تاريخ العلاقات الإنتاجية في العراق
مقدمة :
اتواصل معكم ايها القراء وكل المتابعين لهذا الحوار وفي مقدمتهم الاخ والصديق الاستاذ الدكتور كاظم حبيب .. وليعذرني الجميع انني ساعالج باختزال شديد تاريخ العلاقات الانتاجية في العراق ، اذ لا يمكننا ابدا ان نتحدث عن اي علاقات في القرن العشرين ما لم ندرك الجذور التاريخية لواقع ابتلي بالترسبات والبقايا الصعبة .. وليصبر عليّ كل القراء فموضوعات العراق صعبة ومعقّدة وعلينا بحفرياتها ، والا نكون في متاهة مغلقة لا ندرك الاولويات والاسس ولا نتعرف مليا على كل ما انتجه التاريخ الاقتصادي الصعب للعراق ، وأثّر بالضد او باللا ضد في مجتمعنا المتنوع حسب تنوع الجغرافية والبيئات العراقية الخصبة .. ان هذه ” الحلقة ” الثالثة قد خصصتها فعلا للعلاقات الانتاجية في العراق والتوغل في مداراتها الاولى .. وسواء اصبت ام اخطأت ، فالمهمة لابد منها ان كّنا مخلصين فعلا للمعرفة العراقية بعيدا عن اي ميول او اتجاهات .. وانني ساثمن جدا موقف الاخ الدكتور حبيب ان وافقني هذا القول ، وهو رجل اكاديمي مدرك لمقول القول ، وغاياتنا مشتركة ضمن هدف نبيل يخدم العراق وبناء مستقبله وان نكون حياديين ما استطعنا مبتعدين جدا عن المهاترة واساليبها النزقة .. ومن اسمى فضائل الكتابة الاعتراف بما لنا وما علينا ونحن نفتتح هذا ” المنهج ” امام كل الاجيال العراقية التي لن ينفعها بعد اليوم الا الحوار باسمى معانيه.
اولا : العلاقات اقطاعية ام شبه اقطاعية ؟
كتب الصديق الدكتور كاظم حبيب ، قائلا : ” إن قراءتي للمجتمع العربي ليست استعارة ماركسية بأي حال, بل هي تنطلق, في ضوء المنهج المادي, من واقع هذه المجتمعات والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية السائدة فيها, ومن واقع النظم السياسية الحاكمة فيها. لم أشر في مناقشتي مع السيد الدكتور الجميل إلى المجتمع الإقطاعي في الدول العربية, بل أشرت إلى ما اصطلح عليه بالعلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية ذات الطبيعة الآسيوية. وهناك فارق كبير بين أوروبا ونظامها الإقطاعي وبين الدول العربية ونظامها شبه الإقطاعي الشرقي أو الآسيوي, ولا يمكن أن يرتكب في هذا الأمر أي خطأ. ولكن أليست هناك نقاط التقاء في إطار تلك العلاقات الاستغلالية؟ هنا تكمن القضية. نعم هناك نقاط التقاء رغم الفارق الكبير بين المسألتين ” .
هنا اقول للصديق كاظم حبيب متسائلا : ما الخطأ في الاستعارة الماركسية ؟ فنحن نعترف جميعا بأننا لسنا اصحاب المنهج المادي ، بل يقف كارل ماركس على رأسه ، وليس في ذلك عيبا ام قبحا .. اننا نستعير كل شيئ في حياتنا من الاخرين ، فما الضير سواء استعرنا هذا ” المنهج ” او ذاك من مناهج الغربيين ، ولعل المنهج المادي في مقدمة تلك ” المناهج ” وقد ننجح من خلاله في تفسير بعض العلاقات الاقتصادية والاجتماعية وقد لا ننجح ! انني اعترف بأن الرجل قد وصف الحالة العراقية بـ ” شبه اقطاعية ” ، ولكن هل هي حالة كهذه التي كانت سائدة في كل انحاء العراق الزراعي ؟ ام انها كانت منحصرة بامكنة معينة ، وبالذات في بيئات لها مشكلاتها القديمة المتوارثة منذ القرن التاسع عشر ؟ وهل تشابه هذه ” الحالة ” العراقية بقية الحالات التي عرفتها البيئات العربية الزراعية ؟ واذا كانت هناك نقاط التقاء يسن الحالة العراقية والحالات الاوربية ، فما هي بالذات باستثناء الاستغلال الذي يتفق حوله الجميع .
