لم يكن مقالا معرفيا حول الدم العراقي ولا لتاريخه ولا لراهنه الأسطوري كما عودنا الدكتور سيار الجميل في قراءاته التحليلية والفكرية لضراوة الحدث العراقي ومشهديته المؤلمة ولمجريات الأحداث اليومية ونمو الجرح الذي فاق تصور كثير من المحللين والدارسين ، لم يكن مقالا ولم تكن قراءة متأنية( للظاهرة العراقية )كما سماها مؤخرا الكاتب اللبناني الكبير ” كريم مروه ” ذلك الذي كتبه سيار الجميل في صفحة آراء في جريدة الصباح ليوم 28/أيلول/2006 تحت عنوان (العراق والتقاسيم عشاق ومجانين) !!
بل كان سيلا من الأسئلة والشتائم التي شملت المثقف والسياسي والمعمم والليبرالي والمغلوب على أمره من علية القوم ألي اسفل الدرج وهو الذي أمّـلنا وعشّمنا وكتب لهذا الشعب المقالات والرسائل والتحليلات بعد سقوط صنم العرب نشرتها الصحف العراقية والفضائيات عن الصبر الجميل وضرورات عامل الزمن كشرط أساسي لإشاعة الديمقراطية وتقبلها من قبل الشارع العراقي و كنهج جديد ومنهج صحيح لهؤلاء ” المجانين ” الذين يقطنون وادي الرافدين، ألم تذكر غير مرة أنت وأستاذنا شاكر النابلسي إن الديمقراطية لا يمكن أن تأتي ” بكتلوج ” من الخارج أو بوصفة سحرية جاهزة لتصلح حياة العراقيين التي أفسدها الحكام والملوك والسلاطين عبر حقب طاحنة من الزمان … لكنها تأتي من خلال صناديق الاقتراع وثقافة الحوار والصبر كل ذلك وغيره سيكون هو الفيصل الحاسم في وضع العراقيين على الطريق الصحيح وان الديمقراطية هي سلوك قبل كل شيء وربّما شدّدتَ كثيرا على مسألة الزمن فما الذي جرى إذن لتأتي مقالتك الأخيرة لتحمل لنا اكثر من ثلاثين سؤالا يستطيع أي عامل خردة أو بائع سجائر أن يكوّن أسئلة اكثر نفعا من تلك الشتائم والتهكمات التي عافها الزمن وتجاوزتها الثقافات والشعوب وتمرد عليها العقل التحليلي النقدي لأنها أساليب بدائية رثــّة لاتخــلـّفًُ سوى البغضاء والجراح، وكأنما كـُـتبَ علينا أن نكون تلاميـذ َ نجباء يبصق علينا الحـكّـام ويشتمنا الشعراء المترفون والمغتربون ثمّ يأتي أبناء جلدتنا لينعتونا “بالعهر التاريخي والغفلة” وغيرها كثير من الألفاظ النابية التي جاءت في مقال الدكتور سيار ،وإذا كان البعض يعتقد بصحة هذا الأسلوب وصوابه “في إيقاظ هؤلاء القوم من سباتهم ” لغرض التحريض والثورة ضد أصنام العرب وعروشهم وعمائمهم وساستهم وعقائدهم فأننا نعتقد بأن هؤلاء الحكام والساسة كانوا أكثر دهاء وحيلة إذ استثمروا هذا الأسلوب وربما تبنوه لتوسيع مديات الإحباط والانكسار والنكوص لدى السواد الأعظم من الناس وجعله وسيلة لامتصاص الكبت والنقمة الشعبية وإيهام الشعوب بوجود فسحة من الحرية والديمقراطية في نقد منظومة سلطانهم المريض. ولاذكـّـر الدكتور سيار وحسب علمي انه على دراية واسعة بالتاريخ بان حرب الشمال والجنوب هي التي أنجبتْ ورسّختْْ الديمقراطية في الولايات المتحدة بعد أن دفعتْ انهارا وأهوالا من البشر والأموال وكذلك ألمانيا واليابان والهند ولعلّ آخرها إنكلترا والتي لم تـزلْ إلى الان تبحث عن ضماد لجراح مشكلة ايرلندا وجيشها الجمهوري السري.. ولأذكـّـرك أيضا أن طبيعة الحضارة اليونانية وثقافتها وفكرها هي التي وفـّـرتْ الرحم الدافئ والمهاد الصحي لنمو بذرة الديمقراطية ومبادئها ووفرت المناخ الطبيعي لشيوعها وتعميمها عبر العصور حتى صار الطفل يرضعها من لبن أمه ويتنفسها مع الهواء ويعيشها في الحياة العامة وليست الديمقراطية هي التي صنعت ثقافة اليونان وفكرها وفلاسفتها ونظام الحكم وطرائق الحياة لهذا الشعب العظيم الذي تفوق على كل الشعوب وانجب سقراط وأفلاطون وار سطو واقليدس وفيثاغورس وغيرهم من العقول العملاقة فكيف بنا ونحن الذين عشنا نتنفس غبار الأرض ونأكل ملحها ورمادها وتناقضاتها فمن مجموع أربعة حكموا وفق مبدأ الشورى استشهد ثلاثة منهم اغتيالا في عصر الخلفاء الراشدين ولم يكن الأول أوفر حظا من البقية حيث اشتعلت في زمنه حروب الردة واقصد الخليفة الأول أبو بكر ” رض ” ولا ننسى الحروب والاضطرابات والفتن والفتوحات التي سادت فترة حكمهم مما يؤكد أن كل تجربة حديثة في نظم الحكم تحمل في تلافيفها أمراضها وسقطاتها وانتكاساتها ثم الطامة الكبرى حين نقل ” معاوية ” منظومة الحكم من مبدأ الشورى إلى الوصاية والتوريث حيث أعادها إلى ديدنها الإيقاعي القديم في الـتوريث وحكم السلالات و(ولي النعمة) حتى ترسّخ هذا الطراز من الحكم ثانية وامتد لاكثر من ثلاثة عشر قرنا وفق مبدأ (الراعي والرعية) تسـلـّل من خلالها إلى النفوس الخذلان والتبعية والخوف والتردد والعنف وعدم الولاء وعدم الثقة بالنفس والاعتماد على الغيبيات بالنسبة للإنسان العربي حتى عند رغبته في قضاء حاجته أقول تسلـّلت هذه الأمراض والعقائد والسياقات إلى نسيجه التكويني وجيناته الوراثية وإذا كنا نتحدث هنا عن المجتمع العربي فلان العراق وشعبه جزء من هذه المنظومة المخرّبة المتورطة بهذا الإرث الأسود وهذه التورمات والإعتلالات والتشوهات التي تحتاج إلى جراحة وتطبيب لا إلى الشتائم والى غرفة عناية مركزة لا إلى زنزانة للجلد وتحتاج (غاندي) اكثر من حاجتها إلى جيفارا تحتاج إلى محمد عابد الجابري وفرج فوده والغذامي وادونيس واركون ومثال الالوسي وعلي عبدالرازق والأفغاني وأياد جمال الدين وشاكر النابلسي وسيار الجميل من حاجتها لراديكالية عروة بن الورد وجان دارك وهوشي منه وكاسترو وصاحب ثورة الزنج .. تحتاج إلى التحليل والقراءة العميقة المنتجة والتفكيك والتأويل لا إلى التفسير والانطباع والاجترار ، واذا كان العراقيون قد دخلوا إلى ” طور العهر التاريخي ” كما تسـاءلت في مقالتك فانك بلا شك واحد منا أيها العزيز ونحن العراقيين لا نخجل من تاريخنا ولا من صبرنا على امتداد الأزمان والحقب حتى نفوق نظام البعث وبزوغ عهد الاغتيالات والاختطاف والتفجير والتفخيخ واننا تصدينا ونتصدى لكل مكروه يصيب البلاد ومن قلب الحدث.. من عنفوان المحنة لامن وراء دريئة أو تحصينات ونجاهد لكي نبقى على قيد الكتابة والحياة واذا كنت على قدر من البسالة والشجاعة فعد إلى بلادكَ الأم وأقمْ بين اهلكَ وإخوانكَ الذين تحرروا من جلا دهم الأعظم وصار بوسعهم قولَ مايشاؤون في الصحف ووسائل الاعلام المختلفة، تعال هنا وجرب حظك في انتقاد من شئتَ من ” المعممين والمثقفين والساسة الجدد والعصابات والجهلاء والمارقين ” كما ذكرت في مقالتك موضوع النقاش ونحن على يقين بأنك ستكون أول المصطفين على بوابة مطار بغداد أو معبري طريبيل أو الوليد الحدوديين فالحقيقة أمرّ ممّا تتصوّر وبيتنا من ورق النشاف وشقتكَ وراء البحر الأنيق فلا تكلـّـفنا ما لاطاقةَ لنا بهِ واذا كان ” النابلسي ” وهو في أميركا قد نفد صبره كما وردَ في مقالته قبل فترة عن “أميركا الهبلة ” في جريدة الصباح والجميل هو الآخر بدأ يتململُ في مقعده الوثير أمام (الشاشة العراقية الدموية المقرفة) وغيرهم من المثقفين والمفكرين الشرفاء الذين بشّرونا بهواء الحرية والعهد العراقي الجديد قد استقالوا من مهمتهم النبيلة في شدّ أزرنا وحشد ما تبقى من عزمنا فهل سنلجأ إلى الجحيم للحصول على كابونات مكتنزة بالدراهم تنوب عنا في وسائل الاعلام الأبواق العاطلة في التخت العربي النشاز أم نبقى نردد البيت الشعري الشهير للشاعر الكبير محمود درويش ” الأرض أوسع من خيام الأنبياء ” وتذكر أخيرا أيها العزيز..العزيز بأنك في مقالك الآنف الذكر قد شتمت شعبا بأكمله.
الصباح 5 تشرين الثاني 2006
شاهد أيضاً
مسامير.. عتاب إلى الحكومة العراقية شديد الخصوصية شديد العمومية !
قرأتُ الخبر التالي وأسعدني : ( ناشنال بوست ، تورنتو ، يو بي اف ، …