الرئيسية / ابحاث ودراسات / اشكاليات فن الرواية التاريخية العربية

اشكاليات فن الرواية التاريخية العربية

” رؤيا جديدة للعالم والإنسان ، وشكلا كتابيا ، موزونا أو منثورا ، يحتضن هذه الرؤيا “.
أدونيس في ” صدمة الحداثة ” .

مقدمة : مجال الموضوع وحدوده
لابد من القول ان الادب العربي الحديث لم يكن في كثير من الاحيان موائما للتغيرات الداخلية أو متناغما مع الظروف الخاصة التي تمّر بها البيئات العربية المحلية ، وان ما نجده اليوم ونحن عند بدايات القرن الواحد والعشرين بعد ان انتهى القرن السابق ، والذي تبلورت فيه مدارس أدبية عالمية ، أو مذاهب متعددة ومتنوعة في آداب الشعوب ، لم تواكبها طبيعة جميع فنون الادب العربي الحديث ، نتيجة اهتمام العرب منذ القدم في فن أدبي معين على حساب فن أدبي اخر ! وعلى الرغم من انبثاق القوالب النثرية والتيارات الفنية المستحدثة في الادب العربي الحديث ، ناهيكم عن وجود علل عدة ، أبرزها : حالات التفاعل غير الجادة أو المكتملة بين الاديب وتلك ” الحالات ” ، ومنها : واقعه الاجتماعي ، والسلطات السياسية ، والايديولوجيات الفكرية ، والثقافات المتعددة ( قوية ونامية ) ، وصدمات الحضارة ، واخيرا ، المواريث والتواريخ .
وعندما نتحدث عن فن الرواية التاريخية The Historical Novel ، علينا أن نفصلها كفن أدبي قائم بذاته عن بقية الفنون الادبية ذات العلاقة معها كالمسرحية التاريخية ، والسيرة التاريخية ، والحكاية التاريخية ، والمقامة الادبية ، والرواية السياسية والاجتماعية ،وعن كتابة المذكرات والبايوغرافيات الشخصية ، وعن القص التاريخي ، وعن أدب الميرابيليا والعجائب وادب الاساطير .. الخ مع معرفتنا بطبيعة الحال ان فن الرواية يمتد ليشمل الى جانب موضوع : الرواية التاريخية ، الروايات : التعليمية والاصلاحية والعاطفية والعلمية والمغامرات والبوليسية والخيالية .. الخ ولكن ؟ لو استخدمنا مفهوم ي. م. فورستر وغيره من النقاد المعاصرين ، لامكننا تقسيم فن الرواية الى نوعين متمايزين اثنين ، هما : الرواية التاريخية ، والرواية الفنية . ولابد ان نعلم ، انه على الرغم من استعارة الاولى التكنيك الروائي عن الثانية ، واستعارة الثانية ـ في بعض الاحيان ـ صورا واشكالا وموضوعات عن الاولى !

الاهمية والضرورة
دعوني أبتعد قليلا عن عرض ما للموضوع من أهمية بشكل عام ، ولكنني أود التركيز ـ هنا ـ على نقطتين اساسيتين تتعلق احداهما بالاخرى :
اولاهما : أهمية هكذا ” حلقة بحثية ” تعالج موضوعا حيويا يشترك فيه المؤرخ والناقد والروائي معا ، وعلى حد علمي المتواضع ، فان ليس هناك أية معالجات حوارية مشتركة بين جماعة من المختصين النقاد والمؤرخين وبين جماعة من الروائيين الادباء المبدعين من أجل اغناء واثراء النقطة الاساسية الاخرى المتمثلة بـ :
ثانيهما : حاجة المجتمع العربي المعاصر والاجيال القادمة الى منتج عربي رائع واصيل ورصين في فن الرواية التاريخية العربية ، يمكنه ان يسهم بقسط مهما بلغ حجمه في الصغر قراءة ، ومهما بلغ تأثيره من الكبر سواء في احالته الى المتلقي بشكل سمعي أو مرئي عبر اجهزة الاتصالات الثقافية والاعلامية الحديثة ، فهو يسهم اذا ، اسهاما حقيقيا في تطوير المجتمع العربي ومختلف عناصره ووسائله والياته .. ناهيكم عن خدمة المبدعين العرب من الادباء والفنانين والمثقفين والمفكرين لأهدافه وغايات ابنائه النبيلة التي عجز عن تحقيقها الكثير من الزعماء والساسة والمنظرين والمؤدلجين ومن تبعهم من الشعراء والاعلاميين والكتاب السياسيين الانشائيين التي لم تفض كتاباتهم الى شيىء ذي بال أو معنى !

