موصل
كنت قد أثرت موضوع أهمية دجلة والفرات العراقيين وتأثيرهما جغرافيا في تكوين الثقافات العراقية في محاضرتي التي ألقيتها في العام المنصرم ، هنا في كندا ، وكانت بعنوان ” الجغرافية الثقافية للعراق الحديث ” ، وبالرغم من حياديتي تجاه النهرين الأزليين العظيمين وأهميتهما عبر امتداد التاريخ ، فلقد عاتبني الصديق الدكتور علاء التميمي )أمين عاصمة بغداد سابقا( ، أنني كنت منحازا لدجلة دون الفرات ! وقال مازحا بأنه يعتز بفراتيته ، وان الفرات أهم من دجلة ، فأجبته : وهل لنا نحن العراقيين أن نعيش من دون الفرات وروعة أهل الفرات ! نعم ، أوضحت له دور كل منهما ، مع تباين تأثير كل منهما على العراقيين من الناحية الاجتماعية والاقتصادية معبرين عن ذلك ثقافيا .
أما بالنسبة لأهمية كل من دجلة والفرات ، فكل منهما له شخصيته التاريخية والحضارية ، وعلينا أن لا ننظر إلى كون العراقيين دجلويين أو فراتيين ، وحتى إن كانوا كذلك ، فذلك ارحم لهم من أية تقسيمات أو انقسامات أخرى ، فالتمايز الجغرافي ، يمنحنا نكهات ثقافية وتنوعات اجتماعية ، وتنافسات حضارية غاية في الروعة ، ويسبغ على الناس سمات اجتماعية معينة .. وكثيرا ما فكّرت لماذا يتسّمى الناس بالفرات ولا نجد ذلك من تسميات دجلوية لدى أبناء دجلة ؟ فنسمع بالفراتي والفراتيين وأهل الفرات الأعلى والأوسط والأدنى .. ولا نجد من يسمّي نفسه بالدجلوي أو أهل دجلة ( باستثناء أهل الدجيل ) ؟ ربما كان دجلة أكثر تنوعا من الفرات ! ربما كان نهر دجلة أقوى من المجتمع ! ربما كان تنوع الناس عند دجلة ونطاقه الواسع ، أكثر بكثير من تنوع ناس الفرات في نطاقه المحدود ! فكانت للفراتيين تسمياتهم المستلهمة منه ، في حين ارتبط كلّ الدجلويين بمناطقهم البرية أكثر من ارتباطهم بنهرهم الخالد .. إن الفراتيين يعتمدون اعتمادا أساسيا على حوض النهر ، في حين يعتمد الدجلويون على مجال النهر ، وهو بالضرورة أوسع من الحوض بكثير ، فالأرض مخصبة والزراعة قائمة . ولكن كلّ من النهرين العظيمين يشتركان بنفس السمات في جنوبي العراق ، وخصوصا في حياة الاهوار المتشابهة جدا ، أي بين اهوار دجلة واهوار الفرات .
دجلة والفرات : بدء قصة الحضارة
إن مجتمعات جهوية لكل من الدجلويين والفراتيين هي مجتمعات عمودية وليست أفقية ، فهي تمتد عموديا مع امتداداتهما الجغرافية من الشمال حتى الجنوب ـ كما حللت ذلك في محاضرتي المذكورة في أعلاه ، ومن المنطقة الغربية نزولا إلى ملتقى النهرين .. إنهما نهران عظيمان كما اجمع كل من كتب في التاريخ والبلدان والجغرافية البشرية، ويعتبران إلى جانب نهر النيل ، من انهار العالم الخالدة التي يفتخر أصحابها بما قدمته هذه الأنهر الثلاثة إلى الحضارات البشرية قاطبة ، بل وان قصة الحضارة تنطلق من نهر الفرات ـ كما يقول وول ديورانت في قصة الحضارة ـ في حين يشّدد المؤرخ البريطاني آرنولد توينبي في نظريته التحدي والاستجابة التي يتضمنها كتابه ” دراسة في التاريخ ” على قيمة النهرين العظيمين دجلة والفرات في تكوين الآليات البشرية وانطلاق الحضارات القديمة ، وان من أصل 18 حضارة بشرية ، هناك خمسة حضارات عراقية عريقة تعد الأصل في التكوين البشري : السومريون والاكديون والبابليون والآشوريون ووصولا إلى العباسيين .. فكلها حضارت نهرية انطلقت نحو كل العالم .. أما أن تعمقّنا قليلا ، فنجد الجنائن المعلقة ما كانت لتكون لولا الفرات ، ولقد تحطمت بفعل فيضاناته .. وان عظمة إمبراطورية الآشوريين ما كانت لتحصل لولا مياه نهر دجلة وروافده ، إذ أن عواصمها العظيمة الثلاث ما كانت لتتطور تطورا مذهلا لولا دجلة ، وخصوصا نينوى ! وكثيرا ما تغّزل ألآثاري الشهير مالاوان رفقة زوجته الروائية الشهيرة أغاثا كريستي بالنهرين الخالدين .