قلت يا صاحبي ” إن مجتمعنا يغوص حتى الآن أكثر فأكثر في عمق الثقافة الدينية الفلاحية الإقطاعية المتخلفة وغير المتنورة التي ستقيد حركة المجتمع وتعرقل وجهة تطوره الديمقراطية ” . انني اهيب بك انك بقيت تؤكد في معالجاتك ، ان الحالة ” شبه اقطاعية ” ، واذا كنا نحن الاثنين قد اتفقنا على ان الحالة ” شبه اقطاعية ” ، فهل توافقني الرأي ان معظم الادبيات السياسية والكتابات والبيانات الحزبية والصحافة الثورية وحتى المطبوعات الفكرية والمقالات الاكاديمية التي انتجها العراقيون على مدى سبعين سنة كانت تطبع الحالة بـ ” الاقطاعية ” عن قناعة راسخة ، ولكنها قناعة سياسية وايديولوجية وليست قناعة علمية ومعرفية .
ثانيا : طبيعة العلاقات الانتاجية في العراق
1/ النصوص
يقول الدكتور كاظم حبيب ويوافقني في ذلك : ” .. وهناك فارق كبير بين أوروبا ونظامها الإقطاعي وبين الدول العربية ونظامها شبه الإقطاعي الشرقي أو الآسيوي, ولا يمكن أن يرتكب في هذا الأمر أي خطأ. ولكن أليست هناك نقاط التقاء في إطار تلك العلاقات الاستغلالية؟ هنا تكمن القضية. نعم هناك نقاط التقاء رغم الفارق الكبير بين المسألتين ” .
لقد ركّز الرجل على العراق بقوله : ” لنأخذ العراق في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وليس في فترة مدحت باشا التي عرفت الإصلاحات المهمة, كما ولنتابع أيضاً السياسات التي مارستها قوانين أرنست داوسن التي أصدرتها الحكومة العراقية في العام 1932 في قضية الأرض الزراعية في العراق .. ” .
لقد ركّز الدكتور حبيب على العراق في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين على قضية الارض الزراعية ، ومشكلة الارض الزراعية في العراق ليست وليدة هذه الفترة التاريخية ، انما تعود الى تواريخ قديمة ، فالصراع على الارض والماء في العراق قديم جدا ومزمن مع توالي كل العهود ..
” لنأخذ العراق في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وليس في فترة مدحت باشا التي عرفت الإصلاحات المهمة, كما ولنتابع أيضاً السياسات التي مارستها قوانين أرنست داوسن التي أصدرتها الحكومة العراقية في العام 1932 في قضية الأرض الزراعية في العراق لتعرفنا على مسألتين مهمتين, وهما:
لقد ركز الدكتور حبيب ايضا على مسألتين مهمتين بقوله : ” 1. تميزت الفترة الأولى بانتزاع المزيد من الأراضي الزراعية من صغار الفلاحين والمنتجين ومن الأراضي التابعة للديرة في فترة العلاقات الأبوية أو التي رقبتها للدولة, التي بحث فيها الأستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري بعمق كبير في كتابه القيم حول تاريخ العراق الاقتصادي, أو الأراضي التابعة للدولة , وفق حكم الخليفة عمر بن الخطاب حين قرر, بعد استشارة الصحابة. “أن رقبة الأرض في العراق تعود للدولة”, كما بحثتها في كتابي الموسوم “الإصلاح والتعاون الزراعي في العراق ” في العام 1976, التي تم تسجيلها باسم السلطان عبد الحميد “الأراضي السنية”, ومن ثم وفق قوانين دواسن (اللزمة والتفويض بالطابو) في الفترة الثانية التي تم تسجيلها باسم شيوخ العشائر والميسورين وجمهرة من التجار الأغنياء, حيث واصل الفلاحون الفقراء والمنزوعة أرضهم يعملون في تلك الأراضي الزراعية التي أصبحت عائدة ملكيتها أو حق التصرف بها لأولئك الشيوخ أو هربوا إلى المدن حيث البطالة والعوز والحرمان. أورد هنا إحصائية واحدة لكي يمكن أن نعرف طبيعة العلاقات التي سادت الريف العراقي في فترة العهد الملكي على الأقل وقبل صدور قانون الإصلاح الزراعي الأول رقم 130 لسنة 1958 أو القانون رقم 117 لسنة 1970 أو القانون الخاص بكُردستان العراق رقم 90 لسنة 1975. (راجع: حنا بطاطو. العراق الكتاب الأول. بيروت. مؤسسة الأبحاث العربية. ترجمة عفيف الرزاز. 1990. ص 76) ” .
