مقدمة
ارجو ان لا تذهب تصوّرات البعض انني اهاجم كل الماضي وكل التاريخ وكل الاصول وكل الينابيع .. ولكنني اقف كي اتساءل واجيب عن مجتمعات تغمرها جنايات الماضي ومشكلاته وازماته وانقساماته وتشظياته وكل منتجاته التي كانت ولم تزل تسحب الانسان من عقله وضميره ومشاعره نحوها من دون ان تجعله حر التفكير ومستقل الارادة في ان يجد موقعه اين يكون من المستقبل .. انني بهذا ” المقال ” لا ادين الماضي بقدر ما ادين احياء اليوم الذين لا عمل او تفكير لديهم الا التسبيح بالماضي وتغييب المستقبل .. انني لا اجد في كل الماضي عظاما منخورة ، بل هناك روعة الاديان ، وعظمة التراث ، وقوة الفلسفات ، وتجارب الحكم ، وسلاسل الحضارات .. دعوني افصح قليلا عن مجال الرؤية ، فالحياة لا تحددها الاشكال والعادات والتقاليد ، بل تسيّرها المنتجات والابداعات والمضامين ، والمستقبل لا يصنع لوحده ، بل يصنعه من يريد ان يكون له خلق وابداع في الحياة . علينا اولا ان نعترف بأن الحياة اليوم بكل تشيؤاتها وضرورتها وليس اشكالها ومبهرجاتها ، بل كلّ حاجات الانسان منها قد اختلفت عن كّل ما كان عليه الماضي بكل موروثاته وتقاليده وجذوره وبقاياه ..
الاسئلة المباغتة
ما اصعب الانتقال من حياة الركن الهادئ نحو الزمن الموحش ! ما اصعب تلك ” الرحلة ” التي لم يدرك معانيها كل الناس ؟ متى يتيقظ الناس ويدركون اين هم مبحرون ؟ اننا في اخطر الاوقات حرجا وفي اخطر الاماكن موطنا .. بات الناس يحلمون بمجرد حياة عادية ، والارض تندفع نحو حلم بعيد ربما نكون فيه او لا نكون .. اذا كنّا نناشد مجتمعاتنا بوعي المثقف ، بتنا نتمنى ان نلقى مثقف الوعي .. الدنيا تنتقل من الصعب الى الاصعب .. والحياة ترحل من الهدوء نحو الصخب .. ماتت القبيلة ولكنها تركت ثقافتها فينا .. ماتت الخرافة ، ولكنها استحوذت على عقولنا .. العالم يتناغم من اجل حفل اوركسترالي يدق دقاته الجميلة ، ونحن ما زلنا نلوك حديث الطوائف والعشائر والقبائل واوجاع الماضي ونجتر اشعار البادية والعنتريات ، بل ونستعرض العضلات والشعارات وحروب الانقسامات والجهويات .. العالم يخطط لحياة قادمة له وكيف يدافع عن مصالحه وثرواته وحقوقه ويسعى من اجل ان ينافس الاخرين ، ونحن لم نزل من ابعد الشعوب عن العمل وأداء الواجب والسعي في الارض وحدود الزمن واحترام الكفوئين والمبدعين فينا .. نحن لا نعرف الا الاتكالية وترك الامور في سيرورتها بيد المقادير .. دول مهمة قريبة منّا او بعيدة عنّا تخطط لمستقبل يتجاوز الثلاثين او الخمسين سنة بتجارب وخطط واستراتيجيات واسعة المدى .. ودولنا تعمّها الفوضى والتداخل والتراخي ويغمرها التسلط .. ولا تؤمن فيها ابسط الخدمات والمستلزمات .. مجتمعات العالم لها حيويتها وانشطتها التي لا تنضب ومجتمعاتنا ترسم صورة الوهن على هيئاتها المشتّتة ..الشعوب كلها تعمل وتنتج ليكون باستطاعتها ان تأكل وما يفيض تصدره وشعوبنا تعودت ان تكون مستهلكة مبذرة من الطراز الاول. الشعوب تربط اقوالها بافعالها ، وشعوبنا لا تعرف ” المواطنة ” الا بالشعارات والتظاهرات ولم تترجمه الى منتجات وابداعات ونكران ذات .
