” وطننا هو رسالة كونية ثقيلة العيار”
الصديق الراحل أمير الدراجي
كنت اكلمه بالتلفون ، عندما أعلمني بمرضه الصديق الأستاذ نوري علي .. وكان على الطرف الأوربي أمير الدراجي ، يبكي على الخط ، من أعماقه من حزنه أو من فرحته بي .. كانت كلماته تخرج بصعوبة بالغة .. قال لي : فرحت بصوتك .. سررت باهتمامك .. وأنا أعيش معك ، إذ لا تفوتني مقالة واحدة من مقالاتك .. كنت أمنّيه بالصحة وراحة البال وبالشفاء العاجل ، وهو كمّن يريد أن يطير ليخرج من هذا العالم .. أعاد عبارته لي ، وكأنه يستعجل الرحيل ” الفرار من بين أصابع الزمن ” ، وهي عبارة كررّها ، عندما كان قد استخدمها لأول مرة ، وهو يعّزيني برحيل والدتي قبل سنتين !! أغلقت سماعة التلفون ، وأمير يشغل بالي وتفكيري ، ليس بسبب ما كان يعانيه من مرض عضال ، بل بسبب انسحاقه المرير حتى الأعماق .. هذا ” المثقف ” الملتزم الذي أهم ما كان يميّزه ، مواقفه الصلبة ، وتغايراته الجذرية ، وأسلوبه الصعب .. انه رجل عراقي حقيقي تعب على نفسه كثيرا ، فهو صاحب ثقافة عليا ، وفكر معمّق ، وتجربة ملتزمة .. انه نموذج للإنسان والمثقف معا .. انه يرحل ، أيضا ، ليلتحق بركب الراحلين صامتا ، من دون أن يلتفت إليه العراق ، أو ينال من عناية حكومة العراق شيئا أبدا .. ووقف كي يفتتح سجل 2009 في رحيل المثقفين العراقيين الحقيقيين !
الكتابة العليا : عصي المعاني
أما كتاباته ، فقلما يضاهيه أحد في صناعة الكلمة .. انه ينحت كلماته وتعابيره من الصخر .. وكثيرا ما يستعصي مقاله عن الفهم ، وكأنه يقول لمن يقرأ مادته : عليك أن تفهم ما يقال ، من دون أن تلزمني النزول إلى مستواك كي اكتب ما يمكنك فهمه ! الآخرون يهربون من ثقافته ، بل يصفون خطابه بالعصي عن الفهم لا الصعب في الصياغة والتعبير .. لم تكن كتاباته سطحية ، بل عميقة .. كان يكتب وهو يفكر ، ولا يفكر من اجل أن يكتب .. عاش ومات حرا في تعابيره التي لا تعرف السجن ، أو المعتقل من قبله . إن كتاباته غير متواطئة أبدا مع كتابات أخرى . وعليه ، فان من يقرأ نصوصه ، لا يمكنه استيعاب ما يقوله أمير بسهولة .. إن من يقرأ كتابات أمير ، سيجد نفسه في مواجهة صعبة جدا معه ، نظرا لصعوبة كتاباته ، فهو غير مستعد أن ينزل من مستواه إلى الأدنى ، فكيف به يتدانى إلى الحضيض ، ليكتب كتابة إنشائية بلهاء ، بل اعتاد أن يكتب كتاباته العصية التي يراها البعض ” مجرد طلاسم ” . لقد كانت كتاباته تعبير شائك عن نفسه ، لا تعبير عن أي طرف آخر .. كان كاتبا ناضجا في عالم من المبتدئين الذين لم يفقهوا قوة الكلمة لا عند الأولين ولا قرب الآخرين .
