جاء في مقال كتبه الاستاذ رشيد خشانة الصحفي التونسي المعروف بعنوان : ” غياب الطالباني عن المشهد العراقي نسف آخر جسر بين المالكي وخصومه ” مقتطفات من حوار اجراه مع المؤرخ الاستاذ الدكتور سيّار الجميل ، قائلا :
يعتقد كثير من العارفين بالشأن العراقي أن غياب رئيس الجمهورية جلال الطالباني عن المشهد السياسي في هذه الفترة الدقيقة حال دون التوصل إلى صيغة سياسية جديدة تُحجم دور المالكي وتكرس توازنا من نوع جديد. وكان الطالباني يحاول القيام بوساطة بين رئيس الحكومة نوري المالكي وخصومه بعدما بلغت التناقضات في العراق، إن على الخط الطائفي أم المناطقي أم الحزبي، مستوى من الإحتقان لم تصله منذ الغزو الأميركي للبلد قبل عشر سنوات. لكن الطالباني أصيب بجلطة دماغية بعد اجتماع عاصف مع المالكي، في أعقاب وصوله من كردستان، حيث استمع إلى دعوات ملحة للتوسط. وكانت محاولة الوساطة ترمي لوقف الانزلاق نحو مواجهة اكتست طابعا سياسيا أكثر منه طائفيا بين المالكي من جهة والسنة الذين يشكلون الأغلبية في البلد وقسم من الشيعة الذين ضاقوا ذرعا باستبداده، إضافة إلى الأكراد من جهة ثانية. واستفحل الخلاف بين اقليم كرستان العراق والحكومة المركزية إلى درجة أن الفريقين حشدا قواتهما على حدود الإقليم، قبل اندلاع المظاهرات الأخيرة، وخاصة في المدن والمناطق المتنازع عليها، أي التي لا تسكنها غالبية كردية وتصر حكومة كردستان على ضمها إليها.
وعلى رغم أن عراقيين كثرا يرفضون الاعتراف بأي دور إيجابي لطالباني، انطلاقا من توجسهم من صداقته مع طهران، مُذكرين بأنه جلس إلى جانب الرئيس الإيراني ولم يوجد بينهما سوى علم واحد هو علم إيران، ليست هناك في العراق اليوم شخصية قادرة على محاورة المالكي وخصومه في آن معا عدا الطالباني. وينص الدستور العراقي الذي وضع في ظل الإحتلال على أن “يحل نائب رئيس الجمهورية بدلا من الرئيس عند غيابه”. وفي هذه الحال فإن نائبيه لا فرص لهما في الصعود إلى سدة الرئاسة بحكم المحاصصة الطائفية السائدة منذ احتلال البلد في 2003. فإذا ما ابتعد هذا الأخير نهائيا عن مسرح السياسة، فالظاهر أن الرئيس المقبل لن يملك من الأوراق ما يملكه الطالباني، إذ أن المرشحين لخلافته، إذا ما استثنينا نائب الرئيس خضير الخزاعي (وهو شيعي يحمل الجنسيتين الايرانية والكندية) وطارق الهاشمي وهو سني ومحكوم بالإعدام غيابيا خمس مرات، هم ثلاثة: برهم صالح (كردي) وهو نائب الطالباني في رئاسة الاتحاد الوطني الكردستاني ورئيس البرلمان أسامة النجيفي (عربي سني) و… زوجة الطالباني التي تحتل موقعا متقدما في حزبه وهي كردية.
منزلق طائفي
والأرجح ألا يفتح السنة ملف استعادة رئاسة الجمهورية التي انتزعت منهم في 2004 وأعطيت إلى رئيس كردي للمرة الأولى في تاريخ العراق، لأنهم يريدون كسب الأكراد إلى صفهم في المعركة التي فتحها عليهم المالكي. وكرست الهجومات الأمنية والملاحقات القضائية التي أمر بها المالكي ضد شخصيات سنية بارزة بدءا من نائب الرئيس طارق الهاشمي، وانتهاء بوزير المالية رافع العيساوي، الذي اعتقل أفراد حمايته أمام عينيه وفي مكتبه بالوزارة، عندما كان في اجتماع رسمي مع نائب رئيس الوزراء من دون أن يستطيع فعل شيء لحمايتهم، كرست المنحى الطائفي للصراع، والذي بدا أيضا كصراع بين العرب العراقيين سنة وشيعة من جهة وإيران من جهة ثانية. ويتساءل كثير من العراقيين عن الاسباب التي جعلت 95 في المئة من المعتقلين في سجون البلد من السنة، مؤكدين أنه مؤشر على الحرب الطائفية التي تخوضها الحكومة ضدهم بلا هوادة.