2/ نقد النصوص
لا يمكننا البتة القول بأن نظام العراق الزراعي قد بقي على حاله منذ عهد الخليفة عمر بن الخطاب حتى عهد الملك فيصل الاول ، واذا ما درسناه اوضاع العراق الزراعية والمجتمع الفلاحي العراقي ابان القرن العشرين ، فينبغي علينا ان ندرك بالتفاصيل كلها ما الذي حدث في القرن التاسع عشر من تحولات جذرية اتت اكلها من تناقضات في القرن العشرين .. واذا وجدنا ان حالة الفلاحين العراقيين منكودة ومهترئة في القرن العشرين ، فليس معنى ذلك ان المسؤولية لا يتحملها الا حكام العراق في القرن العشرين من دون محاسبة من سبقهم من الحكام ؟
واذا كانت البنية الاجتماعية العراقية هي التي تحمل بقايا تاريخ اقتصادي مرير خلقته انظمة اقتصادية قديمة ، فليس معنى ذلك ان البريطانيين هم الذين خلقوا ( الاقطاع ) وأوجدوا ( القبيلة ) وصنعوا ( العشيرة ) .. وانهم كانوا وراء صناعة العراق الاجتماعي في القرن العشرين .. واذا كان البريطانيون وراء اصدار قانون تسوية الاراضي وقانون اللزمة .. فليس معنى ذلك ان القانونين اتيا من فراغ ؟ لقد سبقتهما قوانين صدرت حول الاراضي والطابو والتسوية .. ابان العهد العثماني . واذا كنا ننعي على المجتمع الفلاحي العراقي اوضاعه السيئة في القرن العشرين ، فليس معنى ذلك ان مجتمعات زراعية اخرى في كل دول منطقة الشرق الاوسط كانت متطورة وعادلة وينتفي منها ( الاقطاع ) ! واذا درسنا التاريخ الاقتصادي للعراق بكل دقة وتركيز سنجد ان ثمة فروقا هائلة في الانظمة الاقتصادية التي حكمت طبيعة المجتمع العراقي بين شماله ووسطه وجنوبه .. او لما بعد دجلة شرقا مقارنة بما هو عليه الحال لما بعد الفرات غربا !
لا يمكن ان نتكلم عن دهاقين العراق القدماء ونقرنهم بـ ( الاقطاعيين ) العراقيين الجدد ! لا يمكننا ابدا ان نختزل مثل هذا ” الموضوع ” الخطير ببضعة جمل لاكتها السننا ازمنة مضت وتناقلها الناس عبر الصحف والدعايات الاذاعية والكتابات الايديولوجية الانشائية العادية كي نبني عليها احكاما اساسية ونحن نمتلك ناصية البحث العلمي ! ليس من الصواب ابدا ان انقل تجربة المنهج الماركسي في دراسة مجتمعات لم تزل زراعية وان علاقاتها حتى اليوم انما تختلف عن تلك العلاقات الاقطاعية التي سادت في القرون الوسطى الاوربية . وحتى مكانيا لا يمكننا مقارنة العلاقات التي سادت بين الفلاح وشيخ العشيرة في العراق مع تلك التي سادت بين الفلاح والمّلاك الاقطاعي في مصر قبل مائة سنة .
3/ هل من تجديد في التفكير الماركسي العراقي ؟
ومن المؤسف ان معظم القراءات الماركسية لطبيعة العلاقة الاجتماعية في المجتمع العراقي قد اوقعت نفسها في نفس الاخطاء ، وليس في ذلك اي عيب ، تلك التي وردت لسببين اساسيين هما :
1) احادية المنهج الماركسي
يبدو الامر بوضوح كامل واعتراف واضح بأن هناك احادية في التطبيق للمنهج الماركسي الواحد من دون استخدام اي منهج آخر الى جانبه .. انهم لم يستخدموا ابدا ايا من المناهج الجديدة بدءا بالتوسير في تفكيك العلاقة الانثربولوجية وانتقالا الى ماكس فيبر في تحليل علاقات القرابة والسلطة ووصولا الى منهج دوركهايم في توصيف احادية البيئة الاجتماعية ولا منهج كارل مانهايم في تبيان خصوصيات المواريث الاجتماعية .. الخ ، ومع اسمى اعتزازي بهم ، فان اغلب من درس المجتمع العراقي من الزملاء المفكرين الماركسيين لم يتجاوزوا منهجهم الماركسي في دراساتهم المجتمع العراقي ، باستثناء حنا بطاطو الذي بقي على منهجه الماركسي في تحليل العلاقات الاجتماعية ، ولكنه استخدم منهج القرابة لماكس فيبر ولكن فقط في تحليل العلاقات السلطوية السياسية التي حكمت طبيعة العوائل لا العشائر ، اي انه اقتصر على الحكام والبيكات والباشوات والاعيان والضباط الكبار من دون الشيوخ والاغاوات والملاكين والوكلاء والسراكيل ..