التفكير في الماضي لا المستقبل
اولا : المنتظرون
لماذا يعيش العقل لدى ابناء مجتمعاتنا في الماضي ، ولا يفكر ابدا في المستقبل ؟ لماذا ان فكّر في المستقبل لا ينحصر الا في ” الدار الآخرة ” ، وكأنه لا يعيش في ماض دنيوي ؟ لماذا تّم تغييب الحكمة الرائعة التي تقول : ” اعمل لدنياك كأنك تعيش ابدا ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا ” ؟ وهنا ، انظر الفصل التام بين الهدفين والتناغم الرائع في العمل والعبادة .. في السلوك والمعاملات . لماذا استطاعت مجتمعاتنا ان تبقى ذاكرتها مشحونة بالتراجيديات القاسية المبكية وتجعلها اليوم سمفونيات ايديولوجية تتراقص من حولها سياسيا ، بل وتريد ان لا تسمع او ترى شيئا من دونها مغيّبة مبادئ الوطنية والهوية والمصالح المرسلة وصولا الى المعاصرة .. بل والانكى من ذلك انها تريد ان تجد ضالتها في المستقبل كي تنتظر ذلك المنقذ او المصلح او المخّلص او المنتظر منذ الماضي مرورا بهذا الان وحتى الآتي من آلاف السنين ؟ اليس هذا جنونا دنيويا ومن قبله معصية دينية ؟
ثانيا : الامية الخلاّقة
المشكلة ليست في انظمة سياسية او في حكام وقادة دول لم ينزلوا علينا من فضاء بعيد او من كوكب آخر .. بل انهم من دواخل هذه المجتمعات ، او بالاحرى انهم ولدوا ايضا في انظمة سياسية وهم يحملون جملة تقاليد ثقافية واجتماعية لم يخرجوا عن اطواقها ، ويثوروا على طقوسها .. بل ساهموا من فوق عروشهم وكراسيهم بتكريس تلك ” الطقوس ” الفكرية ومشت من خلفهم الجماعات والنخب من كّتاب صحف ، ومثقفي سلطة ، ومروجي شعارات ، ومصفقين ، ومهللين ، وطلبة وجماهير بتسويق تلك «الامية الخلاقة» ـ كما أسماها المفكر الفرنسي المعاصر بريجس دوبريه ، محللا الحالة عند هؤلاء الذين لا تستوي معهم الا السخرية بوصفهم مجرد «ثرثرة الخواء التي تثقب الروح» !
ثالثا : زمن الهذيان
ان حياتنا في مجتمعاتنا اصبحت مكبّلة ليس بالاغلال التي عرفها الاحرار والمناضلون في القرن العشرين ، بل غدت مستباحة من قبل الفارغين والجهلة والاميين والمتعصبين الذين وضعوا رؤوسهم في طبول وهم يمشون دون استقامة الطريق ويضربون طبولهم بأيديهم ، فلا يسمعون شيئا ولا يجعلونك تنأى بما تريد ! انهم لا يؤمنون بالحوار ، لأنهم لا يعرفونه ابدا ، بل ولا يريدونه كونه يكشف عوراتهم وفجاجة تفكيرهم .. انهم ليسوا بمجرد لاهوتيين يكتفون بالهذيان ، بل ويريدونك ان تشاركهم ذاك الهذيان . انهم يريدون قتل كلّ من يدعو الى تفكير جديد او تغيير جديد .. انني اعتقد أن حكامنا أنفسهم قد غدوا اسرى عندهم ، فكيف بالمثقفين والمبدعين الذين ليس لهم من يحميهم ، وليس عندهم اية وسائل دفاع حقيقية ازاء هؤلاء ..