عصيان مدني
وزادت هذه الأجواء المشحونة تلبدا بالصراع الدائر في سوريا المجاورة، والتي يقف فيها المالكي بشكل صريح مع نظام بشار الأسد مُسهلا نقل الدعم العسكري واللوجستي الإيراني إلى سوريا عبر العراق، بينما تتعاطف الغالبية السنية مع الثوار السوريين. وفي خضم هذا الاحتقان الطائفي خطت المناطق السنية المعارضة للمالكي خطوة جديدة بإعلانها العصيان المدني من محافظة الأنبار ذات الغالبية السنية، واندلاع مظاهرات حاشدة في الموصل وسامراء وبعقوبة ومحافظة صلاح الدين رفع خلالها المتظاهرون العلم العراقي الذي كان معتمدا في ظل نظام صدام حسين وعلم الجيش السوري الحر. كما أصدر نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي، الذي صدرت بحقه أحكام غيابية بالإعدام، بيانا أثنى فيه على الاحتجاجات وقال “إن المالكي أسير عقلية مريضة ومهووس بالسلطة.” وامتد هذا الاحتقان إلى بغداد التي تشهد منذ أسابيع، تصعيدا في الإجراءات الأمنية، من خلال زيادة عدد نقاط التفتيش المتنقلة تحسبا لأي طارئ.
أن ممارسات المالكي “تضع المسمار الأخير في نعش المشاركة الوطنية واستقرار البلاد”. من هنا جاءت دعوة ائتلاف “العراقية” أخيراً إلى التهديد بالانسحاب من العملية السياسية ومقاطعة جلسة الحكومة المقبلة، احتجاجاً على اعتقال حرس وزير المال العيساوي، إضافة إلى الملاحقة الطائفية لنائب الرئيس الهاشمي. وكانت النتيجة أن هذه السياسات الاستبدادية والطائفية أبقت العراق في ترتيب متقدم بين الدول العشر الأولى المصنفة دولياً في خانة “الدول الفاشلة”.
غضب تركي
ودخلت تركيا على الخط مؤيدة للسنة في خطوة تعكس تصاعد الصراع بين القوتين الرئيسيتين في المنطقة إيران وتركيا، إذ أرجأ الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد مؤخرا زيارة كانت مقررة لأنقرة، ثم ما لبث رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان أن اتهم نوري المالكي بانتهاج سياسة طائفية. وهذا يعني أن إمكانات التهدئة والمصالحة تبتعد أكثر فأكثر، خصوصا مع إصرار المالكي على رفض الحوار وتعمد التصعيد مع خصومه.
ماذا قال الدكتور سيّار الجميل ؟
واستبعد الأكاديمي العراقي المستقل الاستاذ الدكتور سيار الجميل الإتجاه نحو مصالحة سياسية في الأمد المنظور “لأنه لا توجد مبادئ مشتركة يمكن أن يتفق عليها الجميع بوصفها معايير وطنية”.