2) استمرار في استخدام الخطأ
ان من اعتمد الشعارات السياسية التي راجت بعد الحرب العالمية الثانية ، وخصوصا تلك التي اعتمدها الحزب الشيوعي العراقي من اجل اهداف سياسية نضالية ضد السلطة الحاكمة القائمة عهد ذاك .. بقيت مستمرة على ايدي كل الكتاب والمؤرخين والمفكرين والاقتصاديين الماركسيين العراقيين .. انهم لم يتحولوا ابدا من خنادقهم الايديولوجية القديمة نحو رؤى جديدة في البحث العلمي والحقول المعرفية الواسعة .. وهذا ما جنى على تفكير الاجيال قاطبة .. وباستثناء الدكتور كاظم حبيب وندرة من الاخرين الذين اعترفوا بان العلاقات كانت ” شبه اقطاعية ” وليست اقطاعية بحتة ، فان الجميع كان ولم يزل يطلق ببساطة مصطلح ” الاقطاعي ” في العراق .. انهم ما زالوا يرددون ( المجتمع الاقطاعي في العراق ) من دون ان يميزوا بين طبيعة العلاقات الاقطاعية الحقيقية عن تماسك العلاقات العشائرية الوثيقة .. ولم يفرقوا بين مجتمع اقطاعي ومجتمع عشائري .. ولم يميزوا بين اقطاع اجتماعي واقطاع عسكري .. لم يميزوا بين نظام الالتزام وبين نظام الساليانة وانظمة اخرى منها نظام العشائر .. لم يخصصّوا اين كانت بالضبط العلاقات الاقطاعية بين الشيخ وافراد عشيرته من الفلاحين ، وفي اية بيئات .. فمثل تلك العلاقات موجودة في اماكن محددة فقط من جنوب العراق اذ لم نشهد مثلها لا في مناطق الفرات الاوسط ولا في مناطق غربي العراق ولا في منطقة الموصل والجزيرة ولا حتى في المناطق الكردية .. انهم لم يدركوا الفروقات الاساسية في علاقات الفلاحين بالملاكين العراقيين في مناطق الزراعة السيحية عن مناطق الزراعة الديمية .. الخ
4/ نزاهة المقاصد مقارنة باستلابات الماضي العقيم
واود هنا ان اشير على الاخ الدكتور كاظم وكل الاخوة الكتّاب الماركسيين انني عندما اقدم ملاحظات نقدية ، اشهد انها تنطلق من رغبة علمية جامحة ولا يمكنها ان تنطلق ابدا من نزعة قومية فاشية او من تخندق حزبي شوفيني او من موقف سياسي رجعي او من تزّمت ماضوي سلفي .. كما كنّا نقرأ من كتابات عراقية ضد المؤلفين والمفكرين الماركسيين العراقيين .. وقسم من تلك الحملات ضدهم كانت سببا في قطع ارزاقهم واضطهادهم وتحجيم ادوارهم .. علما بأن ثمة مفكرين ماركسيين عراقيين كانوا مبدعين ورائعين في نتاجاتهم وتحليلاتهم التاريخية والفكرية لمسائل عديدة في التراث والفكر والفن والتاريخ . ولعل من المضحك ان يبيع من هو ضدك عليك في حين انه يأخذ منك ويستلب كل المفاهيم . وهنا عّلي ان اقول بأن ردود الفعل من قبل الكتاب الماركسيين العراقيين على غيرهم من البعثيين والقوميين والناصريين والسلفيين كانت ضعيفة ، بل ومبتسرة اذ اتفهم جدا الاسباب الحقيقية لذلك .
5/ استلاب المفهوم الماركسي
ان هذا الذي اذاعه ونشره الماركسيون والشيوعيون العراقيون ولاكته الالسن ، بل وترسّخ في الوجدان العراقي لم يبق اسير التيار اليساري .. بل استلبه الاخرون من عراقيين وغير عراقيين ، فمن يكونوا ؟
اولا : لقد اخذه الاخرون من تيارات سياسية عراقية أخرى ليسوقوا بضاعته باسمهم .. انهم لم يستعيرونه ويعترفوا بفضل من منحهم اياه ، بل اخذوه عنوة واخذوا يجاهرون به بضاعة سياسية واعلامية وصل بعضهم للسلطة من خلاله . ان تعبير ” الاقطاع ” اخذه الاصلاحيون والفئة البورجوازية والاشتراكيون والقوميون والبعثيون والناصريون وحتى بعض الاحزاب الدينية في العراق .. لقد اصبح المفهوم بالرغم من خطأ استخدامه بضاعة سياسية للتقرب من الجماهير والكسب السياسي من خلاله ..
