حوار مع المفكّر العراقي
الدكتور سيّار الجَميل
اجرى الحوار : محمد القثافي مسعود
كاتب من ليبيا
مانشيتات الحوار : نحن لسنا ورثة طبيعيين للخطاب الغربي بل مجرد مقلدين له .
تأثرت الفسيفساء الاجتماعية العربية بالغلواء والتعصّب اللذين اجتاحاها على مدى ثلاثين سنة
التغيير بحاجة الى عقل وقانون واعلام ذكي وتربية ومناهج خاصة ومؤسسات
العالم الاسلامي لم يأخذ بمفهوم العقل لاثراء الاسلام الحضاري ، بل انحرف ليأخذ طريق الاسلام السياسي في زمن السلفية الحديثة .
الدكتور سيار الجميل استاذ التاريخ الحديث والفكر المعاصر وخبير دولي في الدراسات الاجتماعية والثقافية وخبير علمي في العديد من مراكز البحوث والدراسات . القى محاضرات في منهج البحث والتاريخ الوثائقي وتاريخ العالم وتاريخ الخليج والشرق الاوسط والتاريخ الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والعولمة وفلسفة المستقبل . له اكثر من عشرين كتابا منشورا وعشرات البحوث العلمية المنشورة باللغتين العربية والانكليزية ، ترجمت بعض اعماله الى الانكليزية والفرنسية والتركية ن وخصوصا نظريته عن المجايلة التاريخية وبنية سلاسل الاجيال في فلسفة التكوين التاريخي . ولد سيار الجميل في الموصل ( العراق ) العام 1952 . اكمل دراساته في الجامعات البريطانية : ردنك واكسفورد وسانت اندروس . ونال دكتوراه الفلسفة في التاريخ الحديث في العام 1982 .. وعمل محاضرا واستاذا في جامعات عدة بالعالم . يقيم الان في كندا وهو يعمل على تنفيذ عدة مشروعات علمية .. من اهم كتبه المنشورة ” العثمانيون وتكوين العرب الحديث : من اجل بحث رؤيوي معاصر ” و ” بقايا وجذور : التكوين العربي الحديث ” و ” التحولات العربية : اشكاليات الوعي وتحليل التناقضات وخطاب المستقبل ” و ” العرب والاتراك : الانبعاث والتحديث من العثمنة الى العلمنة ” ، و ” زعماء وأفندية : الباشوات العثمانيون والنهضويون العرب ” و ” المجايلة التاريخية : فلسفة التكوين التاريخي ” و ” انتلجينسيا العراق : النخب العراقية المثقفة الحديثة ” و ” الرؤية المختلفة : قراءة نقدية في منهج الجابري ” و ” المزامنات العربية : اشكاليات التفكير وآليات التغيير ” .
حول اشكاليات الخطاب الثقافي واسئلة المستقبل كان لنا معه هذا اللقاء :
*هل مازال المثقف العربي يفتقد القنوات التي تشد الجماهير إلى ما يدعو إليه ؟
ـ لا اقول ” يفتقد ” ، بل زاد افتقاده للقنوات التي يتصل بها بالجماهير ، سواء بأفكاره او باعماله ، او بإبداعه .. مع انفجار سكاني في اغلب البيئات العربية ، ووجود طفرة ديموغرافية كبرى ، وتضاعف عدد السكان لمرات عما كان عليه المجتمع قبل عشرين سنة .. فان ملايين الشباب اليوم لا علاقة لهم بالثقافة ! ليست المشكلة احادية وليست نخبوية . انها مشكلات معقدة متداخلة مع بعضها الاخر .. منذ بدء الثورة الاعلامية المعاصرة مع بدايات تسعينيات القرن الماضي ، والثورة تجتاح مجتمعاتنا بكل وسائلها الاعلامية المعاصرة على مدى ساعات اليوم ، وهي كلها لا توظف نفسها للثقافة ، ولم تمنح المثقف فرصته الحقيقية ، ليقول ما عنده بالرغم من تضاؤل حجم المثقفين العرب وانكماشهم ، وانشغالهم بالقضايا السياسية دون الابداعية .. المثقف لا يمكنه ان يكون كذلك ان لم يبدع .. والابداع ان يأتي لمجتمعه بشيئ جديد من الافكار والرؤى والنصوص الجديدة .. ولا يمكن للابداع ان يكون كذلك ، ان لم يعترف به المجتمع ، وتتداوله الالسن ، حيث يجد المثقف نفسه محاصرا لتقديم المزيد . ان الزمن اليوم قد تغير ، فاذا كانت نخب المثقفين العرب السابقين تجد قنواتها متاحة لكل الجماهير متاحة عبر فيلم او رواية او نص شعري او مقال او انجاز او أي منتج ابداعي ، فان القنوات الاعلامية المتاحة اليوم ، وهي كبيرة ومؤثرة ، لا تعتني بالمثقف قدر عنايتها بالسياسيين . ان السلطات العربية في اغلبها تشعر بان المثقفين وباء او اشتات من المقرفين الذين لا ترتاح لطروحاتهم ابدا ، فكان الاقصاء سبيلا حقيقيا للمثقفين العرب الاقوياء .. ونجد القنوات الحقيقية التي يطل فيها على الناس جملة كبيرة من التافهين الذين لا عمل لهم الا ترديد ما يقولونه ! اما حصة الاسد اليوم ، هي من نصيب المسؤولين والسلطويين والسياسيين وانصاف المثقفين ، الذين اصبحوا اليوم من مثقفي السلطة سواء كانت هذه الاخيرة سياسية ام اعلامية ! ان الاعلام العربي قد ساهم منذ خمسين سنة في سحق الارادة وشل التفكير وشراء الذمم والتغني بالاكاذيب والترويج للانقسامات والتماهي مع الهزائم .. الخ ان المثقف الحقيقي لا يمكنه ان يكون بوقا لهذا او ذاك ! انه يجد نفسه ربما مهمشا ، وربما غير فاعل ، وربما محبطا .. او يمضي للمشاركة هنا او هناك على استحياء !
• هل يمكن بناء تصور جديد لوظيفة المثقف العربي من خارج التاريخ الثقافي الوطني ؟
اذا كنت تريد بناء هكذا ” تصّور ” جديد لوظيفة المثقف العربي من خارج اسيجة التاريخ الثقافي الوطني ، فان الجواب لا يمكن ان يأتي بهذه السرعة .. وباقل ما يمكن من الكلمات .. ولكني دعني اختزل بعض تصوراتي عن هذه ” الوظيفة ” .. : خذها قاعدة انه لا يوجد مثقف عربي له قوته الحقيقية ان لم يجد وظيفته من داخل التاريخ الثقافي الوطني أو خارجه معا .. ان التاريخ الثقافي الوطني سواء كان قد استوعبه او لم يستوعبه ، هو تاريخ مستهلك في اغلبه ، وان هذا العصر قد تجاوز تاريخنا الثقافي الوطني كثيرا ، ولم يعد هذا التاريخ يلبي حاجات اساسية في الثقافة الحديثة ، نتيجة ما تضمنه هذا التاريخ من هزائم وانتكاسات وما شكله من اكاذيب ومن هلوسات وتعداد امجاد بعض منها لا اساس له من الصحة ، فضلا عن انه تاريخ مشوه لمجموعة تناقضات وتقاليد لافكار مسروقة من هنا ومنتحلة من هناك .. ولكن لا يمكن لأي مثقف عربي حقيقي ان يختزل الطريق مباشرة كي يصطف خارج تاريخه الثقافي الوطني قبل ان يتشّبع به تماما .. وتلك ضرورة يمكن الانطلاق منها . ان المثقف العربي الحقيقي لا يمكن ان ينفصل ابدا عن تاريخه الثقافي الوطني مهما حمل من سلبيات ، ولكن لا ينبغي التعويل عليه في هذا العصر ! ليس هو عبئا عليه ، ان وجده صعبا ، فليس تاريخنا الثقافي بسيطا او تافها .. انه معقد وشمولي وكبير وغني وملئ بالسلبيات والايجابيات ، لكنه غير مدروس نقديا البتة .. انني لا استطيع ان اجد مثقفا عربيا ملتزما بقضايا متنوعة في بيئته او مجتمعه ان لم يكن له رصيد من الركائز القوية في تاريخه الثقافي وله القدرة على التمييز بين مساحاته ، وقراءة نصوصه بتمكن نقدي .. بمعرفه مفاصله بموسوعية . انها مسألة حيوية بالنسبة لي في ان اصنع من الاخرين مثقفين لهم وظيفة اساسية خارج التاريخ الثقافي العربي ،على ان يكونوا قد سيطروا منذ البداية على ذلك ” التاريخ ” ومشاكله .. كي يكونوا مؤهلين لأية مهمة خارجة عن اطاره . وعليه ، فإنني لا اعول على ابناء واحفاد الجاليات العربية الذين لهم وظائفهم الثقافية خارج تاريخ ثقافتهم الام ، فهم لم يعودوا يخدمون الثقافة العربية كونهم انفصلوا عنها ، عكس مثقفين آخرين نجحوا بمزاوجة وظيفية رائعة بين الاثنين وارتقوا على كل التناقضات ، وقدموا للثقافة البشرية روائع نادرة .
• كيف تقوّم الخطاب السائد في هذه المرحلة ؟
ـ الابداع قليل ، بل نادر جدا مقايسة بالنمو الديموغرافي العربي .. الثقافة العربية في حالة انحدار مستمر منذ خمسين سنة ! الخطاب السائد يمكن وصفه بخطاب اجتراري ليس في عباراته وكلماته ومصطلحاته ، بل حتى في مفاهيمه وافكاره ! الخطاب السائد عربيا اليوم هو اعلامي وشعاراتي اكثر منه ثقافي وايديولوجي .. انه مزدحم بالتناقضات الدينية والسياسية بعد ان اختفى فجأة الخطاب القومي او اليساري الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية ، لقد عشنا مرحلة ثلاثين سنة 1979 الى 2009 ازدحمت بخطاب التناقضات وهيمنت الانشائيات الدينية ولم تزل ، وخصوصا عندما بدأت منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي ، شعارات خطاب ثورة ولاية الفقيه من طرف وخطاب الصحوة الدينية من طرف آخر .. وقد وصلت كل منهما الى حالة التصادم .. انني لا اجد في كلا الخطابين ( ثقافة ) حقيقية ، فقد انجرف الملايين لتأييدهما بسذاجة بالغة ، اليوم نحن عند مفترق طرق صعب .. خطابنا العربي في اشد حالات البؤس والشقاء والضياع ، اذ لم يعد له تأثير بالغ كما كان سائدا في السابق ، وذلك بفعل ابتذال الكلمة وميوعة مقول القول .. الخطاب اليوم اعلامي وانشائي ودعائي ، وفي اسوأ درجة من مقول القول وتلقي المتلقي .. سواء على شاشات الفضائيات الهزيلة ، وعلى مواقع الانترنيت المبتذلة . صحيح انه مغرق في السياسة ، ولكنه ليس بخطاب سياسي حقيقي ، وهو بعيد عن تلبية اية حاجات اجتماعية وحضارية ، لم يعد يشكّل الخطاب اناس محترفون او بالأحرى مهنيون أو فلاسفة جادون .. لم يعد الخطاب يكنزه الشعراء والادباء ، أي لم يعد خطابا للثقافة والابداع ، بل خطابا للسياسة المشوهة والتسابيح الاملائية. لم يعد خطاب علم ومعرفة ، بقدر ما هو خطاب الشعارات والشائعات .. هناك بقايا خطاب رائع يحمله ابناء جيل سابق ممن تربى على روعة الكلمة واداء مقول القول .. ان الجيل الجديد لا يعرف من الخطاب ، الا ما يجده على الشبكة العنكبوتية دون ان يتعب نفسه في ارتياد مكتبة او مركز ثقافي او ردهات جامعة .. الفنون كجزء معبر من الخطاب ، لم تعد كما كانت سابقا .. الغناء مبتذل جدا ، الطرب منعدم او يكاد ينعدم .. مات الموشح والمسرح الغنائي واختفى المسرح الملتزم .. التشكيل اختلط امره على كل من هبّ ودبّ .. واضمحل الادب ، ولم يبق الا بضعة ادباء اقوياء تأكلهم الامراض والاسقام . السينما العربية غدت تافهة جدا ، والناس غدت تنتظر المسلسلات الرمضانية سنويا وكأنه تقليد اعمى لقتل الزمن ! اننا نعيش خطابا يتوزع بين الوعظ الديني ، ومشاحنات الاتجاه المعاكس .. وتفاهات البرامج التلفزيونية ولم اقف الا على النادر من البرامج الحية .. اننا نعيش خطاب مقالات الصحف البائسة والنقد كواحد من مقومات الخطاب الذي لم يعد ادبيا ، ولا فلسفيا ، ولا ابداعيا .. انه مجرد من كل المقومات . ان الخطاب الحقيقي هو مقول قول حياتنا التي ينبغي ان يكون خطابها اليوم ليس مشاركا البشرية مشاكلها فحسب ، بل اريده ان يكون ذلك الخطاب الذي يعبّر عن ارهاصات مجتمعاتنا نحو بناء المستقبل ، وليس ما تريده من المتعة الآنية ، بل ما يمكن ان يكون تحديا لها ، كي تستجيب له بعد ان يتغّلب الوعي عندها ، فالوعي مغيّب تماما ، والتفكير مشلول .. بالرغم من الدعوات المستمرة للاصلاحات والتغيير .. ولعل اهم ما قدم في السنوات الاخيرة وثيقة الاسكندرية للاصلاح .. والتي لم يأخذ بها احد حتى الان !
• حاليا من تراه قادرا على تحقيق الديمقراطية _ من بيده ذلك ؟
ـ الديمقراطية لا يمكنها ان تبنى من فوق ابدا ! الديمقراطية لا يمكنها ان تؤسس من قبل زعماء وحكام وقادة ورؤساء يزعزعون من خلالها عروشهم وكراسيهم ! الديمقراطية لا يمكنها ان تفرض فرضا على المجتمعات ! والمجتمعات غير مؤهلة لها ابدا ! الديمقراطية لا يمكن ان تتفق ابدا مع الشورى في الاسلام او البيعة في تاريخ الاسلام ! انها اسلوب حياة ، ونظام تربوي ، وضرورة اجتماعية لتلبية مطالب مدنية حقيقية تؤديها سياسات واساليب ونظم وتقاليد وافكار وممارسات وصناديق اقتراع .. لابد ان يتربى عليها اكثر من جيل لتنمو وتتطور .. ان المجتمع لا يمكن ان يبدأ تفكيره بالديمقراطية ، ان لم تكن هناك جماعات معلمين مفكرين ، ونخب مثقفين ، وفئات نقابيين .. ومن ثم موجات جماهير تطالب بالديمقراطية على اسس وطنية ومدنية ودستورية .. ذلك ان المطالب الدينية شيء والمطالب المدنية شيء آخر . ان الديمقراطية ليست وليدة أي دين ، بل انها من اختراع الانسان عبر تطور تاريخية حاجته للحكم والعدالة .. فالديمقراطية يمارسها المدنيون فقط ، الذين لهم القدرة على ان يفصلوا بين الدين والدنيا ، وان يجعلوا الدولة في خدمة المجتمع ، والمجتمع في طاعة الدستور المدني .. فالديمقراطية تنمو مع فكر الانسان منذ استقلاليته وصبوة تفكيره ، وان مهمة الدولة في ان تكون مهمتها ليس تطبيق الديمقراطية وهي ذات نظام ثيوقراطي او اوتوقراطي او ولاية فقيه .. الخ بل نطالبها بالتغيير في ان تكون مدنية وبقوانين مدنية حتى تسمح بولادة فكرة الديمقراطية وتغّير مناهج التعليم وتنهج نهجا اعلاميا مدنيا .. عند ذاك سينشأ جيل متقدم مشّبع بالافكار المدنية ويدرك قيمة القانون ويعتني بالانسان وحقوقه وواجباته خاصة المرأة والطفل ، ويبدأ شعور وطني بأهمية المستقبل للمجتمع وان يتساوى ابناء المجتمع في حقوقهم وواجباتهم من خلال تشريع دستور مدني يكرس الديمقراطية على اسس وطنية لا يفرق بين الطوائف والملل ولا يفرق بين ابناء المجتمع لا على اساس ديني او شوفيني عرقي او محلي او جهوي .. فهل سيتبلور ذلك قريبا في المجتمعات العربية ؟ لقد ضيّع العرب ومعهم شعوب كبيرة من العالم الاسلامي اكثر من مئة سنة على ايديولوجيات سياسية واحزاب دينية لا يمكن ان تقودهم ابدا الى الديمقراطية . فهل سنشهد متغيرات جديدة في التطور الديمقراطي قريبا لدى العرب والمسلمين في القرن الواحد والعشرين ؟ هذا ما ستسفر عنه العقود الزمنية القادمة ومن خلال ثلاثة اجيال قادمة ..
*كيف تفسر ” تقدم الفكر الإيديولوجي على الفكر النقدي في الخطاب الأبوي المستحدث ” ؟
لقد ضاع منا الفكر النقدي نحن العرب ، ورحل عنّا النقاد الحقيقيون ولم يعد احد يهتم بنقد الحياة او الواقع ، فكيف بنقد النصوص .. !؟ ارى الجميع وقد استسلموا للمباهاة والمداراة والتمجيد والمديح الفارغ .. لم يعد أحد يجد في الفكر النقدي غاية او ضرورة ولا حتى وسيلة للتقدم ، بل لم يعد احد يقرأ في الفكر النقدي من اجل تشكيل خطاب المعرفة . المعرفة مغيبة تماما .. ومات الالتزام والادب الملتزم ليس بسبب رحيل الاشتراكية والفكر الاشتراكي ، بل بسبب ما مر في حياتنا السياسية على امتداد اكثر من خمسين سنة .. مرحلة الانقلابات العسكرية وما يسمى (المد القومي) الذي طبع نفسه بطابع الاستبداد وولادة اكثر من دكتاتورية عربية باسم القومية العربية . لقد قمع الفكر النقدي ، وقمعت كل الانفاس الجريئة ، وكممت كل الافواه الحرة وخلقت شراذم مؤدلجين ، وتمّ استبعاد حقيقي للمثقفين والمفكرين الملتزمين اليساريين العرب ، وولدت مرحلة ذات المد الديني على اعقاب مرحلة المد القومي منذ ثلاثين سنة ، وهنا انتشر العقم والتزييف والجمع بين السيئات كلها ، بل وطغت التناقضات في ثلاثة عقود على كل ابناء مجتمعاتنا ، ولم نعد نجد المثقفين الحقيقيين الا وقد انكمشوا ، او هاجروا ، او انتحروا ، او ماتوا بائسين من قنوطهم او سكوتهم او دمار افكارهم في بحر سلطة لا الدولة القومية بل سلطة المجتمع الديني او الطائفي ، وبدأت حتى الانظمة ذاتها تصفق لتلك السلطات المحلية الدينية التي استحوذت على الشباب وجعلت منهم قنابل موقوتة ضد الحياة نفسها . انني لا اؤمن ابدا بوجود فكر ايديولوجي اليوم ، فالايديولوجية معناها باختصار : ” المذهب السياسي ” وانا لا اجد اليوم أي مذاهب سياسية ، بل اجد احزابا دينية او شراذم طائفية تمسك بخناق المجتمعات ، وتريد ان تستحوذ على السلطة والدولة بقوة تأييد الناس وعبر الصندوق الانتخابي ، أي باسم الديمقراطية ، وهي ابعد ما تكون عن الديمقراطية !