المجتمع : مستويات لا طبقات
ان الانسان هو العقل والتفكير والضمير .. انه كتلة من الاعصاب والمشاعر والاحاسيس .. ان ثمة طاقة تغييرية داخل الكائن البشري الذي يختلف عن ذاك الذي لا يستوي معه ، فالمجتمع مستويات وليس مجرد طبقات .. مستويات بين الذين يعلمون وبين الذين لا يعلمون .. مجتمعاتنا لم تزل تبحث عن الاقوى والمتسلط بين الطبقات او القبائل او الطوائف .. ولكنها لا تهتم للاكفأ والاحسن من بين كل المستويات. في عالم اليوم ، لا تتفاعل الحياة الحديثة الا مع ذوي المستويات العالية .. واصحاب تلك ” المستويات ” لا يمكننا ان نحشرهم مجرد ممثلين كوميديين يسخرون من الحياة ، بقدر ما يتفاعلون معها .. ينبغي عليهم معالجتها من داخلها لا محاربتها ومحاولة اطفاء جذوتها من الخارج . في مجتمعاتنا ، مرت اجيال وراء اجيال وكانت لديهم مستويات فذة من المبدعين والعاملين والمثقفين الحقيقيين في محطات فارقة من القرن العشرين.. وحتى مرور بعض الحكام الواقعيين الممتازين الى جانب بعض المناضلين والاحرار السياسيين .. كان ينبغي ان يتم تحويل الهوس الثوري ببساطة الى برنامج عمل ، وكان تغيير الطقوس الاجتماعية ينبغي ان يتم بتأسيس مناهج عليا في الاخلاق الفاضلة والتعامل مع الحياة والعالم سواء من خلال ثورة ثقافية او تحديثات شاملة .. ليس شرطا ان تختزل الحياة في حزب ثوري ، او ايديولوجية قومية ، او نهج عقائدي واحد ، او تيار ديني او يمين او يسار نسبة الى موديلات كل مرحلة.. فمجتمعاتنا متنوعة المشارب ، ومتعددة الانتماءات ، عجيبة الاهواء … لم يكن يصلح ابدا في مجتمعاتنا ابان مراحل القرن العشرين ما كان يريده ارنستو تشي غيفارا ، او ما كان يحلم به ميشيل عفلق ، او ما كان يدعو اليه الامام حسن البنا .. هؤلاء الرموز الثلاثة التي يقف كل واحد منها ليس على حزب معين او تيار جارف ، بل على ايديولوجية معينة لها اتجاهاتها التي لم نقبض منها الا على الريح . اننا ان تأملنا فقط ما جرى لكل من مجتمعاتنا من طرف ازاء ما حدث في الصين ـ مثلا ـ لوجدنا ان الصين قد انطلقت بعد ان تحررت من عظام الماضي ووجدت ان لا حياة لها الا بأن تجد نفسها في هذا العالم من خلال المستقبل ، فارتقت بثورتها الثقافية الى برنامج اشبه ما يكون بخلايا نحل ، فأين مجتمعاتنا العربية والايرانية والتركية من ذلك كله ؟ واذا كان البعض يرجع عوامل تأخرنا وضياعنا الى اسرائيل ، فأين هي بقية مجتمعات العالم الاسلامي الذي يزداد انسحاقها يوما بعد آخر ؟
دعوة من اجل قطيعة معرفية عن القرن العشرين
ان اقسى المعاناة واقصى انواع الشقاء هو الذي يتجسّد حقيقة عند من يفكّر تاريخيا وبقطيعة شبه كاملة بينه وبين القرن العشرين ، ويرى ان مائة سنة من نضوح الدماء الزكية ، وبعثرة الزمن المتاح ، وهروب الطاقات الجديدة ، وتشتت الوسائل الممكنة ، وتبدد الثروات الطائلة .. قد ذهبت كلها هباء منثورا على امتاد القرن العشرين ، لأن مجتمعاتنا القديمة لم تستقم ( ودولنا) الجديدة ؟ مئة سنة مرت ولم نعرف كيف نتعلم من مستويات بعضنا البعض الاخر .. مئة سنة مرّت ولم نعرف حجمنا وقدراتنا ازاء الاخرين ، ” ورحم الله امرؤا عرف قدر نفسه ” .. مائة سنة مرت ومجتمعاتنا وثقافاتنا تتقاذفها رياح الحرب الباردة بين المعسكرين في العالم .. مائة سنة مرت وهي تعج بالانقلابات العسكرية ، والاضطرابات السياسية ، والانقسامات المحلية ، والمؤامرات الماكرة ، وحرب الاذاعات الداعرة .. مائة سنة مرت ولم نعرف كيف نعالج قضية فلسطين التي غدت قضية الشرق الاوسط ! مئة سنة مرت ولم نحاول ولو لمرة واحدة ان نغّير مناهج تربوياتنا ، ولا قوانين مؤسساتنا القضائية بما فيها الاحوال الشخصية ، ولا تطوير احوال خدمات مجتمعاتنا والاخذ بيد المرأة والطفل واعلان حقوقهما .. مئة سنة مرت ولم نسمع الا الاقوال والخطابات والشعارات والمصطلحات المستوردة .. بل ونقرأ مقالات واسهابات وتنظيرات فارغة وهي مستنسخة عن افكار وايديولوجيات لا يمكن تطبيقها على اوضاعنا أبدا .. مائة سنة مرت وقد دفع بعض احزابنا وتياراتنا السياسية العديد من ابنائها قرابين وضحايا وذهبت دماءهم هدرا ، ناهيكم عمّن عّذب في السجون والمعتقلات ، او من شرّد وهجّر الى ما وراء الحدود ! مائة سنة مرّت بكل انقلاباتها وثوراتها وحركاتها ومتغيراتها والحياة لا تنتقل نحو الاحسن حتى ولو بنسبة بسيطة .. بل غدت تنتقل اليوم نحو التوحش والتشظيات الطائفية والانقسامات العرقية .. فما رفعه السابقون من شعارات : “الحرية” و” الاستقلال” و ” الوحدة” و ” الاشتراكية ” و ” السيادة” و ” التقدم ” و” الاصلاح ” و ” الثورة ” و ” التحرّر ” .. الخ كان قد صدّق بها الناس ، بل ,آمنوا بها ايمانا قويا ، ولكن لم تكن لها في الحقيقة اية مضامين اساسية عند من حملها ودعا اليها ، وتاجر بها من اجل السلطة ، او من اجل الجاه ، او من اجل القوة والمال والنفوذ والمصالح الذاتية .. الخ ان كلها مستعارة من ثقافات سياسية اخرى يسارية او غير يسارية ، ولكنها سوّقت في ثقافتنا بنجاح منقطع النظير ، وما ان انتهت الثقافات الاخرى منها حتى عافتها ثقافتنا هي الاخرى ، وكأن شيئا لم يكن ، واذا ما خاطبت احدهم بذلك اجابك بتبرير ساذج : اننا نتقدم أيضا مع تحولات العالم !
تفاهة المفاهيم وسرقة الشعارات
انني أسأل سؤالا واحدا : لماذا لم نعد نسمع بتلك المصطلحات اليوم ؟ اين ولّت وذهبت ؟ لماذا لم نسمع حتى بمصطلح ( الاستعمار ) و( الامبريالية )الذي وقفت ضده الالاف المؤلفة من ابنائنا ؟ لماذا مررنا بمرحلة العتمة الفكرية ، والتشوش الذهني ، والاضطراب النفسي كي ندخل مرحلة التوحش الحقيقي ، فالعالم كله لم يقف اليوم مع أحد .. العالم اليوم مجموعة متكتلات اقتصادية تبحث عن مصالحها ضمن ارادة استقطاب عالمي تقف على رأسه الولايات المتحدة الامريكية .. لقد اصبحنا اسرى هذا الزمن الصعب الذي سينقلنا الى الزمن المتوحش الذي تفتقد فيه كل المعايير وكل القيم .. فالى متى تعيش مجتمعاتنا لما تبّقى لديها من ادوات ! ان مجرد كوننا مجتمعات مستهلكة غير منتجة لما يكفيها من الغذاء والطاقة ستكون عالة متطفلة على الاخرين .. ليس كل مجتمعاتنا غنية تبيع البترول وتتاجر بالذهب .. ان الازمات والمشكلات التي يعاني منها الانسان في مجتمعاتنا سيتفاقم امرها يوما بعد آخر في ظل الابقاء على ما كّنا قد ذكرناه قبل قليل .. وفي ظل غياب مفاهيم وقيم كانت راسخة الى حد كبير مثل : الرحمة والايثار والجيرة والتسامح والمساعدة والشراكة والالفة .. تحوّلت الى فراغات ومساحات قاحلة ، بل الى احقاد وكراهية بين مجتمعاتنا كلها بعد ان غدت دولنا منعدمة الثقة في ما بينها وهي تنتمي الى منظومة عتيقة مترهلة اسمها ( جامعة الدول العربية ) لم تقو على اصلاح نفسها .. ولقد ساهم الاعلام المرئي والالكتروني في مجتمعاتنا العربية خصوصا ولم يزل بخلق تناقضات جديدة ، وامتصاص المضادات ، وتأسيس للتنكر ، ونشر الفضائح ، وترويج الكراهية بين هذا وذاك .