الفضاء التاريخي العربي : جذوره وعوالمه :

مصادر أساسية للابداع الفني في الرواية التاريخية
لا يمكن للمرء أن يتصور كم يمتلك العرب بالذات على امتداد اجيالهم عبر التاريخ ، وعلى امتداد قسمات بيئاتهم المتنوعة في جغرافيتهم المتنوعة من فضاء تاريخي غني جدا بالتجارب ، والمعلومات ، والقصص ، والشخوص ، والبطولات ، والصور ، والالوان ، والملاحم ، والحوارات ، والاقوال ، والامثال ، والشواهد ، والنصوص ، والماثورات .. التي يمكن للروائي ان يعيد انتاجها ادبيا وفنيا في منتج هائل وكبير ومتنوع من الروايات التاريخية الرائعة التي لم يقتصر توظيفها عربيا حسب ، بل بامكانها ان توظف عالميا أيضا . وهنا يمكننا نحن العرب ان نفيد بها اجيالنا العربية القادمة اولا ، ونفيد بها العالم كله ! ويمكننا ايضا ليس في تربية اجيالنا الثلاثة القادمة في القرن الحادي والعشرين ، وزرع الثقة باعادة انتاج المعرفة التاريخية فنيا عند تلك الاجيال حسب ، بل توظيف ذلك كله في بناء مجتمعاتنا باغناء ثقافاتها ، وتقويم سلوكياتها ، وتصحيح اعوجاجاتها ، وتعزيز ملكاتها ، وتقوية ادبياتها واساليب كتابات ابنائها .. كما يمكننا ايضا ليس في تقديم أي شيىء للعالم الذي يسمع بما كان لتواريخنا في الماضي من أدوار ومأثورات حسب ، بل توظيف ذلك كله في تقديم صورة تقترب من الحقيقة عن مجتمعاتنا ، بدل الصور المشوهة والمأزومة والمتشنجة والعدائية ضدهم والتي تكتب وتصور وتنتج وتبث ضدهم منذ وقت طويل !
ان الرواية التاريخية : اشتمال لما يحكى في يوم متجدد عن مشاهد صورة الماضي ووقائعه واحداثه وحركة شخوصه ، وسمات معانيه ، وتوصيف تشيؤاته .. الخ في داخل اطار من الزمن ، وعلى ارضية معينة من المكان . والرواية اصلا عند العرب القدماء : رواية شفاهية ، غدت في عصر التدوين محررة ومكتوبة .. فالمصطلح له جذر قديم في ثقافتنا العربية . لقد اهتم العرب على امتداد العصور بـ ” المرويات ” ، وتفوقوا فيها لوحدهم متميزين على غيرهم من الامم ، خصوصا وان تفوقهم كان شفاهيا على امتداد تاريخ طويل . كانت ” الرواية ” تكتسب مع توالي الزمن من المضامين المتعددة التي خدمت عصر التدوين والتكوين معا في حقول ومعارف وعلوم شتى . وتعد الرواية خزينا متسعا من المعلومات والافكار والمنصوصات والمأثورات .. الخ وتتضح قدرة العرب على الروي التاريخي ، نظرا لاعتمادهم على ركيزتين اساسيتين اثنتين :
1. الذاكرة القوية الفردية والجماعية العربية في احتواء قدر هائل من ثراء التاريخ 0
2. ثراء تاريخ العرب بالمرويات والنصوص والاساطير والملاحم والبطولات وكنوز المخصوصات من المضامين التي لم تضطلع بها بقية الشعوب كالسلالات والانساب والقصص… الخ