*ما رأيك في كل ما قيل عن نظريات ابن خلدون من مؤيدين ومعارضين وهنا أعطيك بعض الأمثلة : فمثلا خالد الدخيل قال : ” نظرية ابن خلدون لا تصلح لتفسير تاريخ الجزيرة العربية ” والدكتور خلدون النقيب قال ” المرحلة التي نعيشها الآن تمثل صحة فرضيات ابن خلدون ” ؟
ـ ابن خلدون سبق عصره طويلا ، واعتقد من خلال اطلاعي على تراث هذا الرجل انه لم يكن ” معجزة عربية ” فحسب كما وصفه ايف لاكوست ، بل هو ” اعظم ما توصل اليه الفكر البشري في مختلف العصور والامم ” – كما قال عنه ارنولد توينبي – . ان فلسفته وما وراء فسلفته لم يكشف عن اسرارها حتى يومنا هذا .. انه مفكّر من طراز اول في تحليل الواقع ، وكشف التناقضات على مستوى علاقة الدولة بالمجتمع والاطوار التي تمر بكليهما .. لم تزل العقد التي كشفها سارية المفعول في مجتمعاتنا العربية ، وخصوصا مسألة العصبية وثنائية البداوة والتمدن .. لم تزل البداوة مترسخة في العديد من مجتمعاتنا ، ليس بأشكالها التي نعرفها ، بل ان آثارها موجودة حتى في المدن ويحملها من لم ينفصل عن ارثه حتى اليوم ! نحن اليوم متأخرون جدا عن نظرية الرجل في التمدن .. هناك مجتمعات عربية واسلامية لم تزل تحمل ” العوارض ” التي قالها ابن خلدون وبشكل مضاعف .. فنحن بعيدون عن مفهوم العمران البشري فهو -ـ كما قال – ” خبر عن الاجتماع الانساني الذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة هذا العمران من الاحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات واصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض ، وما ينشأ عن الكسب والعلوم والصنائع من سائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الاحوال ” .. ويلامس ابن خلدون نظرية النشوء والارتقاء ، ولكنه لم يتعمّق فيها ! انه لم يسبق عصره حسب ، بل سبق عصرنا ايضا .. انه يؤمن بالظواهر وبأسبابها ونتائجها .. انه يؤمن بأن الانسان لا يستطيع العيش بمعزل عن ابناء جنسه حيث ان ” الاجتماع الانساني ضروري ” فالإنسان عنده ” مدني بالطبع ” فهو اذن يرسخ مبدأ المدنية الذي يعتبره معنى العمران . وعنده العمران البشري امر آخر، موضحا اثر البيئة في الكائنات البشرية مرسخا بداية حقيقية لكل من علم الاتنولوجيا وعلم الانثربولوجيا .. وهو يؤمن بسلاسل الاجيال ، وبأن ” اختلاف الاجيال في احوالهم انما هو باختلاف نحلتهم من المعاش .. ” . ماذا بعد هذا كله ؟ هل تجد مثل هذه الاسس في مناهجنا نحن العرب وشعوب العالم الاسلامي اليوم ؟ هل دساتيرنا مدنية ؟ هل تتبلور ثرواتنا من خلال الكسب والعلوم والصنائع .. ؟ هل يسود الانسجام والتعايش والتضامن وحقوق الانسان في دولنا ومجتمعاتنا بدل ما يسود اليوم من توحش وعصبيات ونعرات وقرابة محسوبيات ومنسوبيات وتغلبات وتناقضات ؟ ارجع كي اشدد القول بأن افكار ونظريات ابن خلدون لم تزل بعيدة عن تفكير ليس عموم الناس ، بل حتى عن المختصين والمؤرخين وكبار المثقفين العرب والمسلمين . لماذا ؟ ليس لصعوبة ما قاله الرجل ، بل لأنها تتقاطع مع من هو راسخ في التفكير الراهن ، ولأنها تختلف مع من لم يفكر تفكيرا مدنيا !
*في رأيك ما الذي يجعلنا نتحول ” من ورثة طبيعيين للخطاب الغربي إلى ورثة فاعلين ” ؟
– “ورثة فاعلين” لمن ؟ كنت اتمنى ان يكتمل السؤال .. ولكن دعني أحدد بعض ما لدي من قناعات وما كنت قد استفدته من تجاربي الفكرية المتواضعة منذ قرابة اربعين سنة ، خصوصا عندما بدأ تشكيل الوعي التاريخي عندي ومن خلال قراءات متنوعة وتجارب نقدية وتحليل افكار وتفسير نظريات والقاء محاضرات .. نحن لسنا ورثة طبيعيين للخطاب الغربي ، بل مجرد مقلدين لهذا او ذاك من اوجه الخطاب الغربي ! الخطاب الغربي لسنا ورثة له لا بطبيعيين ولا غير طبيعيين ! نحن لم نؤسس حتى يومنا هذا أي خطاب يعّبر عن واقعنا تعبيرا حقيقيا مع استفادتنا من مصادر اخرى ! نحن دخلنا حياة هذا العصر منذ بدايات القرن التاسع عشر ، وتسلسلت اجيالنا لاكثر من سبعة اجيال ونحن ننتقل من مرحلة زمنية الى اخرى تبعا لتأثير ما يسود في الغرب من خطاب من دون ان ندرك ان واقعنا بحاجة الى خطاب يختص بنا ، وبإمكانه ان يقف جنبا الى جنب خطابات ثقافات ومجتمعات اخرى ! اليابانيون وغيرهم من الشعوب تأثروا بالخطاب الغربي ، ولكنهم لم يستنسخوه ويروجوا لمفاهيم بعيدة عنهم ! فهم لم ينغلقوا على تراثهم من ناحية ولم يروجوا لأفكار الغرب وخطابه من ناحية اخرى! دعني استعرض لك حالات الصراع بين واقعنا المنكود وبين خطابنا المشوّه .. جيل التأسيس بدأ عندنا مع الثورة الفرنسية وولدت افكار من دون ان تؤسس ثورة في التغيير بمجتمعاتنا .. افكار حملها السلطان سليم الثالث في تركيا العثمانية ووالي مصر محمد علي باشا .. ثم ولدت مرحلة جديدة اسموها (التنظيمات الخيرية ) بدفع اوربي واضح سعت الى مقاربة الاقليات ، ثم مرحلة المطالبة بالدستور ، فولد عهد الامان بتونس وعهد المشروطية عثمانيا من دون أي تغيير حقيقي ، ثم جاءت مرحلة الاستنارة الفكرية وترجمت الفلسفة الاغريقية ، ووصلت الظاهرة الاستعمارية الى اقصى توحشها ، ثم ولدت المرحلة الليبرالية وتأسيس الكيانات الجديدة بعد مؤتمر فرساي عام 1919 وساد خطاب تقليدي بحت مع حكومات علمانية في السر ولكنها اسلامية دستوريا ، وتأثر العرب بالنازية والفاشية وبدا حتى الشباب يتمثلون شارب هتلر .. ثم جاءت مرحلة المد القومي الثوري اليساري الاشتراكي لما بعد الحرب العالمية الثانية وشغلت الجماهير بمجموعة دعايات واكاذيب وتجارب كلها تقليد للعالم الشيوعي .. وانتهت بمجموعة هزائم نكراء وجاءت مرحلة المد الديني سواء بما اسمي (تصدير الثورة الشيعية من ايران ) ، او (الصحوة الاسلامية السنية من العرب )، وولدت الحروب والصراعات الطائفية والمذهبية وروج لخطاب انقسامي اشاعه الغرب منذ زمن طويل . واليوم نحن على اعتاب مرحلة جديدة ، ربما ادرك طبيعتها لثلاثين سنة قادمة ، ولكن دعني من عدم الافصاح عنها لاقتراب انطلاقتها ، مع مفاجئات بعض طوالعها..
على امتداد اكثر من قرنين من الزمن الصعب ، كان العالم منشغلا بتحديث آلياته وأساليبه وأفكاره ونظرياته ونظم الحكم وتنمية التفكير .. الخ في حين مرت مجتمعاتنا من انتكاسة الى اخرى ليس بسبب هجمة الاستعمار او تأسيس اسرائيل اللذين اعتبرهما قميص عثمان بالنسبة لتخلف العرب ، بل لأن عوامل الانشداد نحو الوراء كامنة في ضمائر ليس الجماهير حسب ، بل حتى لدى النخب وانصاف المثقفين وجملة عريضة ممن يسمون انفسهم (مفكرين) .. ناهيك عن صناع القرار الذين ليس باستطاعتهم الخروج عن ارث مزدوج شكل تناقضا رهيبا في الواقع ، فهم يقلدون الغرب من جانب ، وليس باستطاعتهم الخروج من عباءة ماضيهم من جانب آخر ! ان العرب وشعوبا اخرى مشاركة لنا ان ارادوا ان يكونوا فاعلين ومؤثرين بخطابهم في العالم .. فما عليهم الا ان يباشروا مشروعا اساسيا في التغيير مستفيدين من تجارب غيرهم .. في التمدن الاجتماعي والمناهج التربوية والتفكير السياسي .. وفي القانون والخضوع للدساتير المدنية وحقوق الانسان .. في المجتمع المدني وتقديس المال العام واحترام الزمن .. في التعايش والانتاج والعمل .. وان تكون الدولة في خدمة المجتمع ويكون التعبير في خطاب يعّبر حقيقة عن واقعنا لا واقع غيرنا !
* ما رأيك في مراكز ومؤسسات الدراسات والأبحاث المختلفة في العالم العربي وما تقدمه من جهد ودعم للباحثين والمشتغلين في الحقل العلمي والبحثي كافة _ هل هو كاف بدرجة الوصول إلى نتائج علمية وميدانية تقوم عليها الخطط والمشاريع المستقبلية للدول والشعوب ؟
ـ نعم ، هناك عدد من مراكز ومؤسسات بحوث ودراسات في عالمنا العربي .. ولكن لي تقويم خاص لها ، فهي ان كانت رسمية ، فهي مرتبطة بالسلطة في أي مكان او بلد عربي ، وقد يصل الارتباط الى حد ان تغدو تلك المراكز بؤرا مخابراتية ، او انها مجردة من أي فضاء حر ، ولكنها تتحدث باسم المعرفة .. وربما نجد مثل هذه الاساليب في دول اخرى ، وحتى في امريكا .. ولكن المشكلة في مثيلاتها من المراكز العربية الرسمية في بلداننا ، لم تقدم ما هو نافع وحقيقي لصّناع القرار .. وثمة مراكز بحثية ترتبط بالجامعات العربية ، وهي مرتبطة بنفس المناخ العام لتلك ” الجامعة ” او ذاك البلد .. ولم تنل اية عناية ، فالجامعات العربية قد وجدت في عالمنا للتدريس فقط ، في حين ان مراكز البحوث في العالم والمنبثقة عن جامعات ومؤسسات اكاديمية لها شخصيتها وكوادرها وتمويلها الكبير من اجل البحث العلمي والمشاركة في التأهيل والانشطة وحصيلة الخبرات ، واستطيع القول ان هناك مركزين اثنين او ثلاثة مراكز عربية لها سمعة جيدة في الاوساط العلمية . اما ان كانت مؤسسات بحثية او مراكز دراسات غير رسمية ، أي اهلية ، فهي تتواجد في عواصم محددة ومعروفة ، ومنها بيروت التي اجد فيها اكثر من مركز دراسات وبحوث ، ولكن جميعها مرتبط بشكل او بآخر بنظام عربي او اقليمي غير عربي معين سواء من ناحية التمويل ، ام من ناحية الاداء ، ام من ناحية نشر افكار معينة ضمن اجندة متفق عليها .. هناك ( دور نشر وما يسمى بمراكز بحوث عربية ) مرتبطة مع ايران ارتباطا جذريا ، وهناك ما هو مرتبط بالسعودية ارتباطا علنيا .. الخ ونجد الجميع ، كل يعمل على هواه من دون أي برامج مشتركة ، ومن دون أي استقطاب للعلماء الحقيقيين ، وكل منها يتأثر بالسياسات ومناخ السلطات في هذا البلد او ذاك ، فما يجري كله تابع لعلاقات شخصية ومحسوبية ومنسوبية وسرقة اموال .. او انه يسّوق باسم الاسلام وتاريخ الاسلام والحفاظ على بيضة الاسلام .. وكل هذه المراكز لها اجندتها السياسية وعلاقاتها السرية المريبة ، فضلا عن ادوارها الطائفية والمذهبية في نشر هذا الفكر او ذاك .. وترويج مفاهيم لهذا الطرف او ذاك .
* وماذا وراء هذا الجدب والندرة للمثقفين الحقيقيين ؟
السياسات التي اتبعتها الانظمة الحاكمة قد سحقت كل المثقفين الاحرار ، وتوّهت المبدعين ، وحاربت المستقلين .. بل ان المؤسسات الثقافية العربية ووزارات الثقافة العربية باستثناء النادر منها قد اصبحت بأيدي مسؤولين لا يدركون أي معنى للثقافة ، ولا يميزون كما قال احد الاصدقاء الشعراء ، بين التمثيلية التلفزيونية والمسرحية .. وان اغلب المسؤولين والحكام والمتسلطين لم يقرأوا كتابا واحدا في حياتهم .. فكيف يمكن للمثقف ان يعيش ؟ وكيف له ان يتنّفس ؟ وكيف له ان يمارس ابداعه ؟ وتسألني هل هي مشكلة الدولة والنظام السياسي فقط ؟ اجيبك : لا انها مأساة النظام الاجتماعي ايضا، اذ ولدت سلطات جائرة فيه تحاسب الانسان ايا كان على سكناته وحركاته .. على البسته واسلوبه الشخصي في الحياة ، فكيف بها تقبل أي مثقف ينادي برأيه ويعبّر عن طموحاته وافكاره بمنتهى الحرية ؟ ان مجتمعاتنا قد تردّت اوضاعها كثيرا بفعل الموجات العاتية للقوى التي تسلطت على المجتمع باسم الاسلام السياسي وسعة انتشار الاصوليات التي تلاحقك بما يجوز او لا يجوز .. تأثرت منها الاقليات الدينية ايضا .. وسحقت القيم السمحة والتقاليد والاعراف القديمة . ان المجتمعات العربية كانت لها فسيفسائها الاجتماعية الخصبة على مر العصور ، تأثرت ثقافيا وابداعيا بشكل مباشر من جراء الغلواء والتعصب الذي اجتاحها على مدى ثلاثين سنة ، ومنها مصر والعراق والجزائر .. ناهيكم عن اوضاع الحروب الاهلية التي مرّت في لبنان واليمن .. او المآسي التي عانى منها الفلسطينيون . فهل لك بعد هذا وذاك ان نسأل عن ندرة المثقف الرائع وهو يسحق هنا او هناك ؟
* ” يصعب على العقل العربي ببنيته الراهنة إنتاج الديمقراطية لكني لا أعتقد بأن هذا العقل ثابت أزلي أنا أقبل بنموذج ناجح بحدود 30 بالمئة ” كما يقول صادق جلال العظم . يهمني تعليقك لهذا الموضوع :
ـ الديمقراطية ليست مجرد صندوق اقتراع وتشكيلات حزبية تضم البلداء والوصوليين والمصفقين والمنافقين والكذابين من اجل السلطة .. انها تربية ووعي واداء ونظام وحريات شخصية قبل ان تكون حريات سياسية ، وحرية فكر قبل ان تكون مناشير حزبية ! الديمقراطية لا تشتغل مع عقل ثابت ازلي لا يتحرك ! صحيح ان الديمقراطية توفر الحريات للجميع ، ولكن لمن يؤمن اصلا ، فكيف يمارسها من يؤمن بغيرها ؟ كيف نقبل بأن يجعلها مطية من لا يؤمن بالحريات والديمقراطية الحقيقية ، فيأتي على صهوتها ، ويقمع الناس باساليبه الماكرة وتناقضاته العجيبة ؟ انني اتقّبل الديمقراطية او أي نموذج ناجح لها ، ولكن من خلال النسب ولكن من خلال الوعي بالديمقراطية .. فلا يمكن للاسلاميين مثلا ان يمارسوها كونهم يؤمنون بالاسلام السياسي ، فاما يكونوا ديمقراطيين واما يكونوا مبايعيين شوريين ( من مبدأ الشورى ) فالديمقراطية هي ليست الشورى ! والديمقراطية تؤمن بالحياة السياسية المدنية والاحزاب المدنية وليست الدينية .. واذا كانت هناك مجتمعات اخرى لها احزاب دينية وهي تمارس الديمقراطية فثمة اسباب تفصل بينهم وبين الاسلاميين ، فهم لا شورى او نظام سياسي ديني لديهم ، فضلا عن ان النظام السياسي عندهم مدني قبلوه فقبلهم ، لا مثل ما يجري في تجاربنا الايرانية والعربية يستخدمونه لمصالحهم .. علما بأن الاتراك في تجربتهم الاسلامية اكثر تحررا ومقاربة للنظام المدني والعلماني من نظام الايرانيين مثلا !
* هل ترى إن نموذجا بهذه النسبة يكون ناجحا وفي إمكانه تحقيق نسبة عالية من الديمقراطية ؟
ـ لا خيار لنا الا ان نبدأ خطواتنا حتى من تحت الصفر .. فبقية الامم ، صحيح انها كانت اقل تناقضات فكرية وعقائدية من منظومتنا في العالمين العربي والاسلامي ، ولكنها بدأت الطريق الطويل . ان الضرورة تحّتم في البداية تطوير آليات عمل ووعي من قبل النخب التي اعترفت بعجزها قبل قليل ، فالمطلوب عصر تنوير ووعي وقطيعة .. لا يمكن ان يصنعه المثقفون ، فالمثقفون حتى وان كانوا في اعلى درجات الابداع ، فمسؤولياتهم ثقافية وليس لهم الا اقلامهم او اصواتهم او ابداعاتهم .. ولكن التغيير الديمقراطي بحاجة الى قرارات وقوانين وتربويات واعلاميات .. الديمقراطية لا تصنعها الغوغاء ، ولا تصنعها الفوضى ، ولا تصنعها الشعارات واليافطات ، ولا تصنعها لوحة فنان او قصيدة شاعر .. هؤلاء جميعا لا يمتلكون صنع القرار .. القرار يمتلكه صاحب سلطة تشريعية او تنفيذية او عليا .. التغيير بحاجة الى عقل سياسي والى تشريه قانوني والى اعلام ذكي والى تربية خاصة والى مناهج خاصة في مدارس وجامعات ومؤسسات والى وعي ثقافي سياسي له مصداقيته وكل ذلك يستند الى فكر متمدن ونماذج من اناس لهم حركتهم وانشطتهم من دون المساس بهم ابدا .. نموذج الديمقراطية لا تصنعه احزاب دينية ، ولا احزاب شوفينية ، ولا شعارات ولا خطابات ولا لافتات ولا تظاهرات ولا تكتلات ولا تحالفات .. الخ انني اعتقد ان التغيير يترجم ما تصنعه الثورات ، وان المشروعات الكبرى يترجمها قادة جدد لهم خطوات اولى تأتي من فوق وليس من تحت كما يعتقد الجميع ، ان كرومويل كان صاحب قرار .. وان ابراهام لنكولن كان صاحب قرار ، وان أتاتورك كان صاحب قرار .. وان غاندي صاحب قرار ، وان غورباتشوف كان صاحب قرار ، وان سوار الذهب كان صاحب قرار ، وان نيلسون مانديلا صاحب قرار .. الخ فمتى سيولد عندنا صاحب قرار من اجل ولادة جديدة للتاريخ ينفتح فيه العقل ويمارس فيه انموذج الديمقراطية ؟
نشر الحوار على صفحات مجلة الدوحة ، العدد ( 35 ) رمضان 1431 هجرية ، سبتمبر 2010 م . ص 62- 67. ويعاد نشره على موقع الدكتور سيّار الجميل بتاريخ 30 حزيران / يونيو 2012
www.sayyaraljamil.com
انتظر القسم الثاني من الحوار الذي لم ينشر
الرئيسية / حوارات / ماذا قال الدكتور سيّار الجميل في حوار نشر قبل سنتين؟ (1) الخطاب الثقافي واسئلة المستقبل
شاهد أيضاً
عراقٌ يكوي القلب
أما وأننا نتطرق إلي هذه القضية الملتبسة بشأن (الديكتاتور العادل) أو (المستبد الرشيد)، من أجل …