فيلسوف الكلمة الصعبة
أمير الأعماق يرحل رحلته الأبدية بصمت شديد ، وفي قلبه غصات من حسرة وألم ، كونه يهاجر من الشتات في الأرض بعيدا عن العراق .. ربما لم يقلها ، كونه آمن بفلسفة كونية ، ولم يعد الوطن عنده يساوي شيئا ، ولكن العراق عنده يمثل كونية الأشياء ! انه يرحل ودموعه لا تبلل تراب بغداد أو الناصرية التي اكتشف كونيته فيهما .. أمير يلتحق بسلسلة قافلة عراقية رائعة من المثقفين الراحلين الذين عرفهم العراق في القرن العشرين .. أمير الأعماق الذي لا تعجبه المسطحات ، ولا السذاجة ، ولا كّتاب الدرجة الثالثة .. يدرك انه سيمضي حيث مضى من قبله كل العمالقة العراقيين الذين سبقوه .. أمير يموت ، وفي فكره الأول : دجلة ، ونخلة ، ومسلة ، وأدلة ، فرات عذب وأساطير عراقية تدين كل الآلاف المؤلفة من العراقيين الذين لم يعرفوا إلا لغة القتل والضرب والبطش والولولة وكتابة التقارير السرية .. أو تفخيخ السيارات المدنية ، أو مجرد أقزام تافهين ، وجدوا أنفسهم فجأة زعماء للعراق منذ خمسين سنة .. أمير الممتد في تاريخ العراق بطوله ، كان يخجل مني جدا عندما أصفه بفيلسوف الكلمة الصعبة .. كان مثقفا ملتزما وليس عضويا ، كوننه يعبر عن ذاته وليس عن نخبة أو جماهير .. فهو عالم بحد ذاته ، كونه يلتزم جملة من الأفكار التي لا يحيد عنها ، ولم يكن مثقفا سلطويا ولا جماهيريا .. فهو باق في الأعالي ، ولم ينزل أبدا إلى الناس حيث يتنوع الجهلة والمهرجين والمصفقين والمداهنين والمرائين والمقلدين والأصوليين وأنصاف المثقفين والملالي المعممين والسياسيين اللوتيه المخادعين سواء كانوا من المعارضة أو السلطويين .. فكلهم عنده من الأدعياء الماكرين ، ومن أصحاب المصالح الخاصة الذين يكذبون على أنفسهم وعلى كل العراقيين عندما يحملون اسم العراق ورموزه ! كان أمير بقدر ما يعشق كونيته ، فهو يراها في العراق وأرضه ، وهو يبتعد عن الناس العراقيين ، وقد أصيب في الصميم من قبل من اسماهم بـ ” شعب العراق ” !
الجنرال الحزين: وقفة عند التكوين
أمير من ولادات مدينة الناصرية العراقية عام 1948 ، تلك المدينة الطيبة التي أنجبت العديد من الأدباء والفنانين المبدعين .. لقد بقي أمير يحمل عبق تراب الناصرية ، ويستذكر أيامه عند حوافي الفرات .. نشأ شابا متمردا على قيم بليدة لم تعد صالحة أبدا للمجتمعات المتمدنة .. ومن مهازل الزمن ، أن قيما أسوأ من تلك التي تمرد عليها المثقفون العراقيون قبل خمسين سنة ، هي سائدة اليوم بشكل لا يمكن تصديقه أبدا !! وهذا سر انتقال أمير من حالة التمرد إلى حالة الانعزال .. وكل من الحالتين دفعتاه إلى الانسحاق . أن شعوره بان الآخرين قد تخلوا عنه ، هو عين الصواب الذي عاشه من دون أن ينثني أو يضعف أبدا .. عند منتصف السبعينيات ، وصل بيروت ، وهو يلتزم القضية الفلسطينية ويغدو احد أبناء المقاومة .. وقد خبر على امتداد سنوات طوال تمتد حتى نهايات القرن ، أي خلال ربع قرن من الزمن ، أن الحياة العربية لا يمكنها اجتياز المحنة الحضارية ، إلا بالتمرد على كل الموروثات .. عام 1999 ، يهاجر نحو أوسلو عاصمة النرويج التي قضَى فيها قرابة عشر سنوات ، كي يصيبه مرض عضال لم يمهله إلا سنة واحدة غدا فيها مقعدا ، ولازم المستشفى في الشهور الأخيرة من حياته في مدينة للي هامر التي قضى فيها نحبه عن ستين سنة منكمشا على نفسه من دون أن يفقد ذاكرته .. هو نفسه يأسف على أشياء أخرى لم يحققها ، بل وان حلما كان يعيشه ليل نهار على امتداد ربع قرن .. ولكنه تبدد وسط أكوام من التناقضات الجديدة التي تفجّرت مؤخرا .