خصوصية الروي العربي
هنا ، يمكنني القول ان الروي كان سمة اساسية عند العرب الى جانب الشعر الذي يعد عنوانهم ورمز ثقافتهم الكلاسيكية والحديثة ، فاذا المسرح سمة للاغريق ، والمصارعة سمة للرومان ، والخزف سمة للصين ، والحكمة سمة للهنود ، والنقوش سمة بيزنطه ، والسحر سمة الافارقة .. فان الشعر والروي سمة للعرب . معنى ذلك ، ان ” الروي ” جوهر التاريخ وصفحته التسجيلية عند العرب ، ولم يكن ” الروي ” يحتل أي قالب زمني محدد لحفظ شعر العرب حسب ، لكنه كما يؤكد على ذلك المستشرق البريطاني المعروف السير هاملتون كب أنه : يحتوي مجموعة سرديات لحوادث ووقائع ومأثورات اعتمدت على المرويات .. فحفظت تلك ” المرويات ” اصولنا وانسابنا ومواصفاتنا ومنصوصاتنا ومأثوراتنا واشعارنا نحن العرب . وكان ” الروي ” من أهم ما اعتمد عليه المسلمون في ما بعد لتسجيل التواريخ وتدوين الحادث التاريخي والحديث النبوي وغيرهما كثير .
لقد اردت من كل الذي قدمته ، القول بأن ” الروي” مهما كانت طبيعته مؤصل عند العرب ، وقد اجادوا فيه اجادتهم للسرد منذ القدم في الشعر والنثر على حد سواء .. كما أردت القول ، بأن هناك اليوم تصنيف من نوع آخر لـ ” الروي ” عند العرب المحدثين ، اولهما : رواية تاريخية يختص معناها بروي المعلومات التاريخية ضمن حزمة العلوم التاريخية . ثانيهما : رواية تاريخية يختص فنها الادبي بالقص التاريخي ضمن حزمة الفنون الادبية ، ويرتقي فن الرواية التاريخية الى درجة عليا من الصنعة الفنية ، والحبكة بالغة التعقيد ، والاسلوب المزدوج والصعب في تجانسه بين لغة تاريخ الحدث ولغة تاريخ الرواية .. ـ كما سنرى ذلك لاحقا ـ .

