المؤرخ العراقي الكبير الدكتور سيار الجميل واحد من أبرز رجالات الفكر العراقي، والعربي، في العقود الأخيرة، وقد كنت تعرفت عليه شخصياً عندما كنا نقيم في العاصمة الأردنية عمان قبل أن نفترق كل الى منفى، وفي تلك الأيام، أواخر التسعينيات ، قرأت أغلب كتب الجميل، ومنها ما يخص الفكر القومي العربي، وربما أشهرها مساجلاته مع الصحافي المصري محمد حسنين هيكل، وكذلك كتابه المهم التحولات العربية، إضافة إلى كتب أخرى مهمة ورصينة مثل كتابه المعنون العولمة والمستقبل.. وشخصية الدكتور الجميل من الشخصيات ذات الكاريزما الخاصة جداً، تلك التي تأسر المقابل، إلا إنني كنت أعتقد أن مؤرخنا العراقي معني بالشأن العربي أكثر من الشأن العراقي، ولكن اعتقادي هذا سرعان ما بدأ يتبخر حالما اقتربت أكثر منه، ولما ابتعدنا عن بعضنا البعض صرت أتابع ما يكتبه هنا وهناك عن بعد، حتى حلت لحظة تحرير العراق، وبدأت الهجمة الشرسة التي يقودها متطرفون ومتعصبون وبعض الحمقى والغوغاء أيضاً ضد المشروع النهضوي العراقي الكبير الذي بدأت خطواته الأولى بمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في التاسع من نيسان يوم هوى آخر أصنام العبودية في العراق.. هذه الحملة كان لابد من الوقوف ضدها ( وهي تذكرنا هنا بما تعرض له الأشقاء الكويتيون من ظلم ذوي القربى أيام الغزو الصدامي )، وبالفعل فقد كتب العراقيون مدافعين عن أحلامهم ليس الا ضد من لم يكتف بالسطو على الواقع بل يريد السطو على الحلم أيضاً، الأمر الذي دعى الكثير من المثقفين العرب، الأصدقاء منهم بوجه خاص، إلى معاتبتنا، نحن العراقيين، على موقفنا الثابت والحاد أيضاً ضد الهراءات التيي كانت تطلق من كذا عاصمة عربية ضد التجربة العراقية وما زالت، دون أن يكلف هؤلاء الأصدقاء أنفسهم بالرد على تلك الهراءات قبل أن يوجهوا نقدهم، الأخوي، إلينا نحن العراقيين الفرحين إلى أقصى الحدود بالتغيير الحاصل في العراق والذي ما كدنا نهنأ به حتى توالت مباركات الأشقاء لأنهار الدم فيه..
الدكتور سيار الجميل، بغيرة عراقي حقيقي، تعالى على سمعته الأكاديمية التي كثيراً ما صورت لنا على أنها مجرد بدلة رسمية وقاعة ندوات ودراسات فكرية غامضة، ليتناول بالتشريح وبمهارة العالم المتأن الواقع العراقي الآن والمحاولات المستميتة لتشويهه، ومن المؤكد أن ما يكتبه الجميل قد أثلج صدور العراقيين أينما كانوا فقد نطق بألسنهم حقاً وكأنه أخذ تفويضهم بذلك، كيف لا وهو أبن المحنة ذاتها وواحد من ضحاياها، فلو كان العراق قد عاش عقوده القهرية الطويلة على يد صدام كما يعيش غير العراقيين لوجدت المفكر العراقي الكبير سيار الجميل هنيئاً في جامعته يدرس العلم وينشر الفكر الذي يؤمن به من خلال مؤلفاته، ولكن العراق، أيام صدام، كان دأب على طرد أبناءه، فقسر الجميل على مغادرة وطنه كما غادره الألاف..
وبالطبع تربطنا علاقات شخصية حميمة مع مثقفين فلسطينيين، على اعتبار أن مقالة الجميل الأخيرة تناولت تصريحات واحد من المسؤولين الفلسطينيين والتي هاجم فيها بوقاحة منقطعة النظير أهل العراق كما أورد ذلك الجميل، أقول لنا صداقاتنا الحميمة مع عدد كبير من المثقفين الفلسطينين، والذين نحترمهم ونحترم تجاربهم اإبداعية، ولكن ماذا استطاع هؤلاء الأصدقاء أن يفعلوا بأزاء المد الإعلامي الخطير الذي تشهده المؤسسات الإعلامية التي يشتغلون فيها ضد التجربة العراقية الوليدة؟ إنهم في أحسن الأحوال يكتبون بخجل ووجل أيضاً عن ما يجري، وهم معذورون في ذلك كثيراً، بل وكثيراً جداً، فالشارع الفلسطيني اليوم مأخوذ بحماسة السيد عبد العزيز الرنتيسي أكثر من أنشداده بخطابات المثقفين الغامضة، ولعلنا نتذكر جيداً أن السيد الرنتيسي كان خاطب صدام قبل حرب التحرير الأخيرة بالقول أنه مستعد لتجهيزه بالانتحاريين الفلسطينيين لمواجهة القوات الأمريكية!!!، في الوقت الذي كنا نؤكد فيه، وأثبتت الوقائع صحة ما قلناه، بأن الأمهات العراقيات سوف يوصين أبناءهن بأن لا يشتركوا في هذه الحرب دفاعاً عن صدام وزمرته، أفيكون السيد الرنتيسي أكثر فهماً بمصلحة العراق من حشد علماءه ومفكريه ومثقفيه وفنانيه ورياضييه، من ملايين العراقيين رجالاً ونساءاً شيوخاً وأطفالاً ؟، إنه أمر محير فعلاً !
أن الموقف الوطني الصميمي الذي يتخذه المفكر العراقي الكبير سيار الجميل أزاء مثل هذه المواقف الحاقدة يستحق أكثر من تحية اعجاب ، بالضبط كما يستحق الكثير من الذين يعادون الشعب العراقي وطموحاته وأحلامه المزيد من الفضح، فالعراق سيكون عراقاً حراً لأبناءه البررة، بغض النظر عن وصف هؤلاء العراقيين بأنهم عملاء لأمريكا أو بأبشع من ذلك كما يقترح المسؤول اللفلسطيني !
عبد الخالق كيتان – شاعر عراقي مقيم في أديلايد / ايلاف 14 يناير 2004.
شاهد أيضاً
مسامير.. عتاب إلى الحكومة العراقية شديد الخصوصية شديد العمومية !
قرأتُ الخبر التالي وأسعدني : ( ناشنال بوست ، تورنتو ، يو بي اف ، …