منهج غير قابل للتجديد
تقول يا صديقي : ” أن الماركسية منهج علمي لدراسة وتحليل الواقع القائم والعمل على تغييره, أو النظر في الماضي والحاضر والمستقبل, هذه هي الأبعاد الثلاثة التي يبحث فيها المنهج من زاوية القضايا وتعتمد التجريد والتجسيد المتعاقب والتدقيق. وحين نبحث موضوع “المجتمعات العربية والديمقراطية”, فهو بحث في الماضي والحاضر والمستقبل في آن ” .
انني احترم الماركسية فلسفة لها خصوصياتها والتي تبلورت مفاهيمها على ما سبقها من فلسفات ورؤى وكتابات في الاشتراكيات الطوباوية والتعاونية .. وانها فعلا صيغة متقدمة من ديالكتيك هيغل التي تقول بالنقائض والبحث عن نقيض النقيض .. وكنت ولم ازل استفيد من فلسفة هيغل ومن نظرية كارل ماركس وآراء انكلز الى جانب استخدام نظريات وفلسفات اخرى شاعت في القرن العشرين ، ولكنني اعتقد ان كلا من الهيغلية والماركسية قد تجاوزهما الزمن اثر مرور اكثر من قرن كامل على ولادتيهما التاريخيتين.. وأسألك يا صديقي العزيز حول المنهج الماركسي .. هل باستطاعته اليوم ان يقوم بتحليل الواقع القائم كما تقول ؟ وهل باستطاعته العمل على تغييره كما تقول ؟ واذا كان ينظر الى الماضي ، فهل باستطاعته النظر الى الحاضر والمستقبل كما تقول ؟ اي واقع قائم باستطاعة الماركسية تغييره اليوم ؟ فلقد تقلص تأثير الدولة لصالح الشركات .. ولم تعد الرأسمالية يحتكرها سوق مكان معين ، بل تنتشر في كل مكان في العالم .. لم يعد العمال قوة نافذة يمكن ان تحميهم قوى نقابية .. ولقد سّرح الالاف من العمال نتيجة انتقال التصنيع للسلعة الواحدة الى اي مكان في العالم !
الاقتصادات المشوهة اللا منتمية في الشرق الاوسط !
واذا كنا قد اعترفنا بأن واقع مجتمعاتنا تنخره العلاقات الطفيلية لا الطبيعية ، والاستهلاكية لا الانتاجية .. وهو واقع لا يعرف غير الاستهلاك بعيدا جدا عن الانتاج ووسائل الانتاج .. وانت ادرى بها افضل مني ، فكيف تستطيع بربك ان تطبق عليه المنهج الماركسي ؟ واذا عجز الماركسيون واللينينويون والماويون انفسهم المضي قدما في الحفاظ على منظوماتهم الاشتراكية اطلاقا .. فكيف تريد من ابناء واقع مجتمعات الشرق الاوسط اليوم ان تعالجها الماركسية ؟ اذا كان الشيوعيون العرب والترك والايرانيون ـ مثلا ـ .. لم يجددوا انفسهم حتى الان لمعالجة واقع ساهموا هم انفسهم في صناعته على مدى قرابة قرن كامل .. فكيف تريد من منهج قديم معالجة واقع لم يدركه كارل ماركس بنفسه ولم يعرف شبيها له .. فلا هو بمجتمع رعوي حتى الان !ّ ولا هو بمجتمع اقطاعي حتى الان ! ولا هو بمجتمع رأسمالي صناعي او زراعي ؟ ولا هو بمجتمع اشتراكي تعاوني تغلفه الطوباويات ؟ انه مجتمع استهلاكي طفيلي مختلط ، تآكلت فيه العلاقات الانتاجية وتتلون فيه الاشكال الرعوية والريعية معا .. ولم تزل فيه حتى اشكال العبودية .. وتتشوه فيه القيم بين الدين والدنيا ، وتمتزج فيه الاوهام بالحقائق .. وتتداخل فيه الدولة مع المجتمع .. الخ وهنا ، ينبغي ان تطبق عليه مناهج اخرى . وعليه ، فاننا ان استوعبنا ذلك كله لما استطعنا القول يا صديقي : ” لقد ولى عهد التشبث بالمقولات والاستعارة التاريخية الخاطئة والمناطحة بها ـ كما تقول ـ ” . ولكن ؟
هل تؤمن الماركسية بالليبرالية ؟
ويبقى الصديق الدكتور كاظم حبيب مصّرا على رأيه الذي لابد من احترامه احتراما للمبادئ التي يحملها ، فالرجل مخلص للمبادئ التي آمن بها .. ولكن دعوني اتوقف قليلا عند النص التالي كي نتأمل فيه قليلا ، ونتفحصه طويلا ، ونتساءل من خلاله عما يمكن ان يعلمنا اياه تفكيكه النقدي ، يقول : ” وهنا أؤكد بأن العيب لا يكمن في المنهج ( الماركسي ) , بل في أسلوب أو طريقة فهمه واستخدامه من هذا الشخص أو الحزب أو ذاك أو عدم السعي إلى إغناء المنهج بالتقنيات والمعارف الحديثة. المنهج المادي قابل للتطوير والإغناء والتفاعل مع تطور العلوم والتقنيات الحديثة التي يمكن وضعها في خدمة مستخدم المنهج. وتبني المنهج المادي الديالكتيكي لا يحرم الإنسان حق تبني الليبرالية ما دام النظام السياسي والاقتصادي الذي تستوجبه طبيعة المرحلة التي يمر بها المجتمع , كما لا يحرم الباحث حق استخدام المناهج الأخرى في التحليل. لكن المنهج العلمي المادي الجدلي يساعد الإنسان على اكتشاف العيوب الجدية الموجودة في طبيعة النظام الرأسمالي أو في ممارسات الدول الرأسمالية العالمية والعواقب الوخيمة حين لا تفرض الرقابة والتضبيط وسن التشريعات في هذا النظام بحيث تمنع من تفاقم التناقضات الاجتماعية والصراعات الطبقية التي يمكن أن تقود , كما قادت في السابق , إلى صراعات ونزاعات دموية وإلى انتفاضات وثورات.
والمنهج يساعدنا على التمييز مثلاً بين العولمة كعملية موضوعية لا خلاف عليها ولا بد منها من جهة , وبين السياسات العولمية التي تمارسها الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي من جهة ثانية أو الموقف غير العقلاني الذي تتخذه الكثير من الدول والقوى السياسية من العولمة كعملية موضوعية مثلاً وعدم تمييزها بين العملية الموضوعية والسياسة المنتهجة. والمنهج هو الذي ساعد على تحديد الاختلالات الفعلية في طبيعة ومسيرة الدول الاشتراكية أيضاً التي تبنت المنهج ولم تمارسه فعلياً , ولكنها رفضت الانصياع للباحثين العلميين في الاتحاد السوفييتي الذين أشاروا إلى مواطن الخلل وخاصة في غياب الحرية والديمقراطية والسياسات الستالينية الدموية والإجرامية التي مارسها على امتداد فتره حكه البلاد, بل قام ستالين بقتل الكثير والكثير جداً من هؤلاء, ومن بينهم العلامة السوفييتي الشهير كوندراتيف, صاحب نظرية الموجات الطويلة, أو ما حصل في بقية الدول الاشتراكية” .
مناقشة في المضمون :
1. من قال : العيب في المنهج الماركسي ؟ ولكن أسأل عن اسلوب وطريقة فهمه واستخدامه ؟ ثمة اساليب وطرق فهم واستخدامات شتى في اوروبا وآسيا وامريكا اللاتينية .. هل كانت جميعها على خطأ عندما انهارت فجأة .. واذا كانت قد فشلت في اصقاع العالم كله ، فكيف تريدها لا تفشل في مجتمعاتنا المتباينة ذات الاقتصادات المشوهة ؟ واذا كانت قد فشلت بعد تجارب اكثر من نصف قرن مضى في القرن العشرين ، فكيف تريدها ان تنجح في القرن الواحد والعشرين ؟
2. ثمة نظرية وتطبيقات وقد تجاوزتها نظريات اخرى ، فما هي وسائل السعي لاغناء المنهج بالتقنيات والمعارف الحديثة ؟ اذا كانت المعرفة الحديثة والفلسفات المعاصرة لا تلتقي جميعها مع الثوابت الماركسية ، فكيف يمكنها ان تغنيها ؟ وانا بدوري اسأل عن ماهية التقنيات الحديثة التي يمكن وضعها في خدمة مستخدم المنهج ؟ ولماذا كل هذا التشبّث باحادية منهج وفلسفة تجاوزهما الزمن ؟ لم يمض وقت طويل على ديالكتيك هيغل حتى تبلورت نظرية كارل ماركس .. فهل من حق نظرية الاخير احتكار التاريخ ؟ وعقود القرن الواحد العشرين كفيلة بأن تكون حبلى باكثر من نظرية لمعالجة ما ستنتجه ظاهرة العولمة بعد ثلاثين سنة من اليوم .
3. كيف لا يحرم المنهج الماركسي ( بعيدا عن هيغل ) الانسان حق تبني الليبرالية ما دام النظام السياسي والاقتصادي الذي تستوجبه طبيعة المرحلة التي يمر بها المجتمع ؟ ان الفلسفة الماركسية تنص على حكم البروليتاريا (= الطبقة العاملة ) للمجتمع واستئصال فائض القيمة وتنص على الملكية العامة للدولة .. الخ فهل يتفق هذا مع ركائز الليبرالية ؟ انه تصادم مبادئ واساسيات وليس مجرد تلاقي افكار عادية .. لقد كان الماركسيون من ألّد اعداء الليبراليين ، والعكس صحيح ، ذلك ان الليبرالية تقترن بالحريات السياسية التي لم يمنحها اي حزب شيوعي حاكم ، ولم تشهد كل التجارب الشيوعية فيى القرن العشرين على الاطلاق اي نوع من الحريات السياسية واية برلمانات تمارس فيها الاحزاب مهما كان نوعها اية حريات سياسية بالمفهوم الليبرالي .. اما ان كانت طبيعة المرحلة التي يمر بها المجتمع تستوجب ذلك ، فهذا التفاف على الليبرالية والاستفادة منها على حساب ابقاء الايديولوجيا .. وهذا ما يفعله الاسلاميون ايضا في هذه المرحلة . انهم يلتفون على الفكر الليبرالي لانتاج خطواتهم من اجل السلطة وضرب عنق الحريات السياسية في الصميم .
4. انني اوافق على ان يستخدم الباحث المناهج الاخرى في التحليل ، ولكن شريطة استخدامها جميعا ، اي حتى بالنسبة لتلك التي تقف بالضد من الماركسية ، او بالضد من اجزاء منها . اننا لا يمكن ان نسمح بالجزء فقط على حساب الكل كما فعلت الاحزاب القومية والشوفينية والنازية ومنها الاحزاب الثورية العربية باستخدام مبادئ الاشتراكية العلمية لما يصلح ان يجعلها تقدمية لدى الرأي العام . ان الماركسية ـ كما اعتقد وقد اكون مخطئا ـ لا يمكنها ان تجدد نفسها ، ولكن بالامكان ان يتوالد عنها اكثر من نظرية اخرى تعالج مشكلة الدولة المنكمشة على نفسها اليوم بفعل شراسة الشركات الكبرى العملاقة المنتشرة في كل العالم كما وتعالج مشكلة تآكل المجتمعات في ظل التجمعات الاقتصادية هائلة القوة والتأثير كاليوربيان والاسيان والنافتا ..
5. انني معك يا صديقي ان المنهج الماركسي باستطاعته اكتشاف عيوب النظام الرأسمالي . ولكن اي نظام رأسمالي هناك في مجتمعاتنا ؟ لقد وصلت الكابيتالية اليوم الى ذروتها ، فاين هو الفيتو الماركسي ؟ حيث يمنع من تفاقم التناقضات الاجتماعية والصراعات الطبقية التي يمكن أن تقود , كما قادت في السابق , إلى صراعات ونزاعات دموية وإلى انتفاضات وثورات ؟؟؟ وأسألك يا صديقي : من هو الخاسر الاكبر من كل هذه العملية الكابيتالية الطاغية ؟ الا تعتقد ان عالم الجنوب هو الخاسر الاكبر ازاء تفاقم غنى عالم الشمال ؟ من هو المنسحق ازاء كل هذه العملية التي لم تستطع لا الماركسية ولا غير الماركسية من صدّها .. ان عالم الشمال اليوم يدين اجمعه بالولاء للنظام الكابيتالي الجديد .
6. وأسألك يا صديقي حول التمييز بين العولمة وبين السياسات العولمية ؟ وكيف باستطاعة المنهج الماركسي ان يميّز بين الاثنين ، علما بأن العولمة ليست مجرد عملية موضوعية .. انها ظاهرة تاريخية معقدة لا علاقة لها بالماركسية ابدا ، وهي نتاج الثورة الاقتصادية والتكنولوجية المعاصرة التي تتداخل فيها الارقام .. بالتكنولوجيا .. بالميديا .. بشركات متعددة الجنسيات .. بالصناعات القارية .. بالاتصالات وثورة المعلومات .. بالميديا الدعائية الهائلة .. وكلها تسيرها السياسات العولمية للولايات المتحدة والاتحاد الاوربي ومنظمة الاسيان ومنظمة نافتا بقوة الكابيتالية الامريكية وفلسفتها الرقابية ودورها المنافس في حماية شركاتها العملاقة واستحواذها على اي شركة قوية في هذا العالم ، فما دور المنهج الماركسي في هذا او ذاك كله ؟ وما الموقف غير العقلاني الذي تتخذه الكثير من الدول والقوى السياسية من العولمة ؟ نريد ان نعرف هذه الدول وهذه القوى السياسية ان كان لها تأثير في العالم ؟
7. واخيرا ، اريد ان اعرف كيف ساعد المنهج الماركسي على تحديد الاختلالات الفعلية في طبيعة ومسيرة الدول الاشتراكية التي تبنت المنهج ولم تمارسه فعلياً ؟ انني اعرف ان كل من انتقد الانظمة الشيوعية كان من خارج النظرية الماركسية ولا يعقل ان جميع الانظمة الشيوعية كانت ترتكب اخطاء في الممارسات من دون التعويل على ” منهج ” لا يبيح لها مطلقا التعامل مع المجتمعات الحرة وليست الدول الرأسمالية ؟ ليس من المعقول ابدا ان يتفق الجميع على تلك السياسات المقفلة التي اتبعتها الدول الشيوعية لما بعد الحرب العالمية الثانية ؟ ليس من المعقول ابدا ان يكون ستالين كبش فداء لكل ما مورس على مدى خمسين سنة من الاخطاء ؟ انني اعترف بأن هناك ثمة ايجابيات في التحكم برأس المال ، ولكن لا يمكننا ان نتخّيل كيف وصلت حقوق الانسان في البانيا التي كانت مقفلة تماما عن الحياة على يد انور خوجا وجماعته .. ولا ننسى تجربة المانيا الشرقية وهروب العشرات منها كي يتكهربوا بسور برلين .. ولا يمكننا ان نتخيل حجم المأساة التي عاشتها رومانيا على يد شاوشيسكو .. الخ انها ليست مشكلة عابرة لكي نقول انها رفضت الانصياع ، فمن كان باستطاعته ان يعرض وجهة نظر مخالفة في ظل انظمة حديدية صعبة ومقفلة ؟ ربما تحققت عدالة او اي نوع من العدالة بسيطرة الدولة على انفاس المجتمع ، ولكن كانت الحياة مغلقة اخّرت تلك ” المجتمعات ” لأكثر من خمسين سنة . اننا نرى اوضاعها الصعبة اليوم ، وهي تعاني باقتصاداتها المنهكة وبؤس الحياة فيها وهجرة شباباها وشاباتها من اجل لقمة العيش حتى باسوأ الاجور واحط الاعمال !
النظرية والتطبيق مرة اخرى
كان الاعضاء في اية احزاب ثورية ابان القرن العشرين ، كلما فشلوا في امر ما يعزفون اسطوانة الخلل ليس في النظرية ، بل في التطبيق ، وكثيرا ما تتعدد البدائل ليأتي هذا على جسد ذاك .. وكثيرا ما يستخدم ما سمي بـ ” العنف الثوري ” لتدبير الانقلابات بحجة قداسة النظرية وعفونة التطبيق .. واستمر الحال هكذا ليس لدى الاحزاب الشيوعية حسب ، بل حتى في الاحزاب الاخرى التي عاشت تقتات على الايديولوجيات الثورية واقربها حزب البعث العربي الاشتراكي الذي استعار حتى ما يسمى بـ ” الشرعية الثورية ” ، وهي شرعية اخترعها الشيوعيون وترددت على السنة غيرهم ، ولا وجود لهكذا شرعية من الناحية القانونية او الدستورية .
يقول الدكتور كاظم حبيب : ” ولم يكن العيب في المنهج حين تم الادعاء باستخدامه في الاتحاد السوفييتي وبقية الدول الاشتراكية, بل أن ما جرى هناك هو التجاوز الفظ على المنهج المادي والتاريخي لصالح الرغبات والإرادات الذاتية, كما تم التجاوز على القوانين الاقتصادية وقوانين التحول الاجتماعي الموضوعية مما أدى إلى الانهيار الذي عرفناه في تلك الدول , إضافة إلى أن تلك المجتمعات لم تكن نضوج أصلاً لذلك التحول والتي لم تكن الرأسمالية فيها قد تطورت, بل كانت لا تزال مجتمعات إقطاعية شبه رأسمالية ” .
ثمة اسئلة لابد منها : هل العيب لا يكتشف لأكثر من سبعين سنة مرت على تبلور المنظومة الاشتراكية / الشيوعية في العالم ؟ ولقد انعقدت المئات من مؤتمرات الكومنترن وحضرها كبار رجالات الشيوعية العالمية ومن العالم كله ولم يكتشف احدهم ذلك ” العيب ” في المنهج ! ونحن نعرف ما الذي جرى لمفكرين سوفييت وغير سوفييت عندما انتقدوا التفكير والممارسة والاداء .. فكيف لي ان اقتنع وببساطة شديدة ان العيب اكتشف اليوم ؟ ثم اعيد واكرر ، هل كانت التجربة احادية ، بحيث نقول ان الخطأ واحد .. ان هناك اكثر من اثنتي عشرة تجربة شيوعية في العالم ، لم تكن متفقة في المنهج والاداء سواء عند السوفييت او في الصين او تجارب يوغوسلافيا وهنغاريا ورومانيا وبلغاريا والبانيا والمانية الشرقية وبولونيا وكوريا وكوبا وفيتنام اضافة الى اليمن الجنوبي .. الخ فهل من الصواب القول ان العيب لا يكتشف في اي واحدة منها ؟ وهل العيب كله في الممارسة والتطبيق لدى كل هذه التجارب المعاصرة ؟ وهل يمكنني ان اقتنع ببساطة انها جميعها قد تجاوزت على المنهج لصالح الرغبات الذاتية ؟ وان هذا ادى الى الانهيار الذي عرفناه في تلك الدول ؟
انني لا اتقّبل ابدا مثل هذا ” التفسير ” ، ولكن لابد ان نعترف بأن الحياة لا يمكن ان تتقّبل منهج واحد لا غير هو الذي يسيّرها وهو الذي يحكمها وهو الذي يطعمها ويسقيها ! وهو الذي يفسر وحده تاريخها وماضيها وهو وحده الذي يمتلك حقيقة مستقبلها باسم الحتمية التاريخية .. وهو الوحيد الذي يجعل الدولة هي المالكة للعلاقات الانتاجية .. وهو الوحيد الذي يجعل من بروليتاريا العالم يحكمون باسم الحزب الواحد .. عندما قرأت الماركسية في كتاب ( رأس المال ) واعجبت بمسألة ” فائض القيمة ” كاساس استغلال للانسان ، واعجبت بالتحقيب التاريخي وانتقال سيرورة الحياة البشرية من المشاعية الى العبودية الى الاقطاعية الى الرأسمالية الى الشيوعية العالمية .. ولكن عندما قرأت كل تجارب هذه ” النظرية ” على الارض وما ارتكب بحق الانسان جراء تلك ” التطبيقات ” لم اقل انها عيوبها وكل ممارساتها ، بل اقول انها كانت تطبّق باشكال عدة النظرية الماركسية ..
اشكال متفاوتة بين تجربة ستالين الى خورتشوف الى بريجنيف الى تجربة ماوتسي تونغ الى تجربة كاسترو الى تجربة انور خوجه الى تجربة كيم ايل سونغ الى تجربة عبد الفتاح اسماعيل الى تجربة جوزيف بروز تيتو الى تجربة شاوشيسكو الى تجربة والتر اولبريشت وايريش هونيكر في المانيا الشرقية وغيرهم . يقول بوخارين وبريوبراجنسكي : ومن الواضح أن نظرية كاوتسكي تشكل اعترافا صريحا بالعجز المطلق، وأنها تضلل البروليتاريا وتحرفها عن طريقها، وتصل إلى حد الخيانة. والأسوأ من ذلك أنه عندما كنا في خضم الثورة، لم يجد كاوتسكي ما يفعله غير شن الحرب ضد البلاشفة. فتجاهل تعاليم ماركس، وأصر على حملته ضد دكتاتورية البروليتاريا، و«الإرهاب»، الخ، متناسيا أنه يساعد بذلك «الإرهاب الأبيض» الذي تمارسه البرجوازية. وها أن آماله الآن لا تختلف عن آمال داعية سلم ليس إلا. وإذا به يحلم بالمحاكم الدولية وما شابهها. وبات أشبه بأي داعية سلم برجوازي.
الرحيل الاخير لبقايا المنظومة الاشتراكية
ان الزمن وكل هذه التجارب التاريخية المريرة لم يعلم ولم تعلم كل المتزمتين التخفيف من التشبّث بما هو غير متحقق اصلا على الارض .. فكيف يبقى التزمت ساري المفعول في التفكير والكتابات ؟ اي حتى بعد رحيل دكتاتوريات اليسار على حساب ولادة دكتاتوريات اليمين ؟ اننا نشهد كم يصر بعض الماركسيين على ان ظاهرة العولمة هي ببساطة معبرة عن المرحلة الاخيرة من تطور الرأسمالية العالمية وخير من يعبّر عن هذا الاتجاه الناقد الامريكي الماركسي فردريك جيمسون صاحب كتاب ” ما بعد الحداثة ” .. انه التطرف ما زال يأتي ثماره لدى الماركسيين اليساريين ، ونجد بالمقابل فكر يميني مضاد يتبناه الليبراليون الجدد ، يقول بأن العولمة تفتح الاسواق ، وتوّسع الانشطة ، وتخصخص الثروات حتى الطبيعية ويصغر حجم الدولة .. فلا هذا في تطرفه قد حصل على عشر معشار الحقيقية ، ولا ذاك في تعصبه قد وصل الى ما يمكن ان يخدم به الحياة المعاصرة . انني اعتقد ان بقايا التجارب الاشتراكية لم تزل من يتمسك بها حتى الان وحتى بين الشباب الذين فتحوا عيونهم عليها قبل رحيلها المفاجئ قبل ان يختتم القرن الماضي حياته .. ان الجيل الذي عاش زهرة الحياة الاشتراكية سيرحل عما قريب نهائيا .. وسترحل ايضا حتى التجارب المقنعة التي لم تزل تعلن شعاراتها القديمة ولكنها اصبحت كلها في رعاية الكابيتالية العولمية الجديدة والصين في مقدمة هؤلاء !
المرتدون عن الماركسية
بعد ان كشف نيكيتا خروتشوف عن جرائم ستالين في الكومنترن العشرين ، استقال عدد كبير من المفكرين الماركسيين من الاحزاب الشيوعية ، وتخلى بعضهم عن الفكر الماركسي نفسه .. ومن اشهرهم ريجيس دوبريه صاحب كتاب شهير اسمه ” ثورة في الثورة ” .. وكان دوبريه قد عرف مناضلا الى جانب جيفارا ،وقضى ازمانا في سجون امريكا اللاتينية ، ولم يفرج عنه الا بعد ان تدخلت فرنسا بقوة .. وفي السنوات الاخيرة ، تحّول دوبريه تماما عن الماركسية ، وقد كشف عن ذلك في كتاب رائع مضمونه حوار جرى بينه وبين عالم الاجتماع السويسري جان زيغلر وكان عنوان الكتاب : ” لكي لا نستسلم ” نجد سخريته من الماركسية وسخر من صاحبه زيغلر الذي كان لم يزل متعلق بالماركسية ومبادئها بالرغم من شدة التحولات الجذرية التي اصبت كل العالم اثر سقوط الاتحاد السوفييتي .
ويقول كاستورياديس في رده على سؤال طرح عليه بخصوص مساره الفكري وكيف كان او كيف حصل : ” لقد كنت مشغوفاً بفرويد منذ صغري. وقد تنبهت منذ البداية إلى ضرورة أخذ البعد النفسي والجنسي للفرد بعين الاعتبار، وليس فقط البعد الاجتماعي والاقتصادي كما يفعل الماركسيون. ولكن تركيزي على البعد الجماعي أو الاجتماعي كان هو الأقوى بسبب تأثير الماركسية عليّ حتى عام 1960. عدئذ انخرطت في تحليل نفسي لذاتي، وأصبحت فيما بعد محلّلاً نفسياً بدوري. بدءاً من تلك اللحظة أصبح مستحيلاً عليّ أن أظل ماركسياً. فقد بدا لي أن فلسفة ماركس تعاني من نقص رهيب وكبير ألا وهو: إهمالها لفردية الإنسان وأعماقه السيكولوجية وتركيزها فقط على الحياة الجماعية حتى لكأن الناس قطيع لا عواطف لهم ولا مشاعر ولا احساس. ثم إن الأخطر من ذلك هو إهمال ماركس لما ادعوه بالتأسيس الخيالي للواقع الاجتماعي-التاريخي. ” ! ربما لا اوافق كاستورياديس في احكامه هذه ، ولكنني اعتقد جازما ان افكاره تعّبر عن رأي جمهرة كبيرة من المفكرين الذين توقف ايمانهم بالماركسية منذ الستنينيات في القرن الماضي .. ولم يكونوا جميعا مندفعين للارتماء في الرأسمالية .. ولم يكونوا جميعا يمثلون افكار سولجنستون المتمردة !
بدائل لا نفع فيها
في المجال النظري ظهرت في العقود الأخيرة عدة افكار ونظريات وجملة إبداعات فلسفية كبرى لعل أهمها على الإطلاق “نظرية عن العدل” التي صاغها فيلسوف جامعة هارفارد “جون رولز”. هذه النظرية استوعبت باقتدار النقد الماركسي التقليدي للرأسمالية المتطرفة في كونها استبعدت بعد العدل الاجتماعي في تركيزها المحموم على النمو الاقتصادي المتصاعد، وعلى التراكم الرأسمالي اللامحدود. وهكذا قرر “جون رولز” بكل جلاء ووضوح، ولأول مرة في تاريخ الفكر الليبرالي، أن هناك مبدءين للعدل: الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية.
ويشاء جدل التاريخ أن تنتقل هذه النظرية إلى عالم السياسة المعقد الزاخر بالتيارات المتلاطمة والمنافسات المحمومة بين العقائد والأفكار المتضاربة، فتنشأ حركة “الطريق الثالث”. وهذه الحركة السياسية – لأنها ليست في الواقع إيديولوجية مكتملة – تهدف إلي الجمع في تركيب واحد بين ديناميكية الرأسمالية، من حيث حفز الدافع الخاص وتنميته وتشجيعه على الإسهام بفعالية في جهود التنمية المستدامة، وتحقيق بعد العدالة الاجتماعية في الوقت نفسه، من خلال شبكة متكاملة من السياسات الاقتصادية والاجتماعية.
واخيرا : الشيوعيون العراقيون وقوى اليسار في العراق
انها مناسبة ثمينة وانا احاور صاحبي الدكتور كاظم حبيب ان اتكلم قليلا عن اليساريين من الماركسيين والشيوعيين العراقيين .. ذلك ان عمرهم الطويل في العراق يشترط ان يؤهلهم سياسيا للمشاركة بحكم التجارب وبكل اتجاهاتهم ، وانهم اصحاب تاريخ طويل في العراق وهو تاريخ حافل بكل التناقضات ايضا ، اذ تضمن النضال والفكر والمعاناة والاضطهاد والتضحيات والهجرة والمشاركة .. وتضمن الاخطاء والانقسامات والانشقاقات والتحالفات والتحريض والغلو وعدم الاعتراف بالخطأ والتخبط واعمال القتل والسعي الى السلطة بأي ثمن فضلا عن العلاقات باطراف دولية واحزاب شيوعية في العالم ..
1/ تاريخ حافل
انه تاريخ يجمع المزيد من التناقضات ، وخصوصا في العراق ، ونحن اليوم شئنا ام ابينا علينا أن نكون حياديين في تقييمه واعترف كما يعترف غيري من الليبراليين العراقيين ان المثقفين اليساريين الشيوعيين العراقيين وعلى امتداد خمسين سنة ، كانوا هم الاكثر ثقافة ومعرفة ونضجا وابداعا فكريا وثقافيا من غيرهم من المثقفين المؤدلجين ، وهم الاكثر منهجية عمل وتنظيم فكر وشفافية حوار سياسي كونه قابل لأن يأخذ ويعطي على عكس القوميين والبعثيين الذين ان خالفتهم رفضوك .. ولقد برز من قوى اليسار العراقي العديد من الشخصيات اللامعة في تاريخ الفكر والثقافة العراقيين منذ اكثر من خمسين سنة .. وعلينا ان نعترف بأن كتابات مفكريهم ومنشورات كّتابهم واكاديمييهم اكثر دقة وتركيزا من الكتّاب والمثقفين القوميين والبعثيين العراقيين .. وعلى الرغم من محددات مرجعية فكرية واحدة للعمل ، وعلى الرغم من احادية التفكير والمضامين التي يؤمنون بها .
2/ هل من تجديد في التفكير الشيوعي العراقي ؟
ثمة حالة اخرى ينبغي ان اسجلها في هذا المكان بالذات والتي توضّح ان الشيوعيين والماركسيين العراقيين لم يجددوا تفكيرهم السياسي ، ولم نجد هناك اي نظرية او حتى اية كتابات عراقية لشيوعيين او ماركسيين عراقيين تنادي بأي تجديد فكري حقيقي لا تنظيمي سياسي من الداخل .. ولا بأي تغيير في التفكير او مراجعة نقدية للماضي .. ولا حتى بأي تراجع عن اية ممارسات خاطئة ارتكبت في الماضي باسمهم سواء في بغداد او اماكن اخرى من العراق . لقد عرف الحزب الشيوعي العراقي الانقسامات ، اذ كان كثير الانشقاقات والصراعات ، بل ودخل في تحالف استراتيجي جبهوي مع البعثيين الحاكمين في ما اسمي بـ ” الجبهة الوطنية ” ابان السبعينيات ، ولم يكن قد مضى الا قرابة عشر سنوات على مذابح 1963 ! وكان مصير تلك الجبهة البائسة الفشل الذريع ، مما سبب في ملاحقتهم واضطهادهم طوال 25 سنة .
3/ الموقف من ( العروبة )
وثمة موقف آخر ازاء ( العروبة ) عليّ ان اسجل ما قاله لي احد الاصدقاء الشيوعيين من المفكرين اللبنانيين قبل عشرين سنة عندما التقيته في الجزائر ، قال : ان الشيوعيين العراقيين وحدهم يختلفون عن كل الحركات الشيوعية العربية ، فهم وحدهم لهم موقفهم المضاد من ( العروبة ) ، اذ لم يجد صاحبي هذا اي موقف من قبل القوى اليسارية العربية مضاد من العروبة اصلا ! ربما كانت لهم مواقفهم المضادة من الاحزاب القومية والسلطات التي حكمت باسم القومية العربية ، ولكن ليس من العروبة التي رفضها الشيوعيون العراقيون ـ كما يقول ـ من دون ان يكون لهم موقف مماثل من قوميات اخرى في العراق . فالى اي مدى تصلح هذه المقارنة ؟
4/ هل من رأي صريح ؟
ولكن الاهم والاخطر عندي هو ما جرى اليوم ، اذ اجد المفارقة اليوم مدهشة ومحيّرة ، عندما قبل الحزب الشيوعي العراقي الشراكة في الحكم والسلطة في عراق ما بعد صدام حسين من دون ان يتخلّى عن افكاره ومبادئه . فلا هو قد اعلن عن تجديد تلك الافكار والمبادئ ، ولا هو برافض لكل ما يدور اليوم في العراق ، بل الاخطر من هذا وذاك انه وافق على العملية السياسية وانخرط فيها جنبا الى جنب قوى دينية استحوذت على السلطة باسم الجماهير ، وهو يدرك بيد من اصبح العراق اليوم ومنذ العام 2003 ؟ كما وافق على الدستور العراقي وانخرط مشتركا في تصميمه ، وهو دستور اقل ما يمكن وصفه انه يحمل تناقضات صارخة بين الديمقراطية والدين ، وبين الوحدة والانقسام ، وهو دستور لا يستطيع ان يجتمع كل العراقيين عليه كونه ـ كما وصفته ـ يحمل تابوت العراق !! انني اتساءل فقط تساؤلاتي المشروعة من دون ان انتقد او اتهجم ، بل اطرح تساؤلاتي التي لا اجد لها اي جواب عندي .. اطرحها في مثل هذا ” الحوار ” الذي يجمعني مع احد اركان اليسار في العراق .
5/ ازدواجية المعايير غير مقبولة !
انني الحظ ان انقساما كبيرا يعيشه اليوم اليسار العراقي ، وهو ليس في مصلحة العراق ابدا ! انن الاحظ ان قوى ناشطة من قوى اليسار العراقي لها كلمتها وحريتها في ان تقول ما تؤمن به وخصوصا لدى العديد من الشيوعيين العراقيين السابقين واللاحقين .. ولكنني لم اجد مثل ذلك لدى القيادات اليوم . وعليه ، فانني ارى ان يمنحنا كل الماركسيين والشيوعيين في العراق اية فرصة يوضّحوا فيها مواقفهم لنا كعراقيين وللتاريخ والاجيال القادمة في المستقبل .. بين المبادئ التي يحملونها وبين قبولهم العملية السياسية في ظل وجود محتل .. ثم هل من توضيح ان كان كل الماركسيين والشيوعيين العراقيين بقابلين هذا الوضع ؟ وهل حجة الديمقراطية العراقية الجديدة ـ وقد عرفنا كيف مورست في العراق ـ كافية لنسف كل تاريخ الحزب الشيوعي في العراق وما بذل من تضحيات ونضالات على امتداد القرن العشرين ؟؟ وهذا ما لا يقبله ابدا اي مفكر عراقي مدرك للاولويات ويفكر في المستقبليات ، وهو قبل هذا وذاك من الوطنيين العراقيين الاحرار .
الكلمة الاخيرة
انني ان اكتب ذلك ليس لي اي موقف مضاد من اي حركة سياسية او فكر سياسي معين ، ولكن ثمة مصالح وطنية تجمعنا وتوحدنا جميعا من اجل حمايتها والدفاع عنها .. وعليّ ان اقول لكل من ينتقدنا الان لخروجنا عن مناقشة موضوع الديمقراطية في العراق الى ان ما نعالجه اليوم من حفريات دقيقة انما تخدم سيرورة الديمقراطية في العراق مستقبلا .. واعتقد انني وصديقي الدكتور كاظم حبيب مخلصين لمثل هذا ” المبدأ ” سواء اتفقنا ام اختلفنا في المنهج والتفكير .
ـ تنشر هذه الحلقات تباعا في موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
15 ديسمبر 2007
انتظروا الحلقة الثالثة
جادة حوار عراقي.. مقاربات ومباعدات بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب (الحلقة الأولى)
الرئيسية / حوارات / جادة حوار عراقي.. مقاربات ومباعدات بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب (الحلقة الثانية)
شاهد أيضاً
ملف: إمكانية حكم دكتاتور عادل للعراق.. حوار عراقي مصري بين الدكتور سيّار الجميل والأستاذ عبد الله كمال على روز اليوسف المصرية
مقدمة كتب الصديق الأستاذ عبد الله كمال عضو مجلس الشورى المصري ورئيس تحرير كل من …