ثانيا : ولم يقتصر الامر على العراقيين في تياراتهم واحزابهم فقط ، بل نجد المصطلح نفسه يستلبه الاخرون من كّتاب وصحافيين غربيين ومن مؤرخين ومستشرقين غربيين ماركسيين وغير ماركسيين .. انهم يرددون ” المصطلح ” وهم يدركون مفهومه تماما ، ولكنهم لم يدركوا طبيعة العلاقات الانتاجية في العراق ، بل ولم يعرفوا طبيعة التنوع في تلك العلاقات بين الفلاحين وشيوخ عشائرهم .. انهم لم يدركوا طبيعة العلاقة العشائرية التي ربطت المجتمع الفلاحي بالعراق !
6/ ما علاقة الدهاقين بالموضوع ؟
هنا اعود الى نص الدكتور كاظم حبيب كي أسأل : ما علاقة مشكلة الارض في العراق قبل الف سنة لما كانت عليه مشكلة الارض في العراق قبل مائة سنة ؟ ما علاقة ما كتبه الاستاذ عبد العزيز الدوري في مؤلفه ( تاريخ العراق الاقتصادي ) الذي نقل منه الدكتور كاظم حبيب نصا من الصفحة 59 يقول ولما فتح العرب السواد، تركوا تنظيم القرية على ما كان عليه. فكان لكل قرية رئيس يدعى (دهقان) يشتغل اهل القرية له. ثم ظهر بالتدريج ملاكون جدد بجنب الدهاقين الذين هبطت منزلتهم الى مجرد جباة وقد كشفت الوثائق عن طبيعة الفروض والواجبات التي تقدم للاقطاعي .( انتهى ) ما علاقة هذا بموضوعنا ؟ هل يريد الدكتور حبيب تشبيه الدهاقين في الماضي بالاقطاعيين في الحاضر ؟ لا ارى اي وجه للمقارنة ولا حتى للتشبيه ، فالفرق كبير بين الاثنين حتى لو اعتبرنا ان هناك اقطاع حقيقي في العراق قبل مائة سنة ؟
ثالثا : العراق ازاء النظام العثماني والتنظيمات العثمانية
1/ زوال الاقطاع العسكري
لا يمكن القول ابدا يا عزيزي الاخ كاظم حبيب ان كل اراضي العراق كانت من الاراضي السنية التابعة للسلطان العثماني ابان العهد العثماني ، فاراضي العراق كما تم تصنيفها حسب قانون الاراضي الذي اصدرته الدولة العثمانية عام 1858 والذي صدر بغرض الفصل بين ما لاصحاب تملك الاراضي وما للحكومة من الحقوق فيها وجاء في 132 مادة مستمدة من الشريعة الاسلامية والاعراف القانونية السابقة ومن الشرائع المدنية الاوربية كالقانون الالماني والفرنسي والانكليزي وهو القانون الذي ارسى قواعد الاقطاع لا على اسس عسكرية كالذي ساد منذ عهد السلطان سليمان القانوني 1520- 1566 باسم الاقطاع العسكري ، بل ان قانون الاراضي اعتبر خطوة اصلاحية متقدمة من قبل العديد من المؤرخين كونه حرّر الارض من قبضة العسكريين ومن النظام القديم الذي جثم على مجتمعاتنا قاطبة لاكثر من ثلاثة قرون ، ولكنه بدل ان ان يقوم باصلاح امر الطابو قام بتمليك الارض الى كبار الملاكين واغلبها من الاراضي الاميرية .
اما انواع الاراضي حسب القانون الجديد ، فهي خمسة انواع : الاراضي المملوكة وهي اراض ملك صرف ، والاراضي الميرية (= الاميرية ) وهي اراضي دولة ، والاراضي الموقوفة ، والاراضي المتروكة ، واراضي الموات. اما الاراضي المملوكة وهي اهمها ، فهي اربعة انواع ، هي : العرصات داخل القرى والقصبات ، والاراضي المفروزة من الاراضي الاميرية ، واصبحت ملك صرف ، والاراضي العشرية والاراضي الخراجية ( يجد الاخ الدكتور كاظم حبيب والقراء الكرام تحليلات واسعة ومقارنة في كتابي الموسوم : تكوين العرب الحديث ، ص 343- 344) .