السؤال الان : ما الذي يميز دجلة عن الفرات ؟
دعوني أقدم في أدناه عشر تمايزات أساسية ، نتج عنها ما يمكن أن نطلق عليه بوحدة بلاد وادي الرافدين ، دجلة والفرات وقيمتهما في التاريخ البشري .. متمنيا أن تتسّع الرؤية عند العراقيين أنفسهم ، ليكونوا مهتمين بدجلة والفرات أكثر من اهتمامهم بثنائيات وازدواجيات أخرى أصابت منهم مقتلا ومزقتهم أشلاء .. وأنا واثق من أن بعضا من العراقيين لا يعجبهم مثل هذا الكلام ، لئن ما يشغلهم ليس دجلة والفرات بقدر ما تشغلهم نوازع أخرى اعتبرها تافهة وضارة وقميئة ، بل هي تلغي وحدة العراق وقيمته الإنسانية والحضارية مهما بلغت قدسيتها لدى أصحابها :
أولا: إن دجلة عراقيا هو تايكرس إغريقيا وقد اهتم به بطليموس اهتماما كبيرا ووصف بذلك كونه من أسرع مياه العالم جريانا ( قبل اكتشاف المسيسبي والأمازون ) ، فوصف بالنمر لسرعته أما الفرات ، فهو اهدأ من جريان دجلة بكثير ، ولقد اتخذت تسميته منذ القدم عربية ( يوفريتس ، أي : الفرات ) كما هو في الأدبيات الإغريقية ، ومن ثم البيزنطية واللاتينية . وعليه ، فلقد عدّ الكلاسيكيون القدماء ، نهر الفرات ، عربيا خالصا بدءا بأعالي الجزيرة الفراتية ووصولا إلى أعماقه حيث الملتقى مع دجلة .
ثانيا: إن منابع دجلة اقرب إلى العراق من منابع الفرات البعيدة.. ومنها ما يتكون في أراض تركية كانت تابعة للعراق سابقا لما قبل جبال طوروس وأنتي طوروس . أن من أهم مصادر دجلة عدة انهار تتكون في المفاصل الجبلية لكردستان ومنابعها في تركيا وإيران حاليا . وعليه، فان جيولوجية دجلة كانت سببا في عذوبة مياه دجلة أكثر من عذوبة الفرات الذي يصل العراق بعد أن يكون قد مر بجغرافية طويلة جدا ومتنوعة بتضاريسها .
ثالثا : وعليه ، فان دجلة غني بروافده وأنهاره العراقية الصغيرة التي تصب فيه على امتداد شرق دجلة ، وهي من أهم الأنهار ذات المياه العذبة سواء كانت منابعها تركية أم كردية أم إيرانية. لذا تنوع سكان شرق دجلة كثيرا بتنوع بيئاتهم الجغرافية الجبلية والمتموجة والسهلية ، وكانت لهم ثقافاتهم الزراعية المختلفة عن أبناء الفرات الذين لهم شراكة واحدة مع الفرات وحده وبالذات مجراه فقط . إن ما هو على غرب الفرات مفازات وبوادي وصحاري .. وان ما هو على شرق دجلة جبال وتموجات وسهول .. ولقد اخذ أبناء ما بين النهرين سمات أولئك وهؤلاء معا ، فشكلوا بذلك ثقافة العراقيين الموحدة .