نحن والمنظومات الاخرى
عندما اقارن منظومتنا في الشرق الاوسط بغيرها في جنوب شرق آسيا او الصين او آسيا الجنوبية ( = الهند مثلا ) او امريكا اللاتينية ، او حتى مع المنظومة الاشتراكية الراحلة التي تفككت الى دول ومنظومات جديدة ، اجد العالم كله يسعى الى التكتل ضمن منظومات اقتصادية من نوع آخر كالاتحاد الاوربي والآسيان والنافتا .. الخ في حين تسعى مجتمعاتنا الى التفكك والانقسام .. انها لم تزل تعاني من شقاء العنصرية والشوفينية القومية وتهوى الانفصالات بديلا عن التكتلات .. انها تأتي اليوم بعد مرور قرنين من الزمن على هذه الافكار البدائية لتجسدها ، كونها عاشت مفتقدة اياها ! ولكنها تسعى ليس الى حتفها ، بل الى الانسحاق ومن معها ايضا . المشكلة الحقيقية اليوم ان تكون ايدينا مع الاخر لا مع بعضنا الاخر ! وعندما اقارن سوسيولوجيا بين ما لدى مجتمعاتنا وشعوبنا من كم هائل من سحر العلاقة والود والتراحم والعواطف من طرف والمصالح المشتركة من طرف آخر .. بل ومن مصطلحات ومفاهيم سحرية لا تقارن ابدا بما لدى شعوب ومجتمعات اخرى اذ تجد مواريثها وحالاتها خاوية من سحر العلاقة ودفئ المودة وقوة المصالح وشراكة المصير.. ومع كل هذا وذاك فنحن نمضي نحو الزمن المتوحش وبارادتنا كوننا تركنا مرحلة الشعارات ودخلنا مرحلة الهذيان والعالم يمضي في طريق اخر ! فهل من هزة سوسيولوجية هائلة او صدمة فكرية كبرى تنقذنا من هذا الاستسلام وتخرجنا من الهذيان .. بل وتجعل مجتمعاتنا تدرك اي نوع مدمّر تمارسه من الغيبوبة ؟
احياء اليوم تحت عظام الماضي
ان التاريخ لا يمشي معنا .. انه مسيطر علينا فهو فوقنا دوما وليس من السهولة جعله يتساوق معنا اليوم ليمشي وأيانا ، كما احب القول ، ان مجتمعات اخرى جعلت التاريخ من تحتها فهي التي تسيطر عليه لا هو المسيطر عليها .. هي التي تستفد منه لا هو الذي يجعلها منقادة له .. ان متغيرات هذا العصر لا نجدها في كتب التاريخ. وعليه ، فلابد من ادراك متبادل بين مجتمعاتنا ومتغيرات العصر ، فالتاريخ سوف لا يطعمنا او يسقينا وهو لا ينقذنا ولا يحيينا .. قد يحفزنا ويعلمنا .. يرشدنا ويهدينا ، ولكن ان يصبح دكتاتورا علينا ، فهذا سيضرنا كثيرا.. اننا لا نريد تهميش دراسته والغاء تدريسه في مدارسنا وجامعاتنا ، ولكننا نطالب بمعرفته حقا والاستفادة منه لا للاندماج معه. ان احياء اليوم لا تنقذها عظام الماضي ، ولكن أجد ان هناك من يؤمن بذلك ايمانا جارفا من دون اي شعور بالذنب ،ولا اعتقد ان احدا سينتقدني اذا علم ان هناك من لم يزل يؤمن بالتعويذات والاضرحة والبكائيات ورقص المشعوذين وقص الروايات واستعراض النقائض والتناقضات .. الخ هناك من يختزل تاريخنا بهذا من دون ان يعلم ان حياتنا بحاجة الى فقه جديد ومصالح مرسلة جديدة .. بل والى تغيير جوهري كبير .. والفرق كبير بين انقسامات فرق الملل والنحل في مجتمعاتنا وبين تجليات فلسفتنا وترجماتنا وعلومنا وآدابنا في تاريخنا !
ما العمل ؟ ما الضوء الى دروب المستقبل ؟
اولا : التغيير ليس مجرد فنتازيا امريكية !
لن تنفعنا بعد موت الايديولوجيات الحديثة اي عودة الى الايديولوجيات القديمة ، فالعالم يسير في طريق ونحن نسير في طريق اخرى .. نشعر بالخجل الشديد لأننا ضعفاء ازاء اقوياء ، والاقوياء تسيطر على الضعفاء وتستعبدها .. لا يكفي ان ندرك اين هو ايقاع العصر وليس لنا الا ان نردد معه او نرقص على وقعه كما حدث في القرن العشرين .. المهم ان نشارك العالم العزف حتى وان كان على طريقتنا واسلوبنا .. ليس مطلوبا منّا ان نتواطئ مع الافكار المضادة لنا ، ولكن مطلوبا منّا ان نتعّرف عليها لنجادلها ونحاور اصحابها من موقع القوة .. ليس مطلوبا منّا ان نبقى كما نحن عليه اليوم ، ففي ذلك ليس تهميشا لنا بل عزلنا وانهائنا . ان علينا التغيير لمزاولة تفكيرنا على حلبة الحياة القادمة، والتغيير صعب ولكن من السهولة ان يبدأ من حيث يقبل اي واحد منّا بالاخر .. التغيير هو العدو اللدود للمحافظين على القديم والابقاء على قدمه ، ولكنه ايضا ليس هو مجرد مبادرة عادية لفنتازيا امريكية يصفق لها المهرجون الجدد !
