذه المرحلة المتوحشة ؟ اليس في العراق نزهاء غير نفعيين وغير متلوثين ؟ هل خلا العراق من المصلحين والشرفاء والخيرين ؟
بعيدا عن الانقساميين والنفعيين
ان الحل الجذري يكمن بيد الناس فيمن ينتخبون وكيف ينتصرون بتأسيس حكومات مدنية واحزاب وطنية وانتخاب أي انسان نظيف غير متلوث بكل المفاسد .. على العراقيين ان ينتخبوا من هو الاكفأ والاقدر والاجدر في حكم البلاد والعدل بين العباد .. عليهم ان يختاروا عراقيا غير طامع لا في السلطة ولا في المال ولا في كرسي الحكم .. وان يعمل الفكر السياسي الحديث عمله لوحده في الميدان .. ان مجرد تفعيل كلا من التشييع او التسنين السياسيين سيقود ذلك الى الصدام المأساوي في العراق شئنا ام ابينا وستشتعل الحرب الاهلية لا محالة .. وسيكون وقودها كل العراقيين – لا سمح الله – ! وعلى العراقيين ان يحكمّوا عقولهم قبل ان تسّيرهم عواطفهم ومشاعرهم الملتهبة .
من اجل عقد اجتماعي جديد
ان الحكمة تنفع كثيرا لكل السياسيين في العراق ، ذلك ان العقل هو الاساس في التحكيم وان الحكمة مطلوبة كثيرا في مثل هذه الظروف الصعبة كي يتمتع بها من يقود البلاد اليوم ، بل ان المهمة الاساسية مناطة بأبناء العراق انفسهم فيمن ينتخبون من المسؤولين . فهل يريد العراقيون حكاما يقدّمون طائفتهم على وطنهم ؟ ولا يجعلون الاخر يعبث ببلادهم ابدا ؟ انهم يريدون حكّاما يخدمونهم بلا اية اجندة غير وطنية ، وهم لا يريدون حكّاما يسرقونهم ضمن اجندات غير عراقية ؟؟ ان الفكر السياسي لا يمكن تشويهه من اجل تمرير اجندات لا تستقيم مع مبادئ أي مجتمع او قيمه العليا ، فأما نكون مجتمعا حديثا تحكمه الاخلاقيات العالية والوطنية الحقيقية والعلاقات المدنية والقانون المدني ، وان ينجح بتأسيس عقد اجتماعي مع الدولة التي يؤسسها من اجل خدمته اولا واخيرا ، وان تعمل كل من الدولة والمجتمع في اطار من الديمقراطية والمفاهيم السياسية الحديثة او نكون مجتمعا تقليديا تحكمه العلاقات العشائرية والتناقضات الطائفية والاجندات المتوارثة والانقسامات ولعبة المكوّنات بعيدا عن الوطن والوطنية والمساواة والاستقلال والتحضر ..
الابوية العراقية من يمتلكها ؟
كل عراقي هو سيد في وطنه لا مسود على ارضه .. كل عراقي شريك في موارد بلده ، لا عبدا او مملوكا لغيره .. كل عراقي له الحق في ممارسة حقوقه وواجباته ضمن القانون بعيدا عن اية اجندات غير عراقية .. ان العراقيين اليوم بحاجة الى قادة جدد ورئيس وزراء يكون ابا للجميع يبتعد عن حزبه وطائفته وماضيه السياسي ليكون سيّدا حقيقيا جديدا للعراق يراعى مصالح كل الناس ويحاسب المفسدين مهما كانوا ، ويحقق في قضايا الفساد الذي استشرى في كل العراق ، ويحيل المسؤولين عن ذلك الى التحقيق ، ويكون شفافا في اعلان كل شيء على الناس .. وعليه ان لا يرى العراق من ثقب عدسة طائفية او ثقب ابرة حزبية قصيرة النظر بل ينفتح على كلّ العراقيين .. يندمج معهم ويفكّر في تلبية خدماتهم ويبعد نفسه عن سفاسف الامور وصغائرها .. يجالس الناس كلهم ويزورهم في بيوتهم ومدارسهم ومجالسهم ومقاهيهم .. لا يفكّر بكرسيّه ومنصبه بقدر ما يفكر بما سيكتب عنه في المستقبل .. عليه ان يشعر بالمسؤولية الملقاة على عاتقه ويحاسب نفسه ، بل ويعترف بالأخطاء ويترك منصبه ان فشل في اداء مهمته .. عليه ان يتواضع كثيرا ليكون بمستوى الاخرين بلا فوقيّة او كبرياء وبلا احاديّة او فردية او نرجسية السفهاء .. وان يكون متسامحا ومتواضعا ومتجرّدا من الانويّة والانانية والاستعلاء والثنائيات ، وان يختار حاشيته من كل فضلاء ابناء الشعب العراقي لا ان يقتصر على ابناء طائفته او منطقته وقد وجدنا منذ اكثر من خمسين سنة كم كانت البطانات والحاشيات من السفهاء والسراق ومعدومي الضمير . عليه ان يكون معلما ورائدا حقيقيا للمجتمع ويوازن بين ذلك وبين ضرورات قيادته المؤسسات في الدولة .عليه ان لا يهجع في مكتبه ، بل تجده دوما في ميادين العمل ويرعى كل الخدمات ويتفقد كل العراق ويلبي حاجات كل العراقيين عند ذاك سيعيش في قلوب العراقيين ان كان ينتصر للعراقيين كلهم بدل الانتصار لنفسه او طائفته او جماعته او حزبه او تحالفه ..
واخيرا …
ان العراقيين لابد ان يتعلموا بعد مرور عشر سنوات كيف يعتزون بإرادتهم باختيار من هو الافضل لتمثيلهم في مجلس النواب كي يكون لهم سلطة تشريعية محترمة تؤدي واجباتها الدستورية على احسن ما يكون ، وهذا ينطبق على من يكون رئيسا للجمهورية شريطة ان يكون رمزا حقيقيا للعراق ولكل العراقيين . فهل سنفلح في صنع قوة ناعمة في العراق بعد كل الازمان المتوحشة التي عاشها كل العراقيين ؟ ام سينكفئ العراق ثالثة ورابعة ويبقى في دوامته الصعبة لا سمح الله ؟ هذا ما سيجيب عنه المستقبل القريب .
نشرت في الزمان اللندنية 3 نيسان / ابريل 2013
http://www.azzaman.net/azzaman/ftp/today/p15.pdf
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيّار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
لا وصاية على جامعاتنا العراقية !
لم أفاجئ أبدا بأفكار السيد علي الاديب وزير التعليم العالي والبحث العلمي في العراق ، …