مدخل فلسفة الرواية : ركام التناقضات العراقية
كنت قد وعدت القراء الكرام ، أنني سأقف ، وقفة نقدية عند رواية ” الحفيدة الأمريكية ” التي أهدتني نسخة منها مؤلفتها الروائية المبدعة السيدة إنعام كجه جي التي تقيم بباريس .. وتعد إنعام ، واحدة من ابرز الكاتبات العراقيات اللواتي عرفناهن منذ زمن طويل .. لقد أحسست من دون أي سؤال ، إن مضمون ما تحتويه الرواية سيتركز في محوره عند عقدة التشظي بين جدّ عراقي وحفيدة أمريكية .. وخصوصا عبر أحداث تاريخية مريرة تتصادم فيها المعاني والأشياء .. وخصوصا بين جيلين متصارعين .. جيل عانى من أهوال الداخل ، وجيل عاني من تشظيات الخارج .. وكل من هذين الجيلين ، قد توزعت سايكلوجيته بين عالمين اثنين ، أو قل ، بين ثقافتين مضادتين .. ثقافة عراقية يتميز بها كل العراقيين .. وثقافة غربية غير متلاقية أبدا مع تلك الأولى .. إن الجيل الجديد الذي يريد لمّ شعثه اليوم ، قد تفرقت به السبل .. وغدا مغتربا حتى في دواخله أو مهاجره .. يعيش ازدواجيات متنوعة ، أو قل ثنائيات راسخة ، ويصل إلى أوج صراعاته ، عندما يتجاذب نفسه بين عراقيته وانتماءاته الجديدة .. انه يتعامل مع عالمين اثنين ، أو أكثر .. كل عالم يحاول أن يجذبه إليه .. وطن يعيش بكل خصبه وذاكراته وعمق أحاسيسه .. وأوطان اندمجوا فيها وفي ثقافاتها .. ولم يعد هناك أي مجال كي ينفصلوا عنها أبدا .. ثمة تمزّقات جديدة تفاقمت خروقاتها في السنوات الأخيرة ، بعد أن ضاعت الهوية العراقية لتستبدل بهويات لا أول لها ولا آخر ، منها بكيانات وهمية ، أو مكونات طائفية ، أو تشظيات قومية ، أو تمفصلات دينية .. أذكتها الهجمة الجديدة ، بعد أن نال العراق طويلا من هجمات متتالية على بنية المجتمع العراقي ، فتبلورت ركامات من التناقضات المهولة !
فحوى الرواية : صراع وطن بين جيلين عراقيين
هذه ، باختصار ، هي فلسفة حملتها حفيدة أمريكية ، تنتسب إلى جد عراقي متصلب بعراقيته .. إذ كانت له صرامته وعشقه لوطن عراقي ، بكل ما تعارف عليه ذلك ” الوطن ” من تنوعات .. وبين بيئة غربية أمريكية ، قدر للحفيدة أن تندمج فيها منذ أن كان عمرها 12 سنة .. إنها واحدة من ملايين الأحفاد العراقيين المنتمين لجيل جديد مزقته العهود الكئيبة .. إنها واحدة من جيل جالياتي عراقي مهجري يتوزع في شتات الأرض .. بلا أي تلاقح ثقافي ، ولا أي صلات وطنية ، ولا أي روابط اجتماعية .. جيل يجد أهله يعيشون حلم العودة ، ويمنون الرجوع إلى الأعشاش الأولى .. وهو لا ينفصم عن موروثه ، واكلاته ، وموسيقاه ، وأغنياته ، ولكنه بنفس الوقت ، يطمح أن يجد فرصته في الحياة الأمريكية ( أو : الغربية ) ليعيش كما يريد ، أو حتى ليصارع من اجل مصالحه الجديدة !