التجربة .. الالتزام .. التمرد
لقد تناصف عمره في العيش بين وطنه وبين المهجر .. ثلاثون سنة في العراق وثلاثون سنة في الشتات .. ثلاثون سنة عراقية نال من التكوين القوي تفتح عقله على نصوص كلكامش التي هضمها ، وجعلته يفكر كإنسان في فلسفة الخلود .. عشرون سنة عربية ، وعشر سنوات نرويجية ، وراح منذ بداياته ، يقرأ فلسفات أخرى، فقد قرأ على مهل كل من أعمال نيتشه وديكارت ودستويفسكي ولوركا وبودلير والسياب والبياتي وسعدي يوسف وانسي الحاج وآخرين من المبدعين ، شعراء ومفكرين ، لقد برز شابا معتدا بنفسه ، وكانت تصعب مجادلته لصعوبة ما يقول .. وقد أوقع نفسه في مشكلات لا حصر لها مع الآخرين ، نتيجة أفكاره الصعبة وغير الواقعية وكأنما تصدر عن مجنون في عرفهم … ويتأمل كغيره من أبناء جيله ، العراق وهو يمضى نحو المجد ، ولكن فجأة ، يكتشف أوهامه ، ويغدو مناضلا في صفوف الفلسطينيين ، وفجأة يكتشف ذاته والآخرين ، فيتمرد كرة أخرى .. ويصاب إصابة بليغة في يده وساقه في الاجتياح الإسرائيلي على لبنان عام 1982 .. الأمر الذي حدد حركته على الرغم من بعض العمليات التي أجريت له داخل النرويج … من نقل هذه التجربة النضالية إلى مخّه ؟ انه هو صاحب صنع قراره ، فليس أمير من النوع الذي يستجيب للأوامر .. وبقي يحلم بالعراق مصدرا للكون ، وهو ينتقل من تجربته النضالية ، وأدب الالتزام ، إلى تجربة إنسانية فلسفية صرفة بعد أن عاف الشعارات لأهلها .. حسم المعركة هو نفسه لصالح وجوده كانسان يفكر على هذه الأرض .. وهو بين هذا وذاك ، يتمتع بقدر هائل من الرهفة والأحاسيس الرقيقة وقلة النوم !
تجربة صداقة فكرية معمقة
كان كاتبا معروفا شهدت أعماله العديد من الصحف العربية ، لكنه خلال السنتين الأخيرتين ، لم يعد يؤمن بجدوى الكتابة .. كنت احفّزه ، أو أشعل قنديلا أمامه ، وبطريقة غير مباشرة أوحي له بكتابة ما يراه من أفكار .. كان يستجيب لي استجابة صديق لصديقه .. ، ويعاود الصمت .. كان غليان العراق كالمرجل يحرق أعصابه ويوقد جمرا في أحشائه ، فلا يستطيع أن يقاوم أبدا .. كان يكتب لي رسائله ، وهو في أقصى درجات الانسحاق النفسي .. وعندما يفكر بصوت عال في أي مقال يكتبه ، يعلو صوته ، فلا يهاب كبيرا ولا صغيرا ، فما يكمن في أعماق قلبه ، يلفظه مهما كانت النتائج .. ربما كان صمته تعبير عن وطن يصرخ .. يصمت كونه لا يستطيع أن يفعل شيئا . إن التصاقه بالحرية ، جعله لا يكتم شيئا ولا خبرا ، فصراحته قد سببّت له مشكلات عدة .. بل وان تعابيره تبدو مخيفة في بعض الأحيان ، فيتصوره البعض ” نزقا ” وحتى عند بعض أصدقائه .. الذين يجهلون مأساته .. إن أثرته الصمت والعزلة ليس دليل هروب من الواقع ، بل خلاصة من تناقضات مفعمة بالمآسي والمخاطر .
ـ انتظروا الحلقة الثانية من هذا المقال في تحليل بعض افكار امير الدراجي .
ـ نشرت في ايلاف ، 15 فبراير / شباط 2009 ، وتنشر على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
– ثمة ملحق ببعض الرسائل المتبادلة بيني وبين الصديق الراحل ستنشر في ملحق بالحلقة الثانية من هذا المقال .