تنويعاً علي مداخلات الأستاذ الدكتور سيار الجميل بشأن موضوعة العولمة، في زاويته مزامنات أود أن أسجل الملاحظات التالية:
كثيرة هي الأسئلة التي تطرحها متغيرات الواقع ومنجزات العلوم والفكر علي مجتمعاتنا العربية ولا نجد، في غالب الأحيان، سبيلاً للإجابة عليها، إلا أن سؤال العولمة، المطروح اليوم بقوة، يبدو أبرز هذه الأسئلة وأكثرها حراجة بالنسبة لنا، لأنه سؤال لا يتعلق بموضوعة فكرية أو فلسفية عابرة، بل يتعلق بحاضرنا ومستقبلنا، فالعولمة، بتعريف بسيط، هي التلخيص السياسي لكل هذا الذي يدهشنا يومياً، في مجالات العلوم والتكنولوجيا و الاتصالات والإدارة والاقتصاد الخ، وسؤال العولمة، الذي يكبر مثل كرة الثلج، يفرض علينا، أردنا ذلك أم لم نرد، اختباراً من نوع آخر لا تصلح معه أجوبتنا القديمة الجاهزة، ولا تتوفر، في سياقه، فرصة للهرب أو التقوقع، لأنه، مرة أخري، سؤال التحدي الحضاري الذي فرضته المتغيرات الدولية العاصفة، ابتداء بانهيار المنظومة الاشتراكية ومفاهيمها عن العدالة والتنمية والوحدة الأممية، وبروز سيادة القطب الواحد، ومروراً ببلوغ الثورة التكنولوجية والمعلوماتية ذري جديدة غير مسبوقة، وانتهاء بتكريس روح الهيمنة والاستئثار، السائدة في عالم اليوم. ولهذا لم يعد نافعاً، لنا خاصة، الاكتفاء بالندب علي حظوظ مجتمعاتنا العاثرة في ميادين التطور العلمي، ولا بإغلاق أبوابنا وانتظار أن تمر العاصفة بسلام، ذلك أن التطورات الجارية في العالم، سواء كانت اقتصادية أو سياسية ـ اجتماعية، أم علمية ـ أبداعية، ليست هواءً عابراً يمكن أن نستنشق منه ما نشاء، بل هي أيضا، يمكن أن تقتلع نوافذنا وأبوابنا وتتركنا في العراء.
لقد ناقش عدد كبير من مفكرينا وكتابنا موضوعة العولمة بإسهاب وإفاضة لكن جل من تصدي لهذه الموضوعة، اكتفي بإظهار تأثيراتها السلبية و مخاطرها المحتملة علي الهوية الوطنية وعلي الأمن القومي، وكذلك علي تراثنا الثقافي ومنجزنا المتواضع في ميادين التنمية والاقتصاد الوطني. وعلي فضيلة وإيجابية ما كشفوا عنه في هذا الصدد، إلا أنهم لم يقولوا لنا شيئاً عن المزايا الأخري غير السلبية للعولمة، ولا قالوا لنا، أيضا كيف يمكن أن تواجه مجتمعاتنا العربية هذا الخطر الداهم ، الذي أسمه العولمة.
إن الفكرة الساذجة التي تكتفي بتبشيع الظواهر التي ينتجها، أو يفرزها التطور الحضاري، بحجة أنها وليدة المجتمع الرأسمالي السائد، إنما هي فكرة عقيمة إذا ما اكتفت بتوصيف وحيد الجانب لهذه المظاهر، هو ذاته (أي التوصيف) وليد أيديولوجية مضادة وغير فاعلة. ولهذا فنحن أحوج ما نكون اليوم لبحث يتصدي، من موقع التفاعل النقدي الإيجابي، لمظهر مثل مظهر العولمة وليس لبيانات تعبوية لا تزال تتمترس بخطاب متطير لا يملك الحد الأدني من مستلزمات المواجهة المادية للسائد من الخيارات والمتغيرات.
إن الاكتفاء بالولولة والصراخ أمام مكمن الذئب (إذا ما ذهبنا حيث يصور البعض ظاهرة العولمة)! لن ينجي قطعاننا من الخطر علي الإطلاق، بل هو يشغلنا، في واقع الحال، عن البحث الجدي المسؤول عن السبيل السليم لمواجهة الخطر. وفي مقدمة ما نحن بحاجة إليه، ها هنا، هو التسلح بالفطنة النقدية وبالرؤية الواقعية الجريئة لمنجزنا نحن، علي الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية، وكيفية تطوير هذا المنجز إلي الدرجة التي لا تجعلنا نخشي عليه من رياح التطور المتسارعة. ولأن العولمة هي من أحد وجوهها، اختبار حضاري في غير ميدان من ميادين الاقتصاد والإدارة والاتصالات والإعلام والسياسة أيضا، فنحن إذن، ومن دون منجز تنموي حقيقي، ومن دون برنامج سياسي ذي طابع ديمقراطي، ومن دون قناعة راسخة ومؤمنة بأفضلية قيمنا الاجتماعية ومنجزنا الثقافي الحضاري، لن يكون بوسع التعاويذ والأدعية التي نطلقها في الهواء، أن تحمينا من مخاطر العولمة، فالعولمة، في نهاية المطاف، ليست خياراً يمكن العودة عنه أو التفلت منه، بل هي خيار إجباري لا مناص من التصدي لآثاره وافرازاته، لهذا نقول، أننا اليوم، ونحن نمضي حثيثا نحو غياهب القرن الحادي والعشرين، لسنا بحاجة إلي المزيد من الحكماء بل نحن بحاجة لمن يحول الحكمة إلي أداة عملية نواجه بها الحياة بكل مظاهرها الجديدة والغريبة. نحن بحاجة إلي التنمية الحقيقية المتوازنة وذات الجدوي الملموسة، ونحن بحاجة إلي تحديث مجتمعاتنا وتكريس مظاهر الحياة المدنية، ونحن بحاجة إلي رؤية نقدية جريئة ننظر بها إلي الماضي كما إلي الحاضر والمستقبل، وأخيراً نحن بحاجة إلي العولمة نفسها، لكن فقط عندما نتمكن من الإجابة عن سؤالها الشائك، تلك الإجابة الأبعد من السائد المتطير!
جريدة (الزمان) العدد 1289 التاريخ 2002 – 8 -18 /17
Check Also
مسامير.. عتاب إلى الحكومة العراقية شديد الخصوصية شديد العمومية !
قرأتُ الخبر التالي وأسعدني : ( ناشنال بوست ، تورنتو ، يو بي اف ، …