2/ نظام الالتزام :
ان العلاقات الانتاجية العراقية في القرن العشرين هي وليدة ميراث طويل من الانظمة الاقتصادية للعثمانيين ليس في العراق وحده ، بل في اغلب المجتمعات الزراعية التي وقعت تحت الهيمنة العثمانية .. ولم يكن مصطلح ( اقطاع ) و( اقطاعي ) كاللذين يفسرهما المنهج الماركسي ، او حتى تلك التفاسير الاوربية لما ساد في اوروبا من علاقات انتاج زراعية تشبه العلاقات الانتاجية كالتي وجدناها في مجتمعات كالعراق وسوريا ولبنان ومصر وايران وتركيا .. مثلا ان الاقطاع الذي عرفته منطقتنا هو الاقطاع العسكري الذي تمنحه الدولة او السلطة العثمانية العليا الى كل الاغوات والبيكات والبكلر بيكات (= الباشوات ) الذين يقدمون خدمات كبرى للدولة .. وتلك الاقطاعات تشتمل على : التيمار والزعامت والخواص .. ضمن نظام الالتزام كواحد من النظم الاقطاعية العسكرية المعقدة في التاريخ ، وكانت له اعرافه واساليبه . فالتيمار ، اقطاع يضم اراض زراعية يمتلكها ” التيمارجي ” يتراوح مساحته بين 300 – 500 فدان . ام الزعامت ، فهو اقطاع اكبر من التيمار ، اذ تزيد مساحته عن 500 فدان من الاراضي الزراعية . اما الخواص او الخاص فهو اقطاع كبير ، جاءت تسميته من خاصلر بمنحه الى الوزراء .. وهناك عدة اراضي مسجلة خواص باسم السلطان تحت عنوان ” خواصي همايون ” . لقد استخدم العثمانيون في العراق نظام الالتزام ونظام الساليانة ، وفي كلتا الحالتين لحق ضرر بالغ بالعراقيين ، اذ تسجل المعلومات التاريخية ان نصف واردات العراق كانت تذهب الى مركز السلطنة العثمانية ( راجع دراسات المؤرخ التركي خليل انالجيك حول اقتصاديات الامبراطورية العثمانية ).
3/ العراق ازاء ثمانية انظمة عثمانية
ان ثمانية أساليب انظمة إدارية واقتصادية كانت الدولة العثمانية قد استخدمتها في ألويتها وولاياتها المختلفة عبر تاريخها، وهي: التيمار والأوجاقلق والحكومة وإمارة العشيرة والآربالق والساليانة والالتزام والمالكانة، ويأتي أسلوب التيمار على رأس تلك الأساليب ، اذ جرى تطبيقه على الألوية التي خضعت لعملية مسح الأراضي وإحصاء السكان، من اجل تقدير الضرائب. وان الولايات والاقاليم التي طبق فيها هذا النظام ، فهي: الشام وحلب والرقة والموصل وشهرزور التي كانت تتبع الموصل وتبعت بغداد في احيان اخرى ، وكانت قد تخصصت بموجبه عدة إقطاعات محددة لمسؤولي الحكومة الذين يتصرفون بمواردها. ويعتبر هذا الأسلوب أساساً للاقتصاد الزراعي في الدولة العثمانية، واستمر إلى أواخر القرن التاسع عشر. أما أسلوب الأوجاقلق فوفقه أشركت الدولة الأسر والزعامات المحلية التي وقفت إلى جانبها، وأعلنت ولاءها لها في إدارة أقاليمها، حيث عينتهم أمراء محليين لإدارة ألوية وسناجق ، يتصرفون بها مدى العمر. وشاع استخدام هذا الأسلوب في الولايات العربية منذ بداية انضوائها تحت الحكم العثماني. وحملت بعض الألوية اسم «حكومة»، وأطلق على أمرائها اسم «حكام» لتدار بأسلوب الحكومة الذي يشبه الأوجاقلق، حيث يكون الحكم وراثياً ضمن الأسرة المحلية، لكنه يختلف عنه في عدم تدخل الدولة في موارد اللواء أو في تعيين الحاكم أمير السنجق الذي يتعين عليه المشاركة بمقاتليه في الحملات السلطانية عند الطلب.
4/ النظام العشائري وتكريسه في العراق
ونظراً لتميز معظم البلاد العربية بالطابع العشائري، فإنه لم يكن من السهل إخضاع العشائر من دون إتباع سياسة محلية ولا مركزية معها، وعليه فقد سعت الدولة العثمانية إلى استمالتها وكسبها بطرق واساليب مختلفة. وكانت مضطرة إلى إتباع سياسة وفاق وتهادن معها من أجل استتباب النظام الامني وحماية مصالحها في مناطق العشائر، وعليه ، فقد أقرّت الدولة الكيان العشائري بوصفه كياناً اجتماعياً قائماً بذاته، فنظمت قسماً من العشائر الكبيرة على شكل لواء، وجعلت من رئيس العشيرة أمير السنجق، وحظيت عشائر بني طي وبني ربيعة وأبو ريشة بإمارة السنجق أو اللواء.