في خضم هذه ” الازدواجية ” بين عالمين اثنين ، أو قل ، بين حلم وذكريات وحنين وبين تكوين وثقافة ومصالح جديدة .. يسقط العراق بيد جيوش التحالف التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية عام 2003 ، ويسقط ذلك النظام الحديدي الذي كان سببا أساسيا في هجرة الآلاف المؤلفة من العراقيين إلى الشتات . كان اغلب العراقيين في المهاجر .. ينتظرون تلك اللحظة التاريخية التي يحلمون بها .. كانت بطلة الرواية زينة ، هي الحفيدة الأمريكية التي تتصادم مع العراق الذي وصلته من ديترويت كي تعمل مترجمة مع جيش الاحتلال منتقلة من تكريت إلى بغداد ، وهي تعيش في قصور فخمة خلفها النظام السابق .. إنها تجربتها مريرة في مخاض الصراع ، وتصل أوج العقدة عندما تقع بحب شاب من جماعة جيش المهدي ، وهي الأمريكية المسيحية ، ولكنها تكتشف صدفة أنها شقيقته بالرضاعة ! وهكذا، ثمة أوصاف لا يمكن أن تصدّق أبدا .. ربما التفت غيري من النقاد إليها . ولكي لا أحاول البقاء ضمن ” مضمون ” مفعم بالأحداث والمشاعر .. فإنني اختار الوقوف عند أشياء مثيرة، أجدها تستدعي طرح أسئلة كثيرة .. واعتقد أنها بحاجة إلى أجوبة واسعة، خصوصا ، وأننا الآن سنكون وجها لوجه لا مع الرواية نفسها ، بل مع صاحبتها .. وسنجد، ما الأفكار الجديدة التي تضمنتها الرواية ؟ ما التعابير والمصطلحات والمفاهيم التي أجد العراقيين بأمس الحاجة إلى معرفتها ! إن الحفيدة الأمريكية ، ليست رواية عادية .. إذ أنها تفصح عن مزيد من الأسئلة.
من حكم على العراق بالإعدام ؟
” مساكين أهل العراق، لن يصدقوا أعينهم متى ستنفتح على الحرية … أليس الأحفاد ، مساكين أيضا ، حين صدقّوا أن الحرية ستهّب على العراق ؟ ..
إن العراقيين انتظروا طويلا .. ولم يدركوا أن التاريخ لا يمكنه أن يتغير من دون جراحات .. وأنها جراحات لا يمكنها أن تلتئم ابدأ إن كان المخاض صعبا للغاية .. إن الأحفاد ، اعتقدوا أنهم سيجدون العراق جنات عدن تجري من تحتها الأنهار .. فصدموا جميعا ، وخصوصا أولئك الذين سارعوا بالعودة وأحبطوا نفسيا ، خصوصا بعد أن وجدوا إن السايكلوجيات العراقية في كل الوحدات الاجتماعية ، قد اختلفت اختلافا جذريا عما كانت عليه الروح العراقية قبل خمسين سنة !
دعونا نتوقف عند النص التالي : ” ورغم حماستي للحرب ، اكتشف إنني أتألم ألما من نوع غريب يصعب تعريفه ، هل أنا منافقة ، أميركية بوجهين ؟ أم عراقية في سبات مؤجل مثل الجواسيس النائمين المزروعين في ارض العدو من سنوات ، .. كنت انكمش وأنا أشاهد بغداد تقصف وترتفع فيها أعمدة الدخان بعد الغارات الأمريكية . كأنني أرى نفسي وأنا احرق شعري بولاعة سجائر أمي ، أو أخز جلدي بمقص أظافري ، أو اصفع خدي الأيسر بكفّي اليمني ” ( ص 23 ) .
هذا تصوير رائع لثنائية الصراع الذي يعيشه الأحفاد ليس بين ثقافتين اثنتين ، بل بين نزعتي انتماء .. ومهما كانت النتائج ، فالحفيدة هنا ، لا يمكنها أن تمكث في العراق ، وهي التي أحست أنها تساهم في طعن نفسها ، وهو يحترق على أيدي القاصفين الذين لا تعرف من حكم على العراق بالإعدام !
ونستطرد متأملين أقسى حالات التاريخ .. ” صارت بغداد مشاعا لأهلها ، والعراق بلا وال ” ( ص 24 ) .. نسأل : لماذا ؟ لماذا صناعة تلك الفوضى ؟ ولماذا خلق ذاك النهب ؟ لماذا جعلوا العراق بلا أي كنترول ، أو جهاز سيطرة ؟ إن الإعراس التي عاشها بعض العراقيين قابلتها أحزان ومآتم عند بعض آخر منهم .. أناس فرحون بسقوط الطاغية ونظامه القاسي ، وأناس حزنوا على احتراق ما تبقى من العراق .. انه مشهد مجنون ، كان ولم يزل التاريخ يسجله بأحرف عريضة جدا .
إنعام كجه جي
الحفيدة الأمريكية تواجه حقيقة وطن اسمه العراق : معّممون أصابتهم الهستيريا .. عراقيون جدد كرهوا العروبة .. عاشقون لأمريكا .. يساريون ضيعتهم بوصلة موسكو .. ممثلون نزقون مغرورون .. منافقون سرعان ما انقلبوا على أعقابهم بعد أن رقصوا طويلا للجلاد .. آخرون يصلحون لتمثيل فلم عنوانه ” مال شغل بالسوق .. نسوة محجبات ويلفهن السواد .. رجال بشوارب لينينية .. شباب برؤوس حليقة على طريقة مغني الراب .. ( ص 26 ) .