الفرات
خامسا: إن التوطن على دجلة وروافده ، أي على كل امتدادات شرق دجلة اكبر بكثير من التوطن على نهر الفرات منذ العصور الوسطى ، أي أن توطن العراقيين على مجرى الفرات لوحده ، والفرات كان هو الحد الفاصل بين العرب والفرس في الصراع على العراق منذ عهد داريوس الأول ضد الاسكندر المكدوني ، وانتصار الأخير على الساسانيين في معركة اربيلا الشهيرة ( قرب مدينة اربيل ) ، وان دجلة كان مهدا لعواصم استثنائية في التاريخ ، ومنها طيسفون وبغداد .. وان كلا من دجلة والفرات اعتبرا حدودا مانعة للساسانيين ومن أتى من بعدهم في السيطرة على الهلال الخصيب والوصول إلى البحر المتوسط الذي كان هدفا إيرانيا منذ العهود الساسانية القديمة !
سادسا: اعتبرت ثقافات العراق منذ العصور الوسطى وحتى اليوم دجلوية وفراتية متنوعة ، ولكن سادت الدجلوية أكثر على الفراتية في العصر الحديث ، نتيجة توطن الأعراق السكانية العديدة لكل من شرق دجلة وما بين النهرين .. ، فكانت ثقافات دجلة متنوعة تنوعا كبيرا ، أما ثقافة الفرات الأدنى والأوسط والأعلى فلقد بقيت عربية صرفة . صحيح أن الفرات العراقي تمتد عليه عدة مدن على ضفتيه ، ولكن دجلة تقع على ضفتيه اكبر مدينتين ، هما بغداد والموصل ، فضلا عن مدن صغرى أخرى .. مع تنوع العتبات المقدسة بين مدن دجلة والفرات معا .
سابعا: أن دجلة عراقي صرف ، فهو سريع الجريان مع كثرة تموجاته ، وزيادة صخوره ، ووحدة مجراه مع عمقه ، وهو إن غضب فسريعا ما يهدأ ، فغضبته أيام فيضانات الربيع سريعة جدا .. ولكن الفرات له سمات متنوعة ، فهو اهدأ جريانا من دجلة مع هدوء سريانه ، وقلة صخوره ، وتوزع مجراه مع اتساعه وانفصاله إلى نهرين اثنين ثم عودة الالتقاء ، وهو إن غضب فغضبته قاسية ، وقد تطول بفيضاناته المدمرة كون الحياة ملتحقة بضفتيه فقط ، في حين ان الحياة العراقية مختلفة في دجلويتها .
ثامنا: ان تباعدت هوية كل من دجلة والفرات جغرافيا ، فإنها تشكّل ثقافات متنوعة ومتباينة بين كليهما عراقيا ، ولعل اقرب شراكة بين بيئتيهما نجدها عند بغداد ( وخصوصا : الكرخ ) التي جمعت بين دجلة والفرات عند اقترابهما من احدهما الآخر اقترابا كبيرا ، بحيث فكّر الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر المنصور طويلا باتخاذ عاصمته ( بغداد ) لتكون محميّة بين دجلة شرقا والفرات غربا .. وعليه ، فان بغداد هي التي جمعت ثقافة الدجلويين والفراتيين معا على امتداد التاريخ .