5/ الاربالق والساليانة في بغداد والبصرة
وكان يتمّ بموجب أسلوب نظام الآربالق منح لواء أو أكثر من لواء وسنجق إلى بعض رجالات الدولة الكبار ، من ضمنهم الوزراء والولاة برتبة بكلر بك كي يتصرفوا بمواردها الاقتصادية لتغطية نفقاتهم الشخصية، أو لتغطية نفقات بعض الولايات أو الألوية، التي لا تكفيها مواردها. وشاع استخدام هذا النظام في القرن السابع عشر. في حين أن أسلوب نظام الساليانة ينهض على جمع موارد الولاية باسم خزينة الدولة بشكل مباشر، بعد أن يتم تخصيص مرتبات المسؤولين ونفقات الولاية المختلفة من هذه الموارد، ويرسل المتبقي منها إلى خزينة الدولة . وطبق في ولايات مصر وبغداد والحبشة وتونس والبصرة وسواها ( راجع دراسة الصديق الدكتور فاضل بيات عن الدولة العثمانية في المجال العربي واعتماده على الوثائق العثمانية ).
6/ الالتزام في الموصل
أما أسلوب نظام الالتزام، فكان الوالي أو أمير السنجق( = اللواء ) يتعهد بموجبه بدفع مبلغ من النقود سنوياً إلى خزينة الدولة، فيتم إقراره باعتباره واردات ضريبية للولاية أو اللواء، . ولقد استخدم في معظم اقاليم ولايات بلاد الشام ومصر والعراق والإحساء. وكانت الولاية أو اللواء تمنح للملتزم مدى العمر، ضمن أسلوب حمل اسم «المالكانة»، لأنها ستكون بمثابة ملك صرف للملتزم.
7/ الانقسامات في ظل السلطنة
لقد عمدت الدولة العثمانية إلى تقسيم الولايات، ذات المراكز الحضرية والتاريخية المنتشرة في مختلف أرجائها، إلى ولايات متعددة ( في الاصل : ايالات ) ، كي تتمكن من إدارتها وحكمها بسهولة، فقسمت بلاد الشام إلى خمس ولايات، وقسمت العراق إلى ثلاث ( ثم : أربع ) والجزيرة العربية إلى ثلاث ولايات، في حين أنها نظمت مصر في ولاية واحدة، نظراً للوضع الخاص الذي كانت تتمتع به، اذ كانت مركزاً لدولة المماليك المستقلة قبل خضوعها للدولة العثمانية.
رابعا : نشوء الملكيات الجديدة للارض الزراعية العراقية
1/ القوانين الجديدة في عصر التنظيمات
استمر هذا ” النظام ” حتى عصر التنظيمات العثمانية حيث صدرت عدة قوانين اصلاحية اساسية اثرت تأثيرا مباشرا في المجتمع العراقي .. وليس في جميع اصقاع الارض الزراعية العراقية .. لقد صدر قانون الاراضي عام 1858 ، ثم صدر قانون الطابو عام 1859 واعقبه قانون التسوية ، ثم صدر قانون الولايات عام 1864 انني اعتبر تطبيق تلك ” القوانين ” قد جر العراق الى مرحلة جديدة من علاقات الانتاج السيئة . ان تسجيل الاراضي في الطابو قد احدث مشكلات لا حصر لها في المجتمع ، من خلال فرض القوي سطوته على الضعيف ، فكان شيوخ العشائر خارج المدن الاساسية هم الذين فازوا بتسجيل افضل الاراضي باسمائهم حتى وان امتلكوا سندات قديمة تثبت ذلك .. ورؤساء العشائر العراقية لم يأتوا من فراغ ، بل كانوا اعضاء في بنية اجتماعية كانت الدولة معترفة بها وبنظامها العشائري ، فلا غرابة ان يسجل هؤلاء الارض باسمائهم ..
2/ بقاء مشكلات الارض العراقية واستمرارها
وكانت الشرائح من اعيان المدن قد سعوا الى تسجيل ما يتملكونه من اراض باسمائهم .. ولما ازدادت المشكلات والتنازع حول طبيعة الملكية اذ ظهرت مشكلة الاراضي ملك صرف والاراضي الاميرية واراضي العرصات واراضي البوار .. الخ ان قانون التسوية لم يحسم على مدى عقود طويلة من السنين مشكلات الارض العراقية التي لم يدرك تعقيداتها اغلب الناس ومنهم الكتاب وحتى المؤرخين العراقيين .. كونهم ينطلقون من افكار مسبقة شاملة لجميع اصناف الاراضي العراقية كما يطلقون احكامهم جزافا على جميع الملاكين من دون اي تمييز بين شمال وجنوب .. بين شيوخ عشائر ريف و ملاكين اعيان حضر .. بين بساتين النخيل الى مزارع الشلب الى حقول الحنطة والشعير الى مزارع الخضراوات والفواكه والحمضيات الى الزراعات المتاحة .
3/ واخيرا : حصيلة المواريث والترسبات التاريخية
وعلى الرغم من التطبيق الجزئي لهذا القانون بسبب التحديات التي واجهت تطبيقه خاصة من النظام العشائري من جهة والادارة العثمانية المتخلفة من جهة اخرى فقد كان هذا القانون بداية نشوء الاقطاع في العراق. اما في العهد الملكي فقد سيطر النظام الاقطاعي حيث امتلك زهاء 2% فقط من مجموع المزارعين مالكي الاراضي زهاء 68% من الاراضي الزراعية وساد نمط من العلاقات الانتاجية اتسم بالاستغلال الاقطاعي للعشيرة حيث تحول الكثير من رؤساء العشائر الى اقطاعيين استغلاليين لدرجة جعلت الفلاحين شبه ارقاء وقد ساهمت الادارة البريطانية بعد احتلال العراق وسياسة الانتداب البريطاني ثم سياسة العهد الملكي الى زيادة مركز الاقطاع سياسيا واقتصاديا على حساب الفلاحين حيث اخذت السلطة البريطانية ومعها المجموعة الحاكمة تمليك الاراضي الاميرية وتسجيلها باسم كبار الملاكين وشيوخ العشائر فضلا عن منح الاراضي الزراعية التابعة للدولة الى ذات الفئات الاجتماعية لتوطيد دورها ومكانتها الاقتصادية وبالتالي السياسية والاجتماعية في المجتمع.
خامسا : ماذا نستنتج ؟
ثمة استنتاجات يمكننا ان نتأمل فيها ، وتساعدنا في الحقيقة لفهم مضامين الحلقات القادمة ، يمكنني ان اسجلها في ادناه :
1/ ان العلاقات الانتاجية المهترئة في العراق ابان القرن العشرين لم تكن وليدة من فراغ .. بل انها بقايا وترسبات الماضي بكل تناقضاته الصعبة .
2/ لم يطبق في العراق نظام اقتصادي واحد في كل اصقاعه كي ينتج علاقات طبيعية ومتشابهة ، بل كانت هناك عدة انظمة واساليب فاقمت من حجم الازمات التي اصطدم بها المجتمع بعد وجد نفسه محتلا من قبل البريطانيين .
3/ لا يمكننا البتة من التعويل على المنهج المادي لوحده في دراسة طبيعة العلاقات الانتاجية العراقية ، اذ ان ثمة نسيجا من المشكلات الاقتصادية زراعية واروائية وملكية اراضي .. الخ بحاجة ماسة الى استخدام مناهج معرفية اخرى .
4/ صدقت الى حد الان اراء الدكتور كاظم حبيب في توصيف العلاقات الانتاجية في العراق بأنها كانت ” شبه اقطاعية ” وليست ” اقطاعية ” .. وبذلك فهو يصحح لأول مرة ما ساد من مفاهيم خاطئة ان العلاقات كانت اقطاعية صرفة .
5/ ان ما تقدم في اعلاه سيؤكد في قابل الايام الاسباب العميقة لفشل تجارب واخفاق مناهج حكم واحزاب وتيارات سياسية في العراق ابان القرن العشرين بسبب ضبابية الرؤية ازاء المجتمع العراقي ومشكلاته المستديمة المستعصية .. وادانة الاستعمار واذناب الاستعمار من دون فهم العوامل الداخلية الخفية والمعلنة .
تنشر هذه الحلقات تباعا في موقع الدكتور سيار الجميل
21 ديسمبر / كانون الاول 2007
انتظروا الحلقة الرابعة رجاء
www.sayyaraljamil.com
جادة حوار عراقي.. مقاربات ومباعدات بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب (الحلقة الثانية)
جادة حوار عراقي.. مقاربات ومباعدات بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب (الحلقة الأولى)
الرئيسية / حوارات / جادة حوار عراقي.. مقاربات ومباعدات بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب.. الحلقة الثالثة
شاهد أيضاً
ملف: إمكانية حكم دكتاتور عادل للعراق.. حوار عراقي مصري بين الدكتور سيّار الجميل والأستاذ عبد الله كمال على روز اليوسف المصرية
مقدمة كتب الصديق الأستاذ عبد الله كمال عضو مجلس الشورى المصري ورئيس تحرير كل من …