ثانيا : دعوا الدين من اكبر التجليات
والدين النصيحة والدين اجتهاد والدين من اكبر التجليات ينبغي ان يبقى محترما وعاليا من دون ان يغدو مبتذلا في الحياة او مختزلا في ” جبة وعمامة ” .. ينبغي ان تخرج الناس من اللحظات المجنونة التي تعيشها ، وان تمتلك احاسيسها الحيوية وصولا الى الرؤية العارية للاشياء بلا اي زيف وبلا اي مكر وبلا اي كراهية وبلا اي اقصاء وبلا اي تكفير .. ان ما يمارسه البعض من طقوس المجانين سيأخذنا الى مستقبل تراجيدي لا يمكن اصلاحه ابدا !
ثالثا : تنمية تفكير جديد
على الانسان ان يفّكر من جديد ، فالتفكير فريضة دينية وفلسفة علمية .. الانسان لا يفكر الا اذا عرف كيف يفكّر في حلبة من الاسئلة ومحاولة البحث لها عن اجوبة وان يكون شجاعا لا متخاذلا في الاعلان عن رأيه والدفاع عنه .. لنعلم اولادنا من الجيل الجديد كيف يفكرون وننقلهم الى منطقة حرة لا ان نحبسهم في صفوف مغلقة تقضي عليهم وعلى هواجسهم وعقولهم معلمة جاهلة او متعّصب مخبول .. عليهم ان يدركوا قيمة الحياة وقيمة الانتاج فيها واين نحن من هذا العالم ..
وأخيرا : متى الخروج من الزوايا المظلمة ؟
ان الحياة لا يتقدم بها الى الامام الا اصحاب العقول ، فاذا كان هؤلاء جرحى النفوس او صاروا اسرى الدواخل ، او غدوا في شتات المهجر ، فلابد من استقامة العقل في مجتمعاتنا ، فالحياة بلا عقل لا يمكنها ان تتقدم ابدا .. وعلى الجميع ان يطالبوا بالحرية لا الفوضى ، وبالقانون لا الاضطهاد ، وبسقف عال من ادوات التغيير ، والمطلوب ايضا في خضم ثورة المعلومات والانترنيت انتفاضة المثقفين العضويين لا المتوهمين ، وصرخة الادباء الحقيقيين لا السلطويين ، وان يلعب الجيل الجديد دوره في التغيير والبحث عن مكان له في المستقبل بعد اخراجه من الزوايا المظلمة التي يختبئ فيها ويدافع عنها ..
علينا ان لا نكون سدنة للتشظيات والاحقاد والطائفية والانقسامات ، بل نوافذ حرة ومرنة مشرعة ازاء المستقبل ، وان لا يسمع ابدا لكّل المعتوهين والتواكليين والمضاربين والمشعوذين والمتعصبين والجهلة والاميين والمنغلقين .. الخ ، وان يقف الجميع ضد كل من تزدوج عنده غواية الاشياء وتتراكم فيه كل التناقضات ، فهو يستخدم آخر ما وصل اليه العصر ، لكنه يقبع قي دائرة مغلقة يخاصم منها كل الفكر الحديث . ان مجتمعاتنا لم تزل تنتظر الفرص التاريخية لتنطلق الى رحاب العالم .. انها تنتظر من يعتني بها ويقّدم لها ما تحتاجه من ضرورات الحياة وكرامة الانسان وحقوق الانسان .. لتقوم بواجبها على احسن ما يكون .. فهل نشهد اية انطلاقة مع تبلور جيل جديد يتحمل المسؤولية في البحث عن مستقبل جديد بعيدا عن عظام الماضي ؟
ايلاف ، 16 يونيو / حزيران 2008
www.sayyaraljamil.com
ملاحظة : في حالة اعادة النشر ، يرجي ذكر المصدر ايلاف .. مع التقدير.
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …