جدلية الارض بين الدولة والعشيرة وبين الشيخ والفلاح : رؤية اركيولوجية
مقدمة :
انتهينا من الحلقة الثالثة السابقة من حواري مع الاخ الاستاذ الدكتور كاظم حبيب الى عدة استنتاجات كان اهمها يحكي عن ان العلاقات الانتاجية في العراق كانت شبه اقطاعية ولم تكن اقطاعية صرفة .. وعلى هذا الاساس ، فان مراجعة واعادة مطلوبة من قبل كل الاحزاب والتيارات والفئات والجماعات والافراد الذين كانوا وما زالوا يصفون تلك ” العلاقات ” بالاقطاعية . لقد انهيت الحلقة السابقة بخاتمة هي نص منشور لأحد الكتّاب العراقيين يوضح ما ساد ويسود في الذهنية العراقية واختتمت تلك الحلقة بالمزيد من الاستنتاجات التي لابد انها ستفتح امامنا الطريق لتوضيح ابرز البيئات الزراعية في العراق . ان مشكلة الارض الزراعية في العراق قديمة ، وقد اتخذت لها اشكالا متعددة ومضامين مختلفة ليس على مستوى العلاقات السياسية بين الحاكم والمحكوم او الاجتماعية بين الفلاح ومالك الارض ، بل حتى على مستوى العلاقات التاريخية بين الماضي والحاضر .. انها علاقة جدلية تملؤها التناقضات والاخطاء والتي لم يستطع حلها اي عهد من العهود التي عاشها العراق . هنا في هذه الحلقة الرابعة من الحوار سنبقى في حالة تواصل في الموضوع . وسنبقى مع حفريات حول طبيعة العلاقة التي ربطت الدولة بالارض الزراعية واين كانت مشكلة الارض الزراعية والعلاقة الانتاجية شبه الاقطاعية في العراق ، وساعالج في هذا ” الحوار ” طبيعة العلاقة التي ربطت ( الفلاح ) بسيده ( الشيخ ) واين انسجمت تلك العلاقة واين تهتكت ؟
اولا : من فكرة الاصلاح الى تطبيقات اللزمة
يدري الاخ الدكتور كاظم حبيب وكل الاخوة والزملاء الذين درسوا العراق في القرن العشرين بأن العراق الملكي قد ورث مشاكل الارض الزراعية من عهود الماضي العثماني ، وزادها تعقيدا ما فعله الانكليز سواء ايام حكمهم المباشر ام حكمهم ايام الانتداب او حكمهم ما بعد الانتداب .. ان موضوع اراضي العمارة كان هو المشكلة المزمنة والمعقدة وان اول محاولة للاصلاح كانت قد طرحت في مؤتمر البلاط الملكي الذي انعقد في 2 ديسمبر / كانون الاول 1931 بحضور الملك فيصل الاول ونوري السعيد رئيس الوزراء في اول وزارة له ورستم حيدر وزير المالية واحمد فهمي مدير الواردات وكورانواليس وعدد من المستشارين البريطانيين . وفي المؤتمر اقترح نوري السعيد تقسيم تلك الاراضي الى قطع صغرى حتى يتم حل مشاكلها حيث يتمكن شيوخ العشائر من تنظيمها واداراتها بشكل جيد ، الا ان البريطانيين عارضوا اقتراح التقسيم بحجة ما يعتري ذلك من صعوبات في الري ، ولان حماية الامن في المقاطعات من قبل الشيوخ تقتضي عدم تجزئتها كما اكدوا ان التقسيم يؤدي الى صرف مبالغ كبيرة لوضع نظام سليم لمراقبة الري مما يقتضي اجراء زيادة في عدد الموظفين الاداريين ورجال الشرطة . . ( راجع : عبد الرزاق النصيري في اطروحته الممتازة والموسومة : نوري السعيد ودوره في السياسة العراقية حتى عام 1932 ، مراجعة : د. كمال مظهر احمد نقلا عن اهم الوثائق : ملفات وثائق البلاط الملكي ، ط/8 ، 163 ـ وع ، المؤتمرات المنعقدة في البلاط الملكي ، محضر المؤتمر المنعقد في 2 كانون الاول 1931 ، الوثائق 4ـ6 ) . وانظر ايضا : ( ملفات وثائق البلاط ، م/4/2، 1349ـ وع ، ضريبة مقاطعات العمارة ، كتاب سري ومستعجل من كورنواليس مستشار وزارة الداخلية الى رئاسة الديوان ، رقم 3897 في 22 كانون الاول 1931 ، الوثيقة رقم 71) .
يبدو ان مقترحات نوري لم تعجب البريطانيين ، ولما كان لا يستطيع لا هو ولا كل النظام فعل أي شيئ لمعالجة مشكلات الارض الزراعية العراقية ، فقد اخذ بمشروعهم . لقد اراد منذ تسنمّه اول وزارة له ان يحل تلك المشكلة المعقدة ، فلم يستطع كما يؤكد من عاصره وقت ذاك . وعليه ، فقد تجّلى رضوخه من نظام الاراضي ، باصدار قانون تسوية حقوق الاراضي رقم 50 لسنة 1932 ، وقانون منح اللزمة رقم 51 لسنة 1932 ( من اجل تفاصيل تاريخية عن هذين القانونين ، انظر : عماد الجواهري ، تاريخ مشكلة الاراضي في العراق 1914- 1932 ، بغداد 1978 ، ص 264- 275) .
فما طبيعة التداعيات التي حصلت ؟
صحيح ، لقد نجحت الخطة البريطانية في ابقاء مساحات شاسعة من الاراضي الزراعية بموجب القانونين المذكورين بايدي شيوخ العشائر ، وخصوصا في العمارة والناصرية والكوت .. ويبدو ان المهمة التي اضطلع بها الخبير البريطاني آرنست داوسن الذي جرت ” التسوية ” وفق تقريره .. ولقد تعرضت بنود قانوني التسوية واللزمة الى انتقادات شديدة من قبل المعارضة .. وهناك من يخطئ بقوله ان القانونين انتزعا من الفلاحين الارض واعطائها للشيوخ ، وهذا ليس بصحيح ابدا ، فالارض اصلا لها مشاكلها المتوارثة منذ العهد العثماني ، ولكن كل من القانونين ابقاها بيد الشيوخ مثبتا ملكيتها لهم ! ولكن دعونا نفكّر في القانونين المذكورين ونتساءل من باب محك التجارب التي مرّت علينا طوال القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين . هل كان بمقدور الحكومة العراقية تأمين وسائل الري لتلك المساحات الشاسعة من الاراضي اذا ما تم تقسيمها على الفلاحين ؟ هل باستطاعة الحكومة العراقية ان تفرض الامن والاستقرار في مناطق عشائرية صرفة تكثر فيها ( الطلايب ) ؟ هل بمقدور الحكومة العراقية في ذلك الوقت الموافقة على صرف اموال طائلة ، وهي لا تملك المال ؟
ثانيا : اخفاق قانوني الاصلاح الزراعي في العراق : اخطاء ينبغي الاعتراف بها
ان البيئة الزراعية العراقية التي تجاذبتها قوتان اساسيتان ازاء الفلاحين كانت منتجة ومخصبة بالرغم من العلاقات الانتاجية الهزيلة ، وبالرغم من العلاقات المهزوزة بين الفلاح ومالك الارض .. ولنا ان نقارن بين الانتاج الزراعي العراقي لما قبل اصدار قانون الاصلاح الزراعي عام 1959 وبين الانتاج الزراعي لما بعد صدوره ونقدم النتائج للاجيال لتحكم . ان مجرد اصدار قانون للاصلاح الزراعي وتحديد الملكية بـ 1000 دونم للفلاح ، قد جعل الفلاح باق على ارتباطه بشيخ عشيرته ارتباطا قويا ، ولكنه افقده السيطرة على ارضه التي لم يعد بمقدوره توفير البذور لها ، او المكننة حراثة وحصادا لها .. ثم انه لم يكن باستطاعته ان يمتلك اي وسيلة نقل حديثة لتسويق انتاجه .. مما جعل الشيخ يتبرص به .. خصوصا وان شيوخ العشائر كانوا دوما يوثقون علاقتهم امام اي حاكم يحكمهم بدءا بالانكليز وحكام العهدين الملكي والجمهوري ..
ان مصالحهم تتقدم على كل خصائصهم ، وعندما يحسون ان مصالحهم في خطر يتخلون عن كل مواريثهم ليعملوا في السياسة .. ان تأثيرات ونتائج اخفاق قوانين الاصلاح الزراعي في العراق ان الدولة ارادت تطبيق العدالة الاجتماعية من دون اي اغطية للفلاحين ولا اي قوانين وضوابط واجراءات .. ثم ان العراقيين صفقوا للقوانين التي اراد تطبيقها الشيوعيون سعيا منهم لتطبيق الاشتراكية ومحو ( الاقطاع ) واختزالهم للزمن للانتقال فجأة الى الاشتراكية العلمية وحكم البروليتاريا ، علما بأن مجتمعنا لم يكن صناعيا وليست فيه طبقة عمالية كبرى .. او انهم صفقوا للقوانين التي اراد تطبيقها القوميون والبعثيون سعيا منهم للاقتراب من ذاك الذي جرى في مصر عندما اعلن الرئيس جمال عبد الناصر قانون الاصلاح الزراعي وكأن العراق مثل مصر . المهم ، ان كل ذلك قد حصل في العراق من دون اي حكم شيوعي للبلاد ، فماذا لو حكم الشيوعيين العراق ؟ كيف سيتصرفون ليس ازاء العلاقات الانتاجية في العراق ، بل ازاء واقع متورم بالمشكلات والتعقيدات التي لم يسببها شخص واحد او سياسة واحدة او عهد واحد ..
ان من يقرأ ما اتصف به شيوخ العشائر العراقيين في الماضي القريب من الصفات المزدوجة ، فثمة مصادر اساسية ذكرت اهم الإحصاءات ، ذلك أن 272 مالكاً كانوا يمتلكون 6 ملايين دونما وإن فساد بعض الشيوخ وسيئاتهم تجلى بكل وضوح في لواء العمارة، فقد كانت الأراضي المزروعة في هذا اللواء ملكاً للدولة تقوم بتأجيرها إلى الشيوخ، يتصرف 171 مالكاً بالأراضي البالغة مساحتها 3،500،000 دونما ويمتلك سبعة من هؤلاء الشيوخ ملكيات كبيرة تتراوح مساحة الواحدة منها بين 100 ألف دونم إلى 400 ألف دونم . ويكتب غضبان الرومي في سيرته الشخصية قائلا : ” اما شيوخ دجلة وخاصة شيوخ العمارة وعشائر ربيعة في الكوت. فقد كانت موالية للحكومة البريطانية ولم تصدر منها أي حركة مخالفة، وقد ارسلت لهم مبالغ طائلة من الليرات الذهبية على سكوتهم وموالاتهم. ان العشائر التي كانت تسكن قضاء قلعة صالح اكثرها من البو محمد ومن بني مالك والبيضان والسواعد وآل ازيرج في المجر الكبير، حيث كان ناحية تابعة الى قلعة صالح ، واكثر الشيوخ قرابة الى الانكليز كان الشيخ فالح الصيهود وحاتم الصيهود ومجيد الخليفة واخوته والشيخ زبون اليسر وعصمان اليسر. وكان يسكن منطقة الاهوار الواقعة بين قلعة صالح والحويزة قوم يسمون ” الشَدّة” واهم افخاذهم النوافل وهؤلاء يسكنون على تلول في وسط الهور ويربون الجاموس وحياتهم على صيد الاسماك وعمل البواري وهي حصران من قصب. وكانوا صلة الوصل بين عشائر العراق وعشائر الحويزة التي كانت عربية تحت سيطرة الشيخ خزعل الشيخ جابر “. اذن هناك تداخل بين العلاقات العشائرية المبهمة وبين الحكومة وكانت لم تزل ضعيفة وليس لها الا الانكليز الذين كانوا قد بنوا اقوى العلاقات مع شيوخ العشائر .. وثمة معلومات يتداولها بعض الناس كم وزع الانكليز من ليرات ذهبية على الشيوخ بين العام 1914 والعام 2000 ، اي حتى قيام ثورة العشرين !
ثالثا : الشيخ والعشيرة .. الارض والدولة
1/ كتابات مهمة
لا استطيع ان احتكر ” الموضوع ” لوحدي ، وليس باستطاعة الاخ الدكتور كاظم حبيب ان يفعل كذلك ، اذ ان ثمة باحثين ودارسين اشتغلوا على الموضوع بطريقة او بأخرى ، ومنهم من كّرس درسه وبحثه بشكل تخصصي ، وخرج كل واحد منهم بنتائج متباينة نظرا للمنهج والتفكير والمنطلق والمعلومات .. ولكن يمكنني الكشف عما انا مقتنع به وربما اكون على خطأ ، خصوصا وان العراق ودراسة مجتمعه يأخذ نصيب الأسد من التحليل، مقارنة بغيره من بيئات الشرق الاوسط ، فهو الحالة الدراسية الأهم, والعلاقة بين السلطة والقبيلة فيه هي محور مساهمات عديدة وخصوصا في التاريخ الاجتماعي والاقتصادي للعراق المعاصر . فقد كتبت المؤرخة الدكتورة البرتين جويدة عن مشكلة الاراضي في الناصرية وتعمقت في تواريخها العائدة الى النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، وكتب الصديق الدكتور فالح عبد الجبار دراسته : “الشيوخ والمنظرون.. تفكيك وبناء القبائل تحت حكم الدكتاتورية في العراق بين 1968 و1998”, وكتب الصديق الدكتور عماد الجواهري اطروحته عن مشكلات الارض في العراق الحديث واختص بفترة الاحتلال البريطاني وعهد فيصل الاول ، وكتبت المؤرخة الامريكية دينا خوري عن مشكلات الارض في اقليم ولاية الموصل في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ، وتناول الصديق الدكتور غسان العطية في اطروحته المشكلة في دراسته السياسية والاجتماعية منذ العام 1908 ، وكتب هشام داوود عن “دولنة القبيلة, وقبلنة الدولة في حالة العراق”, وكتب كيكو ساكي عن “القبيلة كأداة للسيطرة الحكومية في العراق.. ملاحظات حول الجيش والحكومات والمجلس الوطني”. وهناك دراسة معمقة كتبها توبي دوج الأكاديمي البريطاني, وفيها يعود إلى مرحلة الانتداب البريطاني على العراق ويحلل علاقة الإدارة الاستعمارية بالقبائل وشيوخها والسياسة التي اتبعتها تلك الإدارة اعتمادا على تحليلات وكتابات المؤرخ حنا بطاطو.
2/ رؤية اركيولوجية تشخيصية في معرفة اربع حالات
ليدعني الدكتور كاظم حبيب وكل المتابعين الاعزاء ان اخصص هذه الرؤية الاركيولوجية التشخيصية لاربع حالات مهمة جدا في تاريخنا الاقتصادي للعراق ، وسأبدأ بالعمارة التي تعد اكثر مناطق العراق استغلالا نظرا لتعاظم الملكيات الزراعية فيها وانتهي بالموصل التي تعتبر من اقل المناطق مشكلات وتعقيدات مرورا بكل من المنتفج والدليم ..
الحالة المستعصية : لماذا لواء العمارة بالذات ؟
كتب توبي دوج يقول في مقالته الممتازة عن العراق والتي عنونها : ” الفلاحون والشيوخ ” : ” شكل الانسجام بين الشيخ وعشيرته اساس سياسة الارض من الاحتلال فصاعدا، وقد حصل في لواء العمارة ان السياسة نالت تطبيقاتها الاكثر تحررا. وحاول ضباط الدخل البريطانيون مع قوات الحملة ضبط الاستقرار في الارض في العمارة بوضع ملكيات كبيرة وفق عقود تأجير لسنتين دوارة(في يدي شيخ قادر وقوي) وكان المعتقد به ان الشيوخ يمتلكون .. ” .
ويتابع توبي دوج مستطردا : ” لقد اتخذ البريطانيون قرارا واعيا مرة واحدة بان الشيوخ كانوا اما مترسخين في الارض او كان لهم موقعهم المعترف به في التعامل معهم …. فالشيخ كقائد لمجتمعه كان يخلق النظام وانطلاقا من هذا المفهوم فان السركال كان شخصية ادنى وغير ذي اهمية في نهاية الامر، وسينتقل الاعتراف الرسمي، والسلطة والموارد المالية من خلال الشيخ وليس اي شخص اخر.
واضاف قائلا : ” فقد كان ينظر الى الشيوخ من خلال علاقاتهم بالمجتمع الزراعي الاوسع باعتبارهم قادرين على فرض القانون والنظام، … وكان من المقترح ان يتم تخفيض اراضي الشيخ محمد العريبي لانه اصبح واضحا انه لا يمتلك المهارات اللازمة لادارتها جميعا بصورة فعالة، غير ان قوة الهيكل الجماعي كانت شديدة بحيث ان صنف الشيوخ باستثناء الامكانات الاخرى كان لا يزال يستخدم لادارة اعادة التوزيع هذه وقد اعيد تخصيص نسبة من اراضي الشيخ محمد لشيخ اخر من البو محمد وهو فالح الصيهود ” .
لقد كان لواء العمارة يمّثل بلا جدال حالة خاصة وشديدة الحساسية نظرا لتفضيلها الشيوخ على كل الجماعات الاخرى في المجتمع .. واجد من خلال مقارنتي بين الوية العراق القديمة ابان العهد الملكي تشابها بين ثلاث الوية يتشبث فيها الفلاح بالعشيرة اكثر من تشبثه بالارض والدخل .. اما الشيخ ، فهمّه هو الارض والغلة لأن الدولة همها الضريبة والغلة .. وربما وجدنا اختلافا بسيطا في لواء المنتفك لدى آل السعدون الذين يعتبرون اكثر مدنية من غيرهم ولا تحكمهم الروابط العشائرية كما هو الحال في كل من العمارة والدليم . ان الالوية الثلاثة تزداد فيها التنافرات والاضطرابات ، فكان كل من الانكليز وفيصل الاول يحاولان على عهديهما ان يكرسا روابط جديدة ومباشرة للدولة والتي من الصعوبة ان يتقبلها مجتمع بدائي من المزارعين الذين لا يعرفون غير رباطهم بالشيخ .. وعليه ، فكان لابد من الاعتماد على سلطة الشيوخ والاستفادة من مكانتهم العشائرية لتنفيذ المهام الادارية المتنوعة .. وكانت النسبة بين عشرة الى اثنتي عشرة بالمائة من المحصول الذي يأخذه الشيخ من الفلاحين العائدين له تعد ممارسة مترسخة من خلال علاقات اجتماعية مستقلة عن ممارسات الدولة .. ومن خلال نظام المشيخة ، نجحت الدولة ان تخلق لها مشاركة ثلاثية .. وعليه ، غدا الفلاح يدفع الضريبة المستحقة الى الدولة الى السركال ، وهذا يقوم بدوره بتسليم الدخل او الغلة الى الشيخ الاعلى الذي يقوم بدوره بتسليمه الى الحكومة بعد ان يستوفي من ذلك حصته .
الحالة المتعاونة : لواء الدليم
بعد اضطرابات ثورة العشرين ، خطت الدولة خطوة اضافية وسعت الى مأسسة نفوذ شيوخ الدليم بمطالبة العديد من الشيوخ الثانويين المتمردين سابقا بالتوقيع على تعهدات بالولاء لعلي سليمان موافقة رسمية على رفع المشايخة له ، اي بمعنى : رفع الرسوم المشيخية، ولم يكن ذلك له اي تأثير على الواقع الاجتماعي بسبب كونه يجلس في قلب مجتمع مركب جدا ومحسوبة هي قيادته ..
يعد علي السليمان الرجل الوحيد الذي باستطاعته توفير الدخل والنظام ونظرا لكونه الشيخ الاعلى للدليم، فقد صار هذا السليمان يجسد الدور الايجابي الذي يمكنه ان يلعب به في الحياة الزراعية، ” ففي اوائل عام 1921 قام بتنظيم حفر قناة الصقلاوية وهي رافد للفرات اسفل الرمادي، وعند اكمالها كانت هذه القناة ستضع ارضا اضافية مساحتها 100000 اكر (الاكر يساوي 400 مترمربع ) بين دجلة والفرات تحت الحراثة، وبنشره لاحترامه ونفوذه وسط عشيرته ضمن عملا مجانيا متسعا لحفر القناة، وسمحت له الارض الجديدة التي هيئت للحراثة تحقيق الاستقرار لافراد عشيرته المعدمين من الارض حتى ذلك الوقت، وكانت خطوة منطقية عندئذ الموافقة على طلبه بان تعطي سندات طابو الارض الخصبة حديثا له شخصيا فقد كان يمثل ذروة العشيرة وكان موقعه الاجتماعي هو الذي جعل القناة تحفر في المقام الاول وكان هوافضل من عين لخدمة مصالح الدليم المستقرين حديثا على الارض ” .
من هنا تبلورت شخصية الشيخ علي السليمان في مركزية العراق وخصوصا في المناطق التي كانت تبدو ساخنة منذ ذلك الوقت ، علما بأن ثمة من كان يشخص نقاط ضعف عديدة عنده على الرغم من دوره في صدارة الاتحاد العشائري الذي ضمن الاستقرار لمنطقة الدليم شاسعة الاطراف .. ان الدليم صورة حقيقية لمركبات المجتمع العراقي الذي له فهمه الجمعي حول مكامن قوة العراق مقارنة باسباب ضعفه . وعليه اقول ، لقد ساهم الشيخ والعشيرة في دفع مستوى الجماعة في المجتمع عندما كانت الدولة ضعيفة لا تقوى على سد كل الحاجات .. بل وكانت تفرض الضرائب الثقيلة على كل من الاثنين . ان ما نلحظه من خلال المقارنة بين الالوية الثلاثة ان قسوة الشيوخ متبلورة وقديمة وبارزة في لواء العمارة .. في حين انها تنخفض كثيرا في لواء المنتفك ، وانها تنعدم حقا في لواء الدليم .
الحالة المبهمة : لواء المنتفج
المنتفك أو المنتفج .. حالة عراقية اخرى غير مكتشفة ، وثمة بينة واضحة لتبيان ان فئتي الشيخ والعشيرة كانتا تنتشران في المنتفك التي تعد احدى اكثر مناطق البلاد اضطرابا، ليس فقط لضبط المجتمع بل لتفسير العنف والاهتياج الاجتماعي ايضا ، ان المنتفجيين لهم تاريخ معروف من الاضطرابات المتعلقة بالارض الزراعية متنوعة المحاصيل . ان الرهان على النظام وسيادته لا يأتي ايضا الا على ايدي الشيوخ وقوة نفوذهم في عشائرهم ، حتى يمكن القول انها تمثّل قوة حقيقية للصالح العام. ويبدو ان عشائر المنتفك تمثل دوما المساواة والاستقرار الاجتماعي، او البحث عن الحرية .. لعل اشهر الملاكين في المنتفك كانوا من آل السعدون الذين لم يكونوا محل ثقة من قبل الانكليز ، فهم ليسوا على ارتباط عضوي بدواخل العشائر العراقية .. كونهم فرضوا من قبل الدولة العثمانية ، وانهم سكان مدن وليسوا سكان ريف في العراق .. لقد بدوا غرباء او اشبه بغرباء عن القيم العشائرية العراقية وخلافا ـ كما يعتقد البريطانيون ـ فان العشائر وبرعاية وتأييد البريطانيين كانت تتمتع بالموثوقية والاخلاقية والنبل.
وكما فعلت في العمارة مع شيوخها استخدمت القوات البريطانية خلال حملة مابين النهرين نفوذ شيوخ المنتفك لابقاء المنطقة هادئة اثناء الحرب، وركزت المسؤولية الارض، وضريبتها وانتاجها في ايدي اولئك الذين حددت هويتهم كشيوخ عشائر. ونجم عن هذا تهميش للفئات وعناصر المجتمع الفعالة الاخر التي اعتبرت غير ضرورية لمجتمع المنتفك. وقد برز التصور الاجتماعي الجماعي المهيمن لدى البريطانيين المنظمين لامور المنتفك الى المقدمة حين كانوا يسعون الى فهم المعارك بشأن الارض التي استمرت تزعزع استقرار المنطقة بعد وقت طويل من وصولهم وقد افترضوا انه طالما ان عشائر المنتفك قد مارست حقوقا بشأن الارض التي كانت قد وزعتها منذ القدم فلابد ان سبب النزاع يكمن في مكان اخر، خارج مجتمع المنتفج.
لقد كان النزاع الذي ظل يزعزع استقرار الاقليم منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر يفهم على انه بين السعدون المصنفين كملاك اراض والمستأجرين لديهم، المصنفين كأهل عشائر، فكانت السياسة البريطانية المؤسسة على هذا الفهم الجماعي لمجتمع المنتفج ، تأخذ جانب اهل العشائر على جانب السعدون وعلى كل حال فان البريطانيين كانوا ملتزمين ايديولوجيا بحكم القانون والدفاع عن حقوق الملكية وهكذا كان لابد من تبرير هذا الانكار الواضح لحقوق ملاك الاراضي، وعليه لم يكن حق مالك الاراضي في التملك ما كان يبدو عليه.
وكان وجود ملاك الاراضي المفسدين في المنتفج نتيجة للممارسات العثمانية المخادعة، ومن هنا كان تملك الملكية هذا يعتبر غير شرعي ويتعذر الدفاع عنه فلم يكن ملاك الاراضي هؤلاء قد اشتروا الارض من العشائر، وانما اعطيت لهم بامر عثماني، ولذلك لم يكن السعدون بالنسبة للبريطانيين يملكون الحق القانوني في هذه الارض ولم يكن بوسعهم حتى اثبات تملكهم بحيازة مادية. ان هذا ليس صحيحا عندما يكيل البريطانيين بمكيالين او اكثر ، فالارض المملوكة من هذا الطرف او هذه العشيرة مشروعة وحقيقية والارض المملوكة من قبل طرف آخر لا مشروعة ولا حقة .. وسواء اشتريت تلك الاراضي ام منحت ام سجلت بالقوة او باية وسائل كانت ، فلا يمكن محاسبة اصحابها بعد عشرات السنين من تملكهم اياها .
حالة المناصفة : لواء الموصل
انه من اثرى اقاليم الشرق الاوسط سكانيا ، فهو الاقليم الاول الذي يضم مركزا قويا وكبيرا من الناحية التجارية ويضم عشرات القصبات من اقضية وبلدات ونواحي وتلتحق بها الاف القرى المزدهرة من الناحية الزراعية والثروة الحيوانية .. انه اقليم يمتلك طاقة زراعية قوية جدا مع ثروات مائية وحيوانية كبرى أهلته ليكون اقليما صناعيا يزدهر بالعشرات من الحرف ، واصبح واحدا من ابرز المناطق التجارية الحيوية في سوق البازار الشرقي . وكان اقليم ولاية الموصل واحدا من اهم مصادر الثروة في الدولة العثمانية .. وقد عرف نظام الالتزام القديم في تحديد العلاقة الانتاجية ، وبعد التنظيمات العثمانية تحددت في الطابو بملكيات لم تكن شاسعة الاطراف باستثناء تلك التي كانت من املاك شيخ مشايخ شمر عجيل الياور . اننا لم نجد اقطاعا او علاقات شبه اقطاعية في هذا الاقليم الذي اتسمت العلاقات بين الشيخ والفلاحين لدى البدو من آل الياور وآل المطلك وغيرهما .. او بين الاغا والفلاحين لدى الاكراد ومنهم شمدين اغا ، او بين الملاكين المحليين الموصليين القاطنين في المدينة وبين الفلاحين المنتشرين في الاف القرى . ويعتبر اقليم الموصل اغنى منطقة في الشرق الاوسط بامتلاكع اكبر عدد من القرى والارياف المأهولة منذ الاف السنين. في اغلب المناطق من هذا الاقليم ، تتنوع العلاقات الانتاجية حسب التلون السكاني ، ولكنها مرتبطة دوما بعامل القرابة اذا كانت بين عرب شمر والبو متيوت وكل العشائر المرتبطة باراضي غرب دجلة .. في حين نجد طي والبو سنان وغيرهم في قرى شرق دجلة .. ثمة عشائرية قوية وقبلية مترابطة برباط قومي ومحلي في آن واحد بين الاغاوات الاكراد والفلاحين وتتشابه العلاقة سواء عند عشائر زاخو ودهوك والعمادية والشيخان من البهدينان مع عشائر كويسنجق والسليمانية واربيل من .. وصولا الى عقرة وبارزان وامتداد نحو راوندوز وحاجي عمران .. العلاقة وشيجة بين الاغا والفلاح الا مع استثناءات فردية ، ولكن الصراع بين القبائل والعشائر كان مستديما ليس بسبب علاقات اقطاعية ، بل لمصالح متنوعة اخرى .
ان هذا ينطبق على اليزيدية في الاقليم .. ونكاد نرى العلاقات على افضل صيغة بين الملاكين للارض والفلاحين فيها في سهل الموصل على شرقي دجلة حيث تنتشر مئات القرى المسيحية ، ولقد بقيت مشكلة اراضي قره قوش في المحاكم المدنية سنوات طوالا بين الورثة من مالكيها القدماء من الجليليين وبين الفلاحين ولا ادري الى اين انتهت بعد صدور قانون الاصلاح الزراعي .. وازدحمت الموصل نفسها بالملاكين الذين كانوا يتقاسمون في اسلوبهم مع الفلاحين الانتاج مناصفة ، فالعرف يقول بـ ( قرّاش وكّتاف ) .. وقد حدثت مشكلات قديمة في التعامل بين الطرفين ، ولكنها فردية لا يمكن تعميم حالتها على كل الاقليم .. وسواء كان الفلاح عربيا ام تركمانيا ام يزيديا او مسيحيا .. فانه لم يألف اية حالة من الاضطهاد والاستغلال في هذا الاقليم مقارنة بما كان يعاني منه الفلاح في العمارة مثلا !
ان الزمن في القرن العشرين وخصوصا في هذا الاقليم قد تغير تماما ، انه لم يعد ينتج فائض للمحافظة على قوة المدن والحكومات في اطار الدولة العثمانية ، إما بسبب انحصار الأراضي الزراعية أو إن الزراع كانوا تحت سيطرة الشيوخ القبائل و ليس تحت سيطرة الإقطاعيين . و في العراق فان هذه العملية وصلت إلى النقطة التي أصبحت عندما المجتمعات الحضرية مهددة و ذلك في القرن الثامن عشر لكن هذا لم يحدث في العراق و سوريا فالقاهرة ، دمشق و حلب كانت في القرن الثامن عشر مدن مزدهرة . وعندما نقارن هذا ” الاقليم ” بغيره من الاقاليم العراقية نجده كان ولم يزل سلة غذاء اساسية تكفي ليس للعراقيين وحدهم ، بل لكل مجتمعات الشرق الاوسط .. ذلك ان منتجاته متنوعة ولا حدود لانتاجها في اغلب المواسم الزراعية .
واخيرا :
علينا القول بأن الطبقة المالكة في العراق الذي تركه العثمانيون ليقع بأيدي البريطانيين كانت ولم تزل تتحالف مع الحكام ايا كان نوعهم من اجل تنفيذ مصالحها ، وهذا ما وجدناه مع الانكليز الذين اغرقوا مراكز القوى الاجتماعية العراقية بالذهب ، وحال التوقف عن ذلك هاجت شيوخ العشائر واشتعلت الثورة في حين بقيت النخبة السياسية في تحالفها مع البريطانيين . ان ممثلي الطبقة العليا لا تهمها المناصب بقدر ما يهمها المال والنفوذ الاجتماعي. وعليه ، فان الطبقة المالكة للارض والنخبة السياسية تندمجان احيانا في صنف فئة واحدة لتفسير اسباب وتأثيرات عنف بعض المناطق وعلى رأسها : المنتفج ..
لم يكن دعم السلطة مستمرا لمصالح ملاك الاراضي ، فلقد كان هناك بعض التعاطف مع المظالم العشائرية في الدوائر الرسمية العليا في بغداد، وقد ادى هذا الى ان يكون ضباط الحكومة المحلية مرغمين على جمع الايجار لمصلحة ال السعدون. والتركيز بالتالي على الاستيلاء العشائري من مؤسسات الدولة.
استنتاجات :
سوف لا اتحدث الا بعد ان نقرأ النص التالي الذي كان مقدمة لمشروع معالجة فكرية لاسباب تدهور الانتاج الزراعي في العراق على امتداد الخمسين سنة الماضية . يقول النص : ” اصبح العراق منذ النصف الثاني من القرن العشرين مستوردا رئيسا للسلع والمواد الغذائية بعد ان كان في مطلع القرن ينتج ما يكفيه بل ويزيد عن حاجاته رغم امكانياته الفنية المتواضعة . كان يصدر الحبوب وسلعا زراعية للاقطار الاوروبية وكانت الاسواق العالمية تعلن في نشراتها اسعار القمح والشعير والرز العراقي المصدر لتلك الاسواق ماذا حدث اذن ؟ وما هي التحديات التي واجهت الزراعة في العراق كغيرها من القطاعات الاقتصادية لتجعل من هذا البلد ذي الخيرات الوفيرة يعاني من فجوة غذائية تتسع عاما بعد عام وتخلف تكنولوجي زراعي وانخفاض في مستويات المعيشة وانتشار الفقر وخاصة في السنوات الاخيرة” .لا اريد ان اعلق على ما ورد في اعلاه ، فالنص يتحدث عن خلل هائل قد حدث في بنية العلاقات الانتاجية بالعراق .. وان من اراد الاصلاح قد ساهم من حيث يدري وهو ساكت او من حيث لا يدري وهو يثرثر بحجم ما حدث .. وسنرى تحليلات ذلك في الحلقة الخامسة التي اتمنى ان يتابعها كل المهتمين .. وسواء اختلفوا ام اتفقوا مع مضامين ما اقول ، فهي ستنفع بالضرورة الاجيال القادمة .
24 ديسمبر 2007/ كانون الاول
ينشر تباعا على موقع الدكتور سيّار الجميل
www.sayyaraljamil.com
انتظروا الحلقة الخامسة من هذا الحوار
جادة حوار عراقي.. مقاربات ومباعدات بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب.. الحلقة الثالثة
جادة حوار عراقي.. مقاربات ومباعدات بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب (الحلقة الثانية)
جادة حوار عراقي.. مقاربات ومباعدات بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب (الحلقة الأولى)
الرئيسية / حوارات / جادة حوار عراقي.. مقاربات ومباعدات بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب (الحلقة الرابعة)
شاهد أيضاً
ملف: إمكانية حكم دكتاتور عادل للعراق.. حوار عراقي مصري بين الدكتور سيّار الجميل والأستاذ عبد الله كمال على روز اليوسف المصرية
مقدمة كتب الصديق الأستاذ عبد الله كمال عضو مجلس الشورى المصري ورئيس تحرير كل من …