Home / ابحاث ودراسات / الجغرافية الثقافية للعراق الحديث

الجغرافية الثقافية للعراق الحديث

نص تحريري موسّع للمحاضرة الشفوية التي القاها الاستاذ الدكتور سيّار الجميل
في الجمعية العراقية الكندية بتورنتو / كندا امسية يوم الاحد 27 تموز / يوليو 2008

المحور الاول
المقدمات : اهمية الموضوع .. المنهج وفلسفة المعاني

ايها الاصدقاء
اسعدتم مساء ، وأشكر لكم حضوركم هذه ” المحاضرة ” ، كما اشكر الاخ الشاعر كريم شعلان على تقديمه لي وكلامه الجميل عّني الذي لا استحقه .. واشكر الجمعية العراقية الكندية بمدينة تورنتو استضافتها لي ، كما اشكر حضوركم ودعوني اختزل موضوع هذه الامسية في ثلاثة محاور : محور في فلسفة المعنى والتعريف وأهمية الموضوع ، ومحور في المضمون والتطبيق من خلال عرض جملة من المصورات والخرائط والاشكال العراقية ، ومحور خلاصة الاستنتاجات والرؤية الجديدة من اجل تطوير المجال الحيوي للعراق ثقافيا وانسانيا حضاريا .

الموضوع : الاهمية والاهداف
انني اذ اقدم هذا ” الموضوع ” الذي لا يمكنه ان يقدم في محاضرة ، بل انه ، كما يبدو ، عنوان كتاب كبير او مشروع جماعي ، فأنني اتمنى ان اقدم في هذا المساء الجميل : مجموعة أفكار جديدة حول موضوع نحن بأمس الحاجة اليه ، وخصوصا في العراق الذي يتميز بخصوصياته الجغرافية طبيعية كانت ام بشرية ام سياسية .. فكيف اذا كانت ثقافية ، وهو يستقطب من خلال تنوعاته الاجتماعية عدة الوان من الثقافات المتنوعة التي يمتد عمق بعضها الى الاف السنين ، حتى على مستوى اللهجات المستخدمة.. مقارنة بكل الانتهاكات التاريخية التي تعّرض لها العراق عبر مئات السنين ، وتأثيرها على كل بنيوياته الاجتماعية التي عبرّت عنها ثقافيا على كل الرقعة الجغرافية العراقية .
أن الموضوع حديث لا يتجاوز عمره العقد الواحد من الزمن ، بدأ في جامعة كولارادو ، ولم تزل تصدر حوليتها بالعنوان نفسه ” الجغرافية الثقافية ” ، اذ عالجت في اعدادها الصادرة حتى الان العديد من المفاهيم والاساليب المنهجية في دراسة هذا ” الموضوع ” ليس في امريكا وحدها ، بل في كل البيئات المزدحمة بالثقافات من هذا العالم . ولهذا فالمحاضرة هذه ، هي محاولة او مدخل ليس فيه تفاصيل واسعة ، ولكنها تعد مدخلا او مفتتحا لدراسة هذا الموضوع عراقيا . نعم ، لما كان العراق موضوعا مهما ، وهو سلسلة واسعة جداً من بيئات متنوعة في جغرافياتها التاريخية ، ولما بدأ العالم يهتم بالثقافة الموجودة في أي مكان من العراق ، فينبغي العناية بحياة جغرافيته الثقافية . ان اسلوب الحياة عند العراقيين يختلف من مكان إلى آخر ، كما ان البحث يراقب الحركة الانسانية والخطاب ( = مقول القول ) ووسائل التعبير وإختلاف الأزياء ، واللغة المستخدمة ، وإختلاف اللهجات ، والأفكار ، والنّخب ، ودور الطبيعة والتضاريس ، لذلك فان العراق هو من احوج بلدان الشرق الاوسط للدراسة والبحث المقارن . ربما نسمع صورة مشوهة عن العراقيين ، ولكن تبقى الآراء تختلف حول الكثير من الأمور الحياتية : حول الموسيقى والغناء ،ولكل عراقي له ثقافة بيئية مختلفة ، وهذا لا ينسحب على النّخب المثقفة فقط .

فلسفة المعاني .. الاهمية
1. العائلة الجغرافية
ان الجغرافية الثقافية تنتمي الى عائلة العلوم الاجتماعية ، ولكنها علم جديد لم يمض على تطوره الا سنوات قليلة ، ولعل اشهر مدرسة منهاجية تثري موضوعاته هي الكائنة بجامعة كلورادو والتي تصدر مجلتها الفصلية العلمية المعروفة باسم الجغرافية الثقافية ، فضلا عن اهتمامات بعض خبراء اليونسكو بهذا الموضوع الحيوي ، كما وصدرت في اماكن عدة من هذا العالم عدة عناوين لمضامين واسعة ومهمة جدا . ان الجغرافيات انواع : طبيعية وبشرية واقتصادية وسكانية وادارية .. ولكن الثقافية هي التي تعتني بثقافة الانسان والمجموع معا ، ومدى تأثير كل من المكان وعناصره في تكوين تلك ” الثقافة ” ومجال حركتها وحيويتها .
2. المضامين
ان الثقافة في حد ذاتها ، موضوع مثير جدا ، وتتذرع بمفاهيم تعبّر عن حقائق تاريخية وواقعية متنوعة من الحياة في اطار المجتمع الانساني ، وكسب العيش ، وأنماط المعيشة ، والكلام ، والتسلية ، والضرورات المستهلكه ، والأكل والفولكلور والازياء ، فضلا عن الحكايا ومواريث الرواية والتعبير الشعبي والموسيقى والغناء واماكن التلاقي الاجتماعي وطقوس الاعياد والمناسبات .. الخ . ولعل اهم من هذا كله وذاك ، الخطاب ومقول قول الانسان وتعبيراته عن واقعه واماله وطموحاته وتطلعاته وحبه وكراهيته وفشله ونجاحه ثم التعبير عن انتصاره وهزيمته .. علاقته مع تفسه والاخر ، المرأة والرجل والطفل .. استقراره وهجرته .. حضريته ام ريفيته ام بداوته . وهنا ، يمكننا ، بطبيعة الحال ، ان ننقب اعمق لفهم ‘كيف’ و ‘لماذا’ ؟ باختصار : انه عمليه استقصاء ممتع عن اسلوب حياة اي مجتمع من المجتمعات ، والتعرف على عوامل تكوين الثقافة في جغرافية معينة .
3. الثقافة : قضية اشكالية عربية
الثقافة ، قضية اشكالية في رؤيتنا العربية لها ، وكما فسرتها في اكثر من مكان ، انها Culture في معرفة ثقافة ( او : ثقافات ) اي مجتمع من المجتمعات . وهي Education لأي مجموعة اجتماعية تمر بمرحلة التكوين ، حتى تصل مرتبة النخب المنتجة المبدعة Intellectual Elites وهي التي تؤلف المشهد الثقافي لأي بلد في هذا العالم .. انها المعبرة عن روح العلاقات الاجتماعية ، والسياسية ، والاقتصادية ودوافعها ، والتي تؤدي بالنتيجة الى انتاج الثقافات ، او اعادة انتاج الثقافات ناهيكم عن حجم ما تقدمه من ابداعات ثقافية سواء على المستوى المحلي ام الوطني ام العالمي .
4. مفهوم التباينات والموضوعات العراقية
ان مهمة الجغرافية الثقافية ليس التنظير لواقع ثقافي قي بيئة معينة او مجموعة بيئات ، بل يتجاوز كّل من ينظّر ويفكّر فيها محاولة وصف ، او ‘مجرد وصف’ الناس والاماكن الغريبه ، لتحليل الواقع ، بل التغلغل لاجراء التطبيقات والمقارنات والتساؤل من خلال ‘لماذا’ و ‘كيف’ تمنح الثقافة منحى انساني مجرد من كل العنعنات والصراعات الداخلية المتوارثة والمتوالدة . فعلى سبيل المثال ، كيف يمكننا ان ندرس في وقت مبكر اشكال الثقافات التي تنتجها اوضاع المدن التجارية او جوانب الحياة الزراعية الريفية في المجتمع العراقي ؟ ولماذا تباينت الثقافات المحلية تبعا لطبيعة جغرافية اي بيئة حضرية او قبلية ؟ وما تأثير ضفاف الانهار او اعماق الاهوار ، او بيئات الجبال او الاستبس او السهول ؟ ما دور المدن واشكالها القديمة سواء بيئتها داخل الاسوار ام خارج الاسوار ؟ ماذا يكمن وراء الهجرة من الريف والبادية الى اطراف المدن ؟ ما شخصية دجلة الثقافية المتحركة مقارنة بشخصية الفرات الهادئة ؟ ما تأثير السدود والري والجسور على الحركة الثقافية ؟ ما تأثير سكة حديد برلين بغداد البصرة ( بي بي بي ) وسكة حديد بغداد ـ كركوك ومحطاتهما على الطريق الجديد بعد زوال الطريق السلطاني العراقي البري القديم ( شرق دجلة ( بغداد ـ بعقوبة ـ كركوك ـ اربل ـ الموصل ـ آمد نحو استانبول ) ، والمسلك النهري لدجلة وغياب الاكلاك والقفف النهرية ؟ ما تأثير المصانع الجديدة على غياب الحرف القديمة والاصناف الصناعية القديمة وبداية تشكيل النقابات العمالية ؟ وما دور الحركة العمالية ؟ ما تأثير الادارة والادارة المحلية على تنقلات الموظفين عبر ارجاء العراق ؟ ما دور المؤسسة العسكرية في التلاقح الاجتماعي ؟ ما دور الكهرباء والاضوية والشوارع واشكال الحياة الحديثة في الهجرة من الريف الى المدينة حيث الاسواق والشوارع والمطاعم والسينماوات والكابريهات ؟ وصولا الى الادوار السياسية والاحزاب والتجمعات والكليات والحركة الطلابية ، وآثارها كلها في متغيرات الانماط والتقاليد في الجغرافية الثقافية العراقية ؟ ما دور الشركات الاجنبية والوطنية ايضا ، وخصوصا شركات النفط في كل من كركوك والبصرة وعين زاله ؟ ان الجغرافية الثقافية ينبغي ان تستخدم فكرة كارل ماركس المسماة ‘نمط انتاج’ . وكيف يمكننا ان نفهم ما ‘قيمة’ الانتاج العراقي ،وتبيان طبيعة علاقات الانتاج العراقية ، او بالاحرى ‘قيمة’ يتم انتاجها في مختلف البيئات العراقية المتنوعة بكل تناقضاتها بدءا بالقبيلة والعشيرة التي تحكم كل من الريف والبادية العراقيتين ، ومرورا بالبلدات والقصبات البلدية الصغيرة وانتهاء بالمدن التي تكتظ بالاسر والعوائل التي تؤلف نسيج المجتمع الحضري بكل مستوياته المتباينة المتنافسة لا بطبقاته الاجتماعية المتصارعة ، مع نمو البورجوازية فيها وتعاظم المستويات لطبقة متوسطة مستحدثة مع تسارع نمو لدولة شبه رأسمالية.
5. منهج العمل
ان المنهج الذي يمكن الارتكاز عليه في دراسة موضوع الجغرافية الثقافية ، يقوم بتحليل الكيفيه التي تمنح مجتمعنا العراقي الذي كان يتصف بتسارع التحولات الاجتماعية فيه ، كي يغدو مجتمعا حديثا اعتمادا على عوامل عدة لا تحددها المستهلكات ولا الشعارات السياسية ، بقدر ما تحددها المنتجات ونمط الانتاج وعلاقات الانتاج .. وصولا الى قوة الحياة الثقافية . اننا امام تعقيدات غاية في الخصوبة العراقية لمجموعة العادات والتقاليد المتغيرة ، والاندفاع للتعبير عن الواقع عراقيا بالاغاني والاشعار والموسيقى والامثال والازجال والقراءات والتجمعات في احتفالات ومنتديات او مقاهي او مدارس وفتوة وكشافة .. الخ علينا ان نفهم كيف نصنّف الناس في علاقاتهم في ما بينهم ، وعلاقاتهم بـ ‘الآخرين’. علينا ان ندرك طبيعة المرأة العراقية وقدراتها وساعات عملها وانتاجها في كل بيئة وما تتصف به من سمات انسانية .. علينا ان ندرك ذكاء الطفل العراقي ومزعجاته وفجاجة حركاته نتيجة فرط شيطنته وكثرة اسئلته ودلاعته او وكاحته ..
في هذا البحث لدينا مجموعة المصالح الرئيسية تكمن في الثقافة وفي الديموغرافيا. الثقافة الجغرافيين لأن المهم ، في دراسة التنوع وصلات ، وقضايا معنى ، والاتصال ، وتفسير تأتي في المقام الاول. الديموغرافيا من المهم أن الجغرافيين لان السكان هم الجوهر المادي للمجتمع. وينصب تركيزنا على ما يلي : سوف لا نخوض في اية مساءلة عن السلطة ، ولكن سنعالج المعرفه ومقاربة للهوية العراقية ، مع الابتعاد عن التركيز على التنوع وصلات بالنسبة لأوجه عدم المساواة والمكانيه في دراسة علاقات القوى المشاركة في الشبكات من المعرفه ، فضلا عن تفاصيل فضاءات التخيلات الجغرافي في قلب الهوية الوطنية .. واتمنى على من سيعالج موضوع الجغرافية الثقافية للعراق الحديث ان يحلل الزخرف المكاني للمرض والوفيات على الرقعة العراقية مع تأثير السياسات والايديولوجيات في مسائل الصحة والسكان والحركة الاجتماعية وتأثير ذلك كله على قوة الثقافة العراقية وتمفصلها ديمغرافيا وجغرافيا .. وايلاء الاهتمام لنظم الاسرة العراقية .. المرأة والطفل فضلا عن القوى الفاعلة في المجتمع : التجار والفلاحون .. الموظفون والعمال .. المبدعون والاشقياء .. العسكريون والسياسة .. السلطويون والايديولوجيات التي شكلت تأثيرا مباغتا احيانا وطويلا احيانا لكل قسمات المجتمع في جميع انحاء العراق.

6. العراقيون : كيف يفهم بعضهم بعضا ؟
علينا ان ندرك الفجوات الجغرافية التي تفصل كل ثقافة عن ثقافة اخرى ، فمن الصعب ـ مثلا ـ على ابن الاهوار في الجنوب ان يتعرف على ابن البلدات المسيحية او القرى اليزيدية في الشمال او العكس .. ثم نفرض التساؤلات عن الارادة الثقافية العراقية التي عاشت بعيدا عن مثقفي السلطة .. حرة مستقلة تطالب بحقوق الانسان كما كانت تبثه وسائل الاعلام وانتشار مبادئ الاعلان العالمي لاستخدام ” الثقافة ” بوصفها أداة لم يصلها واقع العراق حتى الان لما بعد الحداثة ، وكان مؤملا ان يندفع المثقفون العراقيون الحقيقيون للوصول الى ذلك لولا الانتكاسات والهزائم السياسية المريرة التي اودت بالعراق والعراقيين كلهم ودخول العراق في غيبوبة تاريخية طويلة كان العراقي المنتج والمبدع والمثقف ولم يزل حتى اليوم مهمشا مقصيا ، وخصما لدودا ، الا من سار في ركاب السلطة او تعّلق باذيالها .. لقد خسر العراق طاقات كبيرة جراء ممارسة التهجين بسيطرة السلطة على مقاليد الثقافة لتغدو احادية ومؤدلجة .. وبدت تعاني من الصراع والعنف — ثقافة مغالبة ومنغلقة على التوحش او الخوف او الممالئة والقيود الثقيلة .. لقد غدت التناقضات تأكل حياة العراق في كل جغرافياته وبيئاته .. وبدا المثقف العراقي نتيجة لذاك الوضع ، رخا ، ومهمشا ، او مداهنا ، وخائرا !
7. التشظي والهجرة والانقسامات
ونحن سوف لا ننقب عن نظريات وامثلة عن كيفية تشظي الثقافة العراقية وغلبة الفوضى عليها من خلال ركام التناقضات التي حشدتها في احشائها .. ولقد ساعد في ذلك هجرة العراقيين افواجا الى خارج العراق بفعل العنف السياسي والاجتماعي معا . وأخيرا ، فإننا سوف نتعلم عن منتج مختلف الحركات الاجتماعية ، والتي بدت تسبّح ليل نهار بالثقافة القومية والشعارات المخيالية التي لا علاقة لها بالواقع ابدا ، وتستخدم بشكل متزايد كل الوسائل للتأكيد على الهوية العربية والثقافة القومية مما سبب ردود فعل عنيفة ومكبوتة لدى القوميات والاطياف العراقية المختلفة . ان الجغرافية الثقافية تقوم اساسا على استخلاص الادوات المفاهيميه لكل ما في العراق من ثقافات متنوعة ندعو كل المختصين والعلماء العراقيين الاهتمام بها ، وفهمها ، وتحليلها ، وشرح مضامينها والبحث عن الجوانب الانسانية فيها ، وان لا نعتبرها مجرد وصف لظواهر ثقافية معينة ليس لنا فيها الا التنظير بعيدا عن اية تطبيقات عملية ، وهدفنا تمكين الاجيال القادمة من فهم واقع الحياة العراقية وادراك سايكلوجية العراقيين الخاصة .
قفلة المحور الاول
ان الموضوعات التي ساتطرق الى معالجتها في المحور القادم ـ مثلا ـ ، ستكون مفهومة من خلال منظور جغرافي ، حيث الفضاء والمكان ..واستعين بالخرائط والرسوم التي سنراها معا كي نحللها واحدة بعد الاخرى . انني لا استطيع ان اغطّي كل متطلبات المنهج لاتساع المضامين في الجغرافية الثقافية للعراق الحديث ، ومنها على سبيل المثال لا الحصر ( لتحديد موضوعات يستفاد منها الباحثون مستقبلا ) : دراسة البلدات والقصبات والمدن العراقية وتحديد ثقافاتها قاطبة ، واين يكمن بروز المثقفين والتجمعات والنخب .. ؟ وما تأثير كل من المجتمع الرعوي ، والمجتمع الزراعي ، والمجتمع الحرفي ، ثم الغرف التجارية ، والمسالك ، والطرقات ، والمحطات ، والاسواق ، والجمارك ، والشركات ، والنقابات ، والاصناف ؟ ايضا : ما طبيعة الاغذية ، والملابس ، والازياء ، والموسيقى ، والهندسه المعماريه ، والتقاليد ، والاديان ، واللغات ، واللهجات ، والطقوس ، والعادات ، والتقاليد ، والعلاقات ، والشراكة .. الخ ؟ ما الفرق بين مجتمعات دجلة المحلية عن مجتمعات الفرات المحلية ؟ ما طبيعة العشائر العربية والكردية والتركمانية وغيرها .. ؟ واخيرا ، ما موقع العراق في الجغرافية الثقافية للعالم ، عندما نعلم بأن هناك في العالم حوالى 200 دولة مختلفة واكثر من 6000 من لغات متميزه. واللغة ، كما هو معروف ، هي الاساس في التكوين الثقافي ، ثم اخيرا موقع الثقافات العراقية ازاء ما يقرب من 6000 من ثقافات العالم المختلفة ايضا في افريقيا واسيا واوروبا والامريكتين واوقيانوسيا.

المحور الثاني
المضامين الاساسية

ننتقل الان الى المحور الثاني الذي نعالج فيه بعض المضامين الاساسية ، معتمدين المنهج الذي رسمناه آنفا في بناء صورة واضحة عن المكونات البيئية والجغرافية في الحياة الثقافية العراقية الحديثة التي ألفناها في القرن العشرين ، وسترافقنا هنا مجموعة من الخرائط والرسوم التي ستجدونها معروضة امامكم على الشاشة من خلال الباور بوينت :
1. بقايا ثقافات كلاسيكية
يمكننا استنباط بعض الرؤى والافكار من خلال التأمل طويلا ليس في خارطة العراق الحديث ، وانما في العقلية التي بلورتها جغرافية العراق الحديث ، وما انتجته عبر قرنين من الزمن خصوصا ، ونحن نعلم ، بأن العراق قد اقتطعت منه بعض المناطق والاقاليم اذا ما قارنا بنيته الجغرافية التي خلقتها طبيعته الجغرافية منذ آلاف السنين .. ولكن اذا كانت الحضارات الكلاسيكية العراقية التي عاشت خلال العصور الكلاسيكية قد اندثرت اليوم ، فان بقايا ثقافات عراقية لم تزل آثارها تتوزعها العديد من المناطق العراقية اليوم ، ويتداولها أناس يتوزعون في مجموعات معينة ، وايضا لم تزل تتوارثها منذ ازمان قديمة ، وهي ملتصقة بارضها في اماكن عدة من العراق اليوم . واذا كان هناك أي دفع باتجاه تقسيم العراق الى كيانات سياسية قزمية متعددة ، فان جغرافيته تأبى الا ان تبقى موحّدة بفعل عواملها القوية التي ترتبط واحدتها بالاخرى ، وخصوصا وثاق الرافدين دجلة والفرات .
2. التنوعات تخلق الخصوصيات
ان التنوعات الجغرافية قد انتجت الوانا من الثقافات العديدة في كل جزء من اجزاء العراق الجغرافية لا الادارية او الاقليمية ،بالرغم من اعترافنا ان ثمة ثقافات محلية تمتاز بها كل مدينة او حاضرة عراقية ، وقد استقطبت نوعا من ثقافة محلية لتقسيماتها الادارية التي توارثتها منذ تأسيس الدولة العراقية في القرن العشرين على ايدي البريطانيين . ولقد كانت ثقافات العراق محلية بالوان الطيف في كل من ولايات الموصل وبغداد والبصرة ، ومن ثم انبثاق شهرزور الملحقة تارة بالموصل وتارة ببغداد .. ولكن المحليات اخذت بعدا وطنيا بولادة 14 لواءا على العهد الملكي ، ومن ثم 18 محافظة على العهد الجمهوري . ولنا ان ندرك طبيعة تنوع الثقافات المحلية في كل اقليم من اقاليم العراق الثلاثة الادارية ، ومن ثم تمفصلها الى تجزئة ثقافات اصغر ليست مجهرية ، بل يمكن رصد طبيعة كل واحدة منها حسب البيئة التي عاشت فيها ، ومن يمثلها من الناس الذين قد تكون لهم خصوصياتهم حسب البيئة التي نشأوا فيها .. ويمكننا القول ، ان معرفة مجهرياتها حتى وان كانت في اي قرية قصيّة ، او هور فسيح الاعماق ، او في اعلى الجبال ، او في امتداد البوادي والصحراوات .. الخ ان ثقافات العراق المحلية والجهوية بكل ما تتلّون به من الوان المدن او البلدات او القصبات او النواحي او القرى او ضفاف الانهار او جزرات الاهوار او عند البحر او مناطق السهوب .. ان التنوعات العراقية في الجغرافية تخلق خصوصيات ثقافية متعددة ..
3. التباينات الهائلة
هي متباينة على اشد ما يكون التباين ، خصوصا اذا راقبنا علاقات الانسان بالارض ومدى تأثيرها عليه ، وعلى عاداته وتقاليده وفولكلورياته في الاشكال التي نألفها ، او التي كنا قد الفناها .. ولكن ثمة مضامين داخلية تحدد البيئة والجغرافية طبيعة اي انسان ازاء العالم .. ان التنوع الثقافي في العراق يعكس ثقافات قديمة دينية ودنيوية ، حضرية وريفية وبدوية ، عربية وكردية وتركمانية ، زراعية وحرفية مهنية وتجارية .. الخ ونلمح تنوعات غاية في خصب الفولكلوريات ، وتنوع اللغات واللهجات والعاميات المستعملة في اي شبر من مدينة عراقية هي متحف شعبي . ويكاد يكون شمال العراق صاحب ثقافات متنوعة متعددة ، لكل منها الوان مختلفة عن ثقافات الجنوب العراقي .. لا يمكن التمكّن من تلك ” الاختلافات ” بسهولة ابدا ، وتنتشر في جغرافية العراق عدة مدن كبيرة ، لكل واحدة منها ثقافتها الخاصة بها ، وهي كلها مراكز حقيقية لثقافات ربما تكون غير متشابهة على الاطلاق . ولكن ؟
4. الانساق العمودية للعراق : نظرية في الثقافة
1/ التعريف بالانساق
يمكننا القول ان ثقافات شمال العراق ووسط العراق وجنوب العراق لا تستقيم والنظرية التي اراها على نحو مختلف تماما ، تلك التي عالجتها قبل سنوات ، اذ قلت : بالثقافات الافقية العراقية والتي اختزلتها بعالم شرق دجلة اولا ، وعالم ما بين النهرين دجلة والفرات ثانيا ، وعالم غربي الفرات ثالثا .. انها جميعا تشكّل بنية الثقافة العراقية . ان هذه التقسيمات الجغرافية هي ثقافية ، وليس لها اية علاقة بالتقسيمات الطائفية والعرقية التي يعتمدها بعض العراقيين اليوم اجندة لتقسيم العراق ، وجعله اشلاء سياسية .
2/ افتقاد التجانس الثقافي
ان بنية الثقافة العراقية تختزن في داخلها تنوعات فاعلة تعمل على الارض وهي متعايشة برغم انعدام تجانساتها .. ان الانساق الثقافية العراقية غير متجانسة ابدا ، ولكنها مترابطة مع بعضها البعض ترابطا عضويا ولا يمكنها ان تنفصم ابدا ، فالنسق – اي نسق – لا يمكنه ان يحيا لوحده من دون ترابطه بالنسق الاخر . دعونا نتوقف قليلا عند الانساق المتباعدة اذ اجد ثمة افتراقات واسعة داخل بنية المجتمع العراقي كانت سببا اساسيا في انتاج تناقضاته التي لا تنضب ابدا ، وهي بحاجة الى سياسات مجّردة من كل ميول او اتجاهات .. من كل ما يتعلّق بتعاطف قبلي او بيئي او جهوي ..
3/ الثلاثية بديلا للثنائية مرة اخرى
لنعترف ان ليس هناك اية انسجامات ثقافية بين ثقافات المدن والريف والبادية ( واذا كان الراحل الكبير علي الوردي قد اعتمد في نظريته العراقية على ثنائية البداوة والحضر متأثرا بابن خلدون قبل اكثر من ستة قرون ، فأنني اعتمدت في الابعاد الثلاثية في نظريتي العراقية : المدينة والريف والبادية .. وقد وافقني الراحل الوردي قبل رحيله على ما فكرت وكتبت ) . من طرف آخر ، ينبغي ان نعترف ان ليس هناك انسجامات بين ثقافة عرب الشمال عن عرب الجنوب وبين ثقافة ابناء الجزيرة الفراتية عن ابناء الفرات الاعلى عن ابناء الفرات الاوسط عن ابناء الجنوب .. بل لنعترف –ان اسرار قوة الثقافة العراقية في الوانها ومصادرها وطبيعة تكويناتها ومنتجاتها لاجزاء جغرافية طولية ثقافة شرق دجلة اللواحقية التعددية وثقافة ما بين النهرين الاساسية والمختلطة وثقافة غرب الفرات البدوية .
4/ انسجام الاساليب
لنعترف بأن ليس هناك انسجامات ثقافية في اسلوب حياة العراقيين بين ثقافة المسيحيين العراقيين الارامية الكلدانية ام السريانية ام اليعقوبية ام الاثورية .. وثمة ثنائية ثقافية للاكراد السورانيين والاكراد البهدينانيين .. وتباين واضح عن ثقافة الكرد الفويليين المتنوعة .. ثمة ازدواجية بين ثقافة التركمان المدينية والقروية ، او تركمان شرق دجلة عن تركمان غرب دجلة .. وهناك ثقافة الصابئة العراقيين النهرية العريقة التي تختلف عن ثقافة اليهود العراقيين القديمة .. هناك ثقافة اليزيديين المغلقة سواء كانت شرق دجلة ام في غربه .. عن ثقافة الشبك المتشابكة بين الثقافات المحلية عن خصوصية ثقافة الارمن الاقلية العراقية .
5/ خصوصيات المدن الكبيرة
لنعترف بالوان الثقافات المحلية والجهوية والهامشية .. ثقافة البغداديين الملونة بشتى الالوان وثقافة البصرة الجنوبية التي تمثّل رأس الخليج ، وثقافة الموصليين بخصوصيتها الجامعة للاطياف ، وثقافة محليات الكركوكيين والنجفيين والكربلائيين واهل الحلة واهل الناصرية واهل الكوت وديالى والدليم .. ثقافة اهل الجبل وثقافة اهل الهور ( = المعدان ) وثقافة العشائر وثقافة القبائل وثقافة القرويين وثقافة البادية وثقافة مدن الفرات الاعلى وثقافة قرى دجلة الاوسط .. الخ وكل هذه الثقافات التي يتمثلها ( اهل الخارج ) في عرف ابناء المدن .. تصبح هجينة وسط خصوصيات المدن الكبرى .. وما يمضي جيل او اكثر حتى تندمج مع ثقافات المدن التي تشوّهت كثيرا في السنوات الخمسين الاخيرة .

5. تفاصيل الانساق العمودية :
أولا: ثقافات شرق دجلة : التعددية اللواحقية
ان ثقافات شرقي دجلة ومحلياتها المتنوعة بكل ما تجمعه من قرى ونواحي واقضية والوية وقصبات وصولا الى محافظات العهد الجمهوري الاخير ، تكاد تكون متنوعة ومتباينة بين مكان وآخر ليس بطبيعتها بين الجبال والوهاد هذه المرة ، بل بين علاقات الانسان بالارض ومدى تأثيرها عليه ، وعلى عاداته وتقاليده وفولكلورياته .. وهذا ما نجده في جبال كردستان العراق التي كانت تسّمى بديار الاكراد واهم مراكزها الثقافية : العمادية وبامرني وماوران والسليمانية واربيل وقد تميزت بحياتها الثقافية وكل توابعها من كردستان العراق ، وبرز فيها العديد من الادباء والعلماء ، كما ونشطت في تلك المراكز العلاقات مع مدارس وتكايا مدن العراق ، واشتهر الاكراد العراقيون بطرقهم الصوفية المتعددة في اغلب مدنهم ، واشهر الطرق هي النقشبندية كما ويشهد تاريخ العلاقات بين الاكراد والعرب والتركمان خصوصا على امتداد التاريخ الحديث صفاء ومودة ومحبة ونشاطا مشتركا وحيوية فائقة لا يمكن ان ينكرها احد .. كما وان حياة الاكراد كانت متصلة اتصالا عضويا ببقية المدن القريبة منهم وسكان تلك المدن ، فضلا عن تقاليد ثقافية يختص بها الاكراد بكل تنوعاتهم الجغرافية واللغوية .. وفي سهول اربيل ونينوى وحويجة كركوك حيث تنتشر الثقافات السريانية ( = الارامية ) الآثورية والكلدانية والكردية والشبكية واليزيدية والجرجرية .. نزولا الى اراضي كركوك ولواحقها التركمانية ، اذ تأتي ثقافة التركمان العراقيين المتميزة بنكهة خاصة وخصوصيات موروثة منذ اكثر من الف سنة وهي اكثر اتصالا ببغداد بحكم انتقال الناس واستقرارهم فيها قبل ان تكون رئة للاكراد ايضا ، واذا كان وجود الاكراد ببغداد لاسباب اقتصادية وتجارية ، فاغ وجود التركمان فيها لاسباب تاريخية وثقافية بحتة .. وصولا الى خانقين وبعقوبة حيث اللور الفويلية ومجموعات من البختياريين والهمدانيين .. ومرورا بالكوت وعشائر ربيعة وانتهاء بالصابئة المندائيين والمعدان مع قبائل عربية متوطنة منذ القدم وقد تعايش الجميع ضمن مشتركات لا حدود لها ، او ضمن احترام خصوصيات الاخر.. هذا العالم يجمع كل المزدوجات الدينية والدنيوية .. والحضر والريف ، مع بدو عرب واكراد ، مع حرفيين في مدن تركمانية وتجارات محلية في قاطع ديالى انتقالا الى زراعات الاكراد المتنوعة للرز والتبغ .. خصب في الفولكلوريات والموسيقى والاغاني والمقام وتنوع واسع للهجات واللغات والعاميات المستعملة ليس في العربية وحدها ، بل حتى في التركمانية العراقية والبهدانينية والسورانية ، فضلا عن الارامية المستخدمة في بلدات وقصبات سهل نينوى وغيرها من اللغات المحلية ، مع وجود يزيدية عين سفني (= الشيخان ) وبحزاني وبعشيقة الذين يتصفون بمنتجاتهم الزراعية والحيوانية وتتجاذبهم ازاء عربية وكردية مع اختلاف واضح عن يزيدية جبل سنجار الاكثر انغلاقا مع تميز واضح في