إن الحفيدة الأمريكية تشعر بالانسحاق الوطني ( ص 29 ) وهي تطلب السماح عند سماعها النشيد الوطني الأمريكي على ارض وطنها الأم العراق ! يتنازعها صراع من نوع نادر بين ولائين اثنين : الولاء للأصالة ولأهلها ، والولاء للأرض الجديدة التي أقسمت أنها ستدافع عنها ! تقول : ” عندما وضعت قدمي اليمنى على درج الباص العسكري نحو طائرة مدنية نحو العراق .. في تلك اللحظة ، فقط ، أدركت أنني قد طويت عمري الماضي كله .. وحياتي لن تكون ، بعد الآن ، مثلما فات .. ” ( ص 31 ) وتعقب قائلة : ” ذاهبون لننام في حضن الموت ، ونتغطى بأكفاننا ” ( ص 32 ) . وتعيش الحفيدة الأمريكية مأساة وطن بين ثنائيتين أخرويين : ” الجهاد للحفاظ على الأنوثة ، أنت أما جندي أو جارية ( ص 32 ) ، أو تعبر عن ثنائية أخرى مصورة لها بقولها : ” تراني المؤلفة ربيبة الاحتلال ، وترى جدتي من نفائس المقاومة ” ( ص 35 ) .. أو يصل التباين إلى ذروة الوضوح في : ” أنا مجدلية خاطئة وشابة ترجم بالحجارة ، وجدتي عذراء في الثمانين تحبل بلا دنس ” ( ص 35 ) .. ويتفاقم الصراع في : ” أن تجعل مني الشخصية الشريرة الملعونة ، ومن جدتي بطلة طيبة وشجاعة ” ( ص 35 ) .
العراق ليس عملة ورقية متهرئة !!
إن البطلة لا تجد مجالا إلا إدانة مؤلفتها التي وجدت فيها مادة لرواية وطنية .. إنها تلتصق بجدتها من ملاحقة المؤلفة لها .. إنها تجد في جدتها الحكمة .. وتقول عنها : إنها ” وبالتأكيد هي لن ترضى أن تضع وطنيتها في عهدة كاتبة مسختها أزمنة الانقلابات الثورية والأحزاب القومية وجعلت منها بوقا من ورق .. كلا لن ادع جدّتي تمنحها تاريخ جدي .. يا الهي كم نتقاطع ، أنا وذلك التاريخ ، وكم نختلف ! ، لكنه تاريخي من قبل أن أولد ، وأنا سليلته وصاحبة الحق فيه ، مهما بدوت غريبة عنه وناكرة له ” . وتصل ذروة في الصراع بين الذات والموضوع ، بين الحاضر والتاريخ كي تقول : ” فهل تظن تلك الكاتبة الغشيمة أنني سأتخلى لها عن ارثي ، حتى ولو كان وطنية مهلهلة لم تعد تنفع في شيء … عملة جرى تسقيطها من زمان ؟ ” ( ص 36-37 ) .. هذه قفلة ليست غريبة على من يعيش من الأحفاد في الشتات .. ولكنها في عداد المحرمات في تفكير الملتصقين بالعراق ، والذين يجدونه أعظم ما في الوجود .. إن العراق ليس عملة ورقية ، أو معدنية يمكن تسقيطها ـ في نظرهم ـ .. إنها صاحبة رؤية واقعية ، وهم ما زالوا يسبحون في الخيال !
لعل أقوى تعبير ورد في الرواية هو هذا الذي يتقاطع فيها الزمن ، والأجيال الجديدة مع التاريخ .. قسم ينكره لأنه تربّى على كراهيته ، وقسم يشمئز منه لأنه يضارعه بالحاضر الأمريكي ! ويبقى آخرون لا يعرفون الا تمجيده كونهم حفدته الحقيقيون ! وهذا هو سر تباين المكونات العراقية الكبرى الثلاث التي لعبت الإيديولوجية الأمريكية عليهم ! عندما يقرأ أي عراقي حقيقي هذا النص ، سيخرج بانطباع صارم يقول للعالم كله بأن العراق ليس عملة ورقية متهرئة ، أو انه قطعة معدنية صدئة يمكن إسقاطها !
نشرت على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
( انتظر الحلقة الثانية من الدراسة )