تاسعا: وإذا كانت بغداد قد جمعت ثقافات دجلة والفرات معا ، وخصوصا في جانبي الكرخ والرصافة ، والجسر بينهما ، فان البصرة والعشار تكاد تكون صاحبة ثقافة خاصة بها استلهمتها من نهر جامع بين دجلة والفرات هو ( شط العرب ) . وعليه ‘ فان البصرة ، هي التي استقطبت البر والنهر والبحر ، فكانت متميزة بتنوعها منذ تأسيسها . ولعل أشهر أزمانها تلك التي أسميت فيها بفينيسيا الشرق إبان عصر النهضة الأوربية ، كونها غدت من أشهر مراكز تجارة العالم الكوسموبوليتانية ، ولكنها ضعفت جدا مع مرور التاريخ الحديث حتى نشهد معاناتها اليوم .
عاشرا: إن كان نهر دجلة أكثر حيوية من الناحية العالمية منذ بدايات العصر الماركنتالي ، وتطور التجارة العالمية قبل فتح قناة السويس ، ومرورا بتأسيس شركة الهند الشرقية ، والمحطات التي ظهرت من شماله حتى جنوبه وصولا إلى تأسيس شركة لنج النهرية وبداية الاهتمام بالفرات .. لقد كان دجلة أكثر حركة تجارية محليا وإقليميا ودوليا بكثرة مرور الاكلاك فيه العابرة من الشمال حتى الجنوب إبان القرن التاسع عشر .. فضلا عما نقل من خلال مياهه أشهر الآثار العراقية نحو الغرب ، ولعل أهم المسوحات والدراسات الطبوغرافية عن كل من النهرين من قبل البريطانيين ، قد دامت عدة عقود من زمن القرن التاسع عشر .
ماذا نستنتج ؟
1/ إن لهذا ” الموضوع ” نكهته الرائعة ، فهو يدفعنا للمزيد من المعرفة العراقية ، والتعمّق في سبر أغوار طبيعة المجتمع العراقي ودور المؤثرات الطبيعية فيه ، وخصوصا دجلة والفرات في معاني تكوين بنية المجتمع العراقي.
2/ إن مضامين هذا ” الموضوع ” وما له من نتائج ، تعد إثراء للثقافة العراقية المعاصرة باتجاه المستقبل في القرن الواحد والعشرين ، وتعمل على بناء جيل جديد يفكر في عراقيته المتنوعة ، ويحاول أن يستلهم منه طريقه نحو المستقبل .
3/ إن أي محاولة لمقاربة الدجلويين بالفراتيين ستعمل على دمج المكونات الاجتماعية العراقية مع بعضها البعض ثقافيا واجتماعيا .. إذ يكفي العراقيين ما عانوا منه سياسيا وقوميا .. عسكريا ومذهبيا .. وستكون بالضرورة مشروعا مضادا لأية انقسامات أو محاولات انقسام للعراق .
4/ إن التوسع في هذه ” المفاهيم ” قد أخصب النظرية العمودية في دراستنا للمجتمع العراقي وتكوين ثقافاته المختلفة ، فضلا عن خروجنا بأربعة تقسيمات من الثقافات العراقية : ثقافات شرق دجلوية ، وثقافة غرب فراتية وثقافات ما بين النهرين وثقافة جامعة في أقصى الجنوب ( تجد تفاصيلها في دراستي للجغرافية الثقافية للعراق الحديث التي أرفق رابطها في أدناه ) .
5/ أن الدجلويين والفراتيين معا مطالبون بالدفاع عن مياههم العراقية كلها ، كونها متشاطئة مع دول المصدر ، وعلى دول المصدر أن تراعي ادوار دجلة والفرات ليس في الماضي الحضاري الرائع ، أو الحاضر الصعب فقط ، بل في بناء المنظومات الحضارية لكل أبناء المنطقة .. لكل الدجلويين والفراتيين معا .
ـ للموضوع صلة بمعالجة قادمة عن حالات جفاف الأنهر العراقية
ـ للاطلاع على نص محاضرة ” الجغرافية الثقافية للعراق الحديث ” ، راجع الرابط التالي :
http://www.sayyaraljamil.com/Arabic/viewarticle.php?id=studies_and_research-20080922-1493
ـ حقوق النشر محفوظة لايلاف
نشر في ايلاف ، 3-4 سبتمبر 2009 ، ويعاد نشره على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com