فضاء التاريخ : مادة النص / الحكاية
لا اريد أن أنصّب من نفسي ـ هنا ـ ناقدا لعمل ما أو عدة أعمال في هذا الفن الجميل ، ولكنني أردت تقديم بعض ” الافكار ” الارتكازية المؤسسة لاثارة بعض المداخلات والتعقيبات والشهادات والحوارات .. حول هذا ” الموضوع ” الذي أجده ويجده زملاء لي نحن جماعة اهل القلم سواء في رحاب بعض الجامعات من الاخوة الاكاديميين ، ام اصدقاء لنا من ادباء وروائيين وفنانين وصحافيين مثقفين يعشقون الروي التاريخي .. وستطيب لنا الشراكة في اللقاء والاجتماع ، كي نراجع معا دور كل من التاريخ والفن في خلق وابداع رواية تاريخية عربية متميزة ، وثمة أفكار لدينا ، قد تتلاقى او تتقاطع وقد تتشظى وقد تتصادم في اطار من المعرفة والتجربة والرؤية والمنهج والتفكير . كيف ؟
ذلك ان الفن الروائي التاريخي هو بمثابة البحث الذي يمتزج فيه الخيال بالواقع ، ليس عن علاقة الانسان بمروياته الصرفة في مجال التاريخ .. ذلك ” المجال” الذي يجمع خصبه الزاخر بجغرافية المكان . انه ” فن ” لا يؤرخ للاحداث ـ كما تعلمون ـ ، ولكنه : تجديد حيوي فعال لذاكرة الماضي بكل مواريثه الحية المزدحمة بالمفارقات والاحداثيات والمنصوصات والشخوص والبطولات والمأثورات والمصورات والتباينات .. الخ
الاشكاليات المثيرة
1. انه “فن” يختزل الزمن ويوّسع من المكان باقترابه منه او ابتعاده عنه . انه ” فن ” لا يقتصر على البقاء والابقاء في اطر (= شرانق) المسرد التاريخي في تراكيب جامدة لا حياة فيها ، كما يفعل ذلك المؤرخون الجامدون من النقالين والمقلدين والسرديين والتركيبيين وعبدة النصوص والشكليات واصحاب الطقوس الوعظية الهامشية ، لكنه من طرف آخر ، لا يقبل الابتعاد عن الحقائق التاريخية وروحها ، بخلق ما ليس له حياة وروح وواقع وتاريخ ، كما وانه لا يعمد على الانطلاق في رحاب الخيال الاسطوري وفضاءاته الواسعة والمتنوعة ؛ بل انه يختص قبل أي شيىء باحياء اللحظة التاريخية المنتهية في الذاكرة العربية ، مهما بلغت درجتها في الصغر .
وماذا ايضا ؟
2. انه فن صعب التحقيق : مادة وكتابة وتحريرا .. مضمونا وخلقا وابداعا ، انه فن معقد في انتاجه بجعله أصحابه من الروائيين المبدعين يمشون في الاعالي على خيوط قوية ، لا يريدون النزول الى كنف المناهج والمحددات والاعتبارات العلمية .. كما لا يمكنهم التبخر في ضباب ما وراء الواقع وما وراء التاريخ وما وراء المكان وما وراء الطبيعة .. كما يراها رتشاردز بـ ” الماورائيات ” التي ربما باستطاعة الروائي استخدامها في كتابته لصنوف اخرى من الروايات باستثناء ” الرواية التاريخية ” !
ولكن كيف ؟
3. انه فن يسحب التاريخ الى صاحبه بكل موجوداته على عكس ما يفعله المؤرخ عندما يسحبه العلم الى اعماق التاريخ .. وانه فن لا يقيد صاحبه عن التأملات الرمزية ، وخصب الخيالات في طبيعتها عندما يستأذن الروائي ذلك من القارىء المتلقي ، فلا يكاد يخلو أي مشهد أو لحظة أو صورة أو لمحة من محاولة اقتناص الماوراء ، ليس من أجل ادراك السر ، بل من أجل اكمال الصورة الحقيقية أو الصورة الاخرى المقاربة للحقيقة أو الصورة المشكلة من جزيئات كانت قد ابتعدت عن الحقيقة ! وربما كان ذلك ” الرمز ” هو المسمى بـــ ” المؤطر ” للرواية التاريخية الاقرب الى الحقيقة منها الى الوهم !
ولكن ؟
4. ثمة تجاوزات عند البعض من الروائيين السلطويين او المؤدلجين او المتزمتين غير الموضوعيين او الحياديين او الحقيقيين بمجانبتهم الحقائق ، وخلق صور واشكال ومضامين والوان وحوارات .. لا حقيقة لها ، ولا تاريخ عنها ، ولا مصداقية فيها . ان كل ذلك قد يأتي ارضاء لسلطات سياسية او اجتماعية .. وقد تأتي ضمن تشوهات ايديولوجية معينة عن نظم وتواريخ وشخوص .. او قد تأتي منطلقة من زوايا احادية في النظر الى التاريخ : مذهبية كانت أم طائفية أم استعمارية أم دينية أم غير ذلك من المرجعيات المتنوعة .
وماذا عن جغرافية المكان ؟
5. والرواية التاريخية لا حياة لها من دون ” المكان ” سواء في جمالياته الرائعه أم في تشوهاته البائسة ، ذلك ان الجغرافية وتنوعاتها ، قد يلهمها الراوي في اسلوب رويه اعلى درجات العبقرية الساحرة أو أدنى درجات البشاعة الجائرة ! ولم تكن الجغرافية التاريخية العربية الاسلامية في يوم من الايام : جغرافية واهمة أو موهومة .. ربما تتبدل من حين الى آخر ، ولكنها كانت على امتداد التاريخ ولم تزل على أحسن ما تكون من التنوع والتلون والسحر والجمال ، وعلى حد قول المستشرق الفرنسي المعاصر أندريه ميكال حين ذكر متسائلا : لماذا لا نـــأخذ ( نصوص الادب الجغرافي الاسلامي ) باعتبارها تشكل كّلا واحدا ، هادفين الى استعادة العالم الذي كانت تحسه وتدركه ، وربما تتخيله وتتصوره وجدانات ذلك العصر أو العصور التالية .. والغوص في هذه النصوص الرائعة للمشاركة في رؤيتها للعالم ” ؟