واكد أن “الصراع أخذ بعدا جديدا لأنه لم يعد صراعا سياسيا وإنما صراع مصالح، والمصالح ليست سياسية فهي إما طائفية أو سلطوية أو مشروعات نهب منظم خاضعة لإرادة الآخرين، سواء أكان الآخرون يعملون للأجندة الأميركية أم الإيرانية”. وأشار إلى أن المشادة الكلامية بين الطالباني والمالكي سبقتها تهديدات ولغة بذيئة لا تنحو نحو خدمة الصالح العام وإنما لتصفية حسابات. واعتبر أن الطالباني “يُعول عليه بعد هذه السنوات الطويلة في جمع الفرقاء، لكن يبدو أنه لم يعد قادرا أو بات في موقع ضعيف نظرا لزئبقيته التي تدعو إلى التساؤل: هل هو يريد العراق أم كردستان؟ وهل يريد أن يبقى المالكي في الحكم أم غيره؟ وهل ينوي الإبقاء على تحالف كردي – شيعي ضد الآخرين أم لا؟ّ”. وعاد الدكتور الجميل إلى التذكير بأجواء التراشق بالإتهامات التي سبقت المشادة بين المالكي والطالباني والصراع على كركوك المتنازع عليها بين الأكراد والعرب، مُستخلصا أن “مُجمل ما يحصل الآن لا يصب في أي نوع من التوافق فكيف ستستمر الشراكة السياسية التي سادت حتى الآن؟”. واعتبر أن كل الطروحات تلبس لبوسا سياسيا لكنها فاقدة لمشروع وطني. ولما سألته عمن يُحرك هذه الصراعات أشار إلى أن سنة 2012 أبصرت إثارة زوابع واختلاق مشكلات قد تنطلق من أمور صحيحة لكن نتساءل عمن يُهندسها ويثيرها، ما جعل مسؤولا في منصب رفيع يُتهم بتهم خطرة ويصدر بحقه حكم بالإعدام بينما هو يتمتع بالحصانة، فإن كانت عليه مآخذ كيف يُسكت عليه طوال هذه المدة، وكيف يمارس مهامه طيلة ست سنوات؟ ولماذا في 2012 بينما نحن انتقدناه منذ 2005؟ وأشار إلى أن هناك أناسا متهمون بالقتل منذ سنوات لكنهم لم يُحاسبوا حتى اليوم، فلماذا يُحاسب زيد ويُغض الطرف عن عمرو؟ وعزا الدكتور الجميل ما يواجهه بلده اليوم من أزمات إلى “التأسيس الخاطئ الذي قام على المحاصصة بشكل وزع العراقيين على خنادق طائفية واستبعد أي مشروع وطني”.
خط التماس مع إيران
أما عن المستقبل القريب فيعتقد الجميل، الذي ألف العديد من الكتب عن تاريخ العراق الحديث، أن الأمر يتوقف على التطورات في سوريا لأن البلدين يرتبطان بعلاقات تاريخية عضوية ليس فقط منذ القدم بل أيضا طيلة الخمسين سنة الماضية، إذ كان يحكمهما حزب واحد لكنه منشق على نفسه، كما عاش الشعبان في لهيب نفس الشعارات والممارسات وأساليب الحكم الاستبدادية، فإذا كانت هذه العوامل التاريخية مشتركة فإن النتائج ستكون متقاربة. ولا ريب بأن سقوط النظام السوري سيفتح جبهة طويلة ضد نظام الحكم في العراق، فمجيء نظام جديد في دمشق سيكون بالضرورة ضد سياسات النظام الذي سبقه، وبالتالي فلن يكون ممالئا للعراق ولا لإيران اللذين دعما بشار الأسد. وبالمقابل سيكون السنة العراقيون حلفاء للنظام الجديد في سوريا، وهذا يعني أن الصراع الحالي لن يبقى داخل حدود العراق وإنما ستكون سوريا أيضا ساحة له مثلما أن العراق سيكون ساحة للصراع ضد السياسة الإيرانية. واستدرك الدكتور الجميل في ختام حديثه قائلا “هذه رؤية أتخوف منها، وهو خوف لا يبعث عليه القلق على مصير أنظمة الحكم بل على المجتمعين العراقي والسوري من حرب أهلية وتمزق داخلي وزيادة التدخل الإيراني في الشأن العراقي، بحجة الحماية أو ما شابه ذلك، والخوف أيضا من المدى الزمني الذي ستأخذه تلك الفترة الصعبة، فبالمقارنة مع لبنان مثلا الذي عرف مشاكل عويصة وعاش حربا أهلية بين 1975 و1990 يبدو وضع العراق أعقد وأصعب لأن لبنان لا يقع على خط تماس مع إيران طوله 1200 كيلومترا.
نشرت في جريدة القدس ، 8 يناير / كانون الثاني 2013 ، ووسائل اعلامية اخرى .
شاهد أيضاً
عراقٌ يكوي القلب
أما وأننا نتطرق إلي هذه القضية الملتبسة بشأن (الديكتاتور العادل) أو (المستبد الرشيد)، من أجل …