وماذا عن الاعمال العربية الابداعية الحديثة في الرواية التاريخية ؟
ربما لم يختص في هكذا ” فن ” صعب الممارسة ومزدوج المعايير ، الا عدد قليل جدا من الادباء العرب ، ولكن نجح عدد كبير من الادباء والروائيين العرب في القرن العشرين بتوظيف عدة جوانب تاريخية في أعمالهم الرائعة ، والقائمة طويلة بالاسماء ( خصوصا لدى الادباء العرب في النصف الثاني من القرن العشرين ) . لقد كانت أعمالهم الرائعة قد استلهمت في بعض مضامينها ، روح نصوص تاريخية وجغرافية كانت ولم تزل مغروسة في الذاكرة الاجتماعية العربية القديمة ‍ ، ولكن أغلبها امتزج بالخيال أو طّعم بالاساطير ‍‍‍‍‍، وهنا لابد من التأكيد على أن الرواية التاريخية الحقيقية هي فن مستقل الاطر الفنية لكنه مكتمل العناصر التاريخية ، ولا تكون بأي حال من الاحوال موظفة في تضمين ما ، أو حركة ما ، او واقع ما ابدا ، فما دامت تحمل صفة ” تاريخ ” ، فهي تتضمن بالضرورة اساسا كل ابوابه ونوافذه ، ولا تحمل أي مفتاح لباب واحد منه او نافذة فيه .
ان أي توظيف لتاريخ وهمي أو خيالي أو تراثي ( وحتى لو كان فيه جزيئات حقيقية من التاريخ الفعلي ) في المنتج الروائي العربي ، لا يحمل بالضرورة صفة ( أو : مواصفات ) الرواية التاريخية ، فهو مجانب للحقائق بالضرورة ولكن لا ضير من اجتزاءات معينة ، وغالبا ما يكون ذلك مجرد عملية استخدام مجتزءات تاريخية معينة ومحددة قد تتعلق بزمان أو مرحلة أو بطولة أو مكان او اسطورة … الخ صحيح انها كلها مجتزءات تاريخية ، ولكنها مجرد تماثلات من الماضي عن حياة العصر . وعليه ، فان ذلك كله يدخل في عداد ” تاريخ الوهم ” لا ” تاريخ الحقيقة ” وفن الرواية التاريخية الحقيقي هو تصوير فني لتاريخ الحقيقة . لقد وصف ذلك الناقد المعروف سايمور جاتمان في كتابه ” القص والخطاب ” بقوله : ” لا يمكن للروائي ( أي روائي ) ان ينظر باحدى عينيه الى الماضي وبالاخرى الى الحاضر ، اذ ان الثانية ستكون حتما أقوى من الاولى نظرا لكونها أكثر دقة في الرصد واكثر عمقا في الفهم والمتابعة ” .

السؤال الان : ما هي أبرز المحددات لذلك كله ؟
على الرغم أن الروائيين من كافة الاتجاهات ، يؤكدون على ان فن الرواية بشكل عام : نشاط فعال ، وضرورة لدراسة السيرورة التي يتم بها انتاج المعنى ، فان ثقافتنا الادبية العربية المعاصرة في القرن العشرين قد نجحت الى حد كبير في التصدي لفن الرواية ، وتقديم منتج رائع في محاولة ( أو : محاولات ) لمعرفة السيرورة العربية المعاصرة ، وتحكمها الى حد كبير ، القواعد والاصول كتعبير ابداعي عن لون جاد من ألوان ” الكفاءة الادبية ” . وكانت لنا في سجلنا النقدي اسماء لشخصيات من الادباء ( الروائيين والسيناريستيين ) المبدعين الذين تتوزعهم الساحة العربية ، وقد وصلت اعمال بعضهم الى درجة العالمية ، ولكن ؟
ربما بدا هذا المشهد من المنتج الروائي العربي بحاجة الى اشياء كثيرة لا أظنها قد فاتت على النقاد العرب ، بقدر ما هي اكبر من قدراتهم ، ولكنها بأي حال من الاحوال ، اصغر من حاجاتهم وضروراتهم:
1. بقدر ما للعرب ” حاضر” متنوع ومتناقض ومزدحم بكل البدائل والاحداثيات والثنائيات والمزدوجات ، وانه يعج بالاولويات السياسية والايديولوجية والسلطوية بشكل كبير قبل الفكرية والثقافية والاجتماعية ، فان لهم مواريثهم وتواريخهم المثقلة بشتى صنوف السيرورات والحالات والبنى والاشياء والشخوص والمعاني والكلمات والبدائل والطقوس ، ناهيكم عن الوقائع والاحداث والقصص والمخفيات المسكوت عنها حتى يومنا هذا ، فضلا عن الذكريات التاريخية الوطنية والمساجلات المجتمعية المحلية .. الخ كلها بحاجة الى عدد كبير من المبدعين الروائيين الذين لهم القدرة كي يحيلونها الى تعابير متنوعة ، وان يحيونها في نصوص فنية قوية جدا تشارك بشكل نفاذ في بناء الذات والمستقبل .
2. بقدر ما تمتع العرب في مطالع القرن العشرين والعقود الاولى منه ، بمساحة نسبية من الحريات الفكرية ، ساعدتهم وهم في طور الاحياء والنهوض والبحث عن الذات والاستقلالات .. لانتاج نصوص ( أو : بعض نصوص ) في الرواية التاريخية ، فان مجموعة المتغيرات السياسية والايديولوجية التي شهدتها الساحة العربية على امتداد القرن العشرين ، وفي اغلب اجزاء مجتمعاتنا وقسماتها ، قد خلقت مسارب سياسية اكثر منها مشاريع ابداعية ؛ كما خلقت توجهات اعلامية اكثر منها مرتكزات تربوية ! من أجل نشر منتج روائي مصطبغ بالايديولوجيا ليس لكل ما كان حيويا في حياتنا وسيرورتنا العربية ، بل لكل ما يعبر عنه راديكاليا أو اعلاميا على مستوى الابداع .. هكذا ، وجدنا كيف كان يتربى الجيل العربي السابق على حب القراءات والاستفادة من فنون المرويات مقارنة بما يتلقاه الجيل الجديد في ايامنا هذه من وسائل الاعلام الحديثة ‍‍.
3. بقدر ما كان العرب في فنهم الروائي يسعون لاستدعاء الابداع ، بدوا أنهم اقل انغماسا في خلقه ، ذلك انهم وجدوا في المنتجات الروائية المعربة عن الغرب : مركزية لذلك الاستدعاء ، وكأن مرجعيتهم قد انحسرت في واقعهم بعيدا عن تواريخهم ، ولم يمنح الا البعض منهم تلــــك ” المضامين التاريخية ” النزر اليسير ، اذ كانت حاجة الاجيال الثلاثة الماضية : جيل ما بين الحربين العظميين ، وجيل ما بعد الحرب العالمية الثانية ، وجيل ما بعد هزيمة 1967 الى قراءات ابداعية روائية عربية في مضامين من السيرورة التاريخية ، تلك المضامين التي عّدها البعض من الكتاب المؤدلجين العرب ” لعنة تقود نحو الارتداد المتواصل ” ، باعتبار من يعمل عليها يدخل في عداد الرجعيين والمتخلفين ، وان قيمة المبدع عندهم لا تحددها الا المرجعيات التاريخية في المضامين الغربية ‍‍‍.

وماذا ايضا ؟
صحيح ان المنتج من الرواية التاريخية عند العرب المحدثين في القرن العشرين كان نزرا قليلا ، لا يستقيم وحالة الثقافة العربية المعاصرة وحياتها ازاء قيمة التاريخ ومكانة العرب فيه على امتداد العصور ، ( وبغض النظر عن ذكر الاسماء من الروائيين العرب في القرن العشرين )فان مرحلتها الاولى ، قامت بتصور امكان قيام ” مشاركة توصيفية نقلية عادية أو فنية الى حد ما ” ، ولكنها لم تؤسس أي نظام أدبي عربي يتيح للمتلقي العربي ( بعيدا عن المتلقي الاجنبي ) على امتداد المكان ، وتداول الايام ، ان يبني سيرورته المستحدثة ( لا : الحديثة ) على فهم مبتكر ورائع لتواريخنا التي تزدهر مضامينها ليس بالحكايا والقصص والمأثورات المتداولة ، بل بالاحداث والوقائع والشخوص والتراكيب والعلاقات والحالات والتراجيديات والسايكلوجيات .. وفي مجموعة هائلة لا حصر لها من البنى والحركات والاعمال والبدائل والفعاليات .
على الرغم من تجارب في انتاج الرواية التاريخية عند العرب في نهايات القرن التاسع عشر ، وقبل اعمال جرجي زيدان ، الا ان في تجربة هذا الاخير الابداعية برغم توصيفاتها التقليدية والعادية ، وبعض مقارباتها الضعيفة ، فقد كانت ريادية في هذا الجانب ، وانها تفوقت في المسرد والمضمون ، وفي الشكل الفني ، والمعنى التاريخي ، والعدد الوفير على غيرها من التجارب في الرواية التاريخية سواء تلك التي كتبها طه حسين ومحمد حسين هيكل وصولا الى نجيب محفوظ ، وانتهاء بالاسماء الجديدة التي ظهرت في الثلاثين سنة الاخيرة وفي اكثر من مكان عربي ، وخصوصا في مصر وسوريا والعراق والاردن والجزائر والمغرب وغيرها ، واخص بالذكر : جمال الغيطاني من مصر وسالم بنحميش من المغرب ، وفؤاد التكرلي من العراق ، وابراهيم الكوني من ليبيا ، وزياد قاسم من الاردن ، ونبيل سليمان من سوريا ، والدكتور امين المعلوف من لبنان ، ومحمد محمود الزبيري من اليمن .. ولكن ؟ وعلى الرغم من كل ذلك ، فان تجربة جرجي زيدان في الرواية التاريخية لم تتطور لاحقا على أيدي غيره من الادباء العرب ، الا في النادر من الاعمال التي لم تستقم :
1) وحاجة العرب في ثقافتهم الى هكذا فن حيوي وضروري وارتكازي في التوغل لمعرفة السيرورة التاريخية ، على الرغم من توظيف بعض الروائيين العرب المعاصرين بعض التقنيات التراثية من دون المضامين التاريخية ، ومنهم : مارون عبود من لبنان في خواطره ، ويحيى حقى من مصر في فولكلورياته ، واميل حبيبي من فلسطين ، في استخداماته التراثية ، وهاني الراهب من سوريا ، في تقاطعاته مع الف ليلة ، ومحمود المسعدي من تونس ، في شبه مقاماته ، والطاهر وطار من الجزائر في توصيف بيئته ، وعبد الرحمن منيف من السعودية في اجيال مدن الملح وأرض السواد ، وعبدالله العروي من المغرب الاقصى في الحس التاريخي للمجتمع ، وغائب طعمه فرمان من العراق في روي الحركة الوطنية .. ناهيكم عما استخدمه ادوارد الخراط وشكري عياد من مصر ، وفؤاد التكرلي وعبد الرحمن مجيد الربيعي من العراق ، ومؤنس الرزاز وموسى الازرعي من الاردن وغيرهم من الذين كانت لهم رؤاهم عن تاريخ مستلهم لا مقروء !
2) التفسير الساذج للتاريخ كونه وقفية قديمة لا يمكن للمبدعين من الادباءالعرب استخدامها ! ان المسألة نسبية وغاية في الشفافية ، فكم انتج البعض من الروائيين صورا تاريخية مشوهة ، وفي الوقت نفسه ، كم من المؤرخين العرب المعاصرين لا يعرفون من التاريخ الا مسرده المقفل بمعزل عن مضمونه الحافل .
3) الرؤية المختلفة عند بعض الادباء الروائيين العرب المعاصرين في كتابة الرواية التاريخية ، اذ يرى هؤلاء ان ليس هناك ما يقيدهم من اصول ومناهج وتقنيات محددة في كتابتهم للرواية التاريخية باعتبارها رواية فنية او رواية خيالية او رواية اجتماعية .. تنطلق من دون مسبق ذاكرة او محددات في التاريخ . أي باختصار : انها رواية من عندياتهم لا من تواريخهم !
على هكذا اسس تسويغية بليدة ، نظر البعض من الادباء العرب من جانب ومن المؤرخين العرب من جانب آخر ( وما زال البعض من اولئك وهؤلاء ) ينظر الى فن الرواية التاريخية :
1. نظرة ضيقة ( عند كتبة التاريخ ) يقصرونها على الاستسلام للماضي من الزمن: استسلاما سلبيا خانعا ، بمعزل عن فهم الزمن وادراك صفحاته ، وفهم السيرورة والحاجة لتوظيفها من اجل بناء مستقبل جديد .
2. نظرة وهمية ( عند كتبة الرواية ) يكتبون ما يشاؤون من عندياتهم ، ويتوهمون انفسهم بل ويوهمون غيرهم انهم يكتبون روايات تاريخية ، ولا علاقة للتاريخ بما يكتبونه وينشرونه !

وأخيرا : ماذا اقول ؟
ان العرب اليوم بحاجة ماسة جدا الى الوعي باهمية مدركاتهم المتبادلة عن ماضيهم وتشكيلاته الزاخرة .. مصورات رائعة للسيرورة العربية التي من خلالها يفهم العربي ومن يشاركه لغته وثقافته .. وجوده ومعانيه ازاء الاخر والوجود والزمن . وبالامكان ، اعتبار النص الروائي التاريخي المولد اداة تضم التطور التاريخي للسيرورة الحضارية برمتها ، والممارسات الدالة المتعددة التي يمكن ان يحملها . ان امكانات لغة الماضي والحاضر والمستقبل جميعها معطاة هنا في الرواية التاريخية قبل ان تتقنع ، او تقمع في النص الظاهري Pheno-text ـ على حد قول جومسكي ـ .
هذا ما احببت ان اسجله حول الرواية التاريخية واشكالياتها العربية .. وساعالج لاحقا مشكلة السيمافور التاريخي المرئي العربي في مقال آخر ..

www.sayyaraljamil.com

مجلة الروائي ، 16 يونيو / حزيران 2008

شاهد أيضاً

الأرمن العراقيون.. الخصوصيّة والجاذبيّة والأسرار الحيويّة ! -2-

الحلقة الثانية :حذاقة الصنّاع وعظمة المشاهير الشخصيات العامة الأرمنية ينقل لنا الأستاذ آرا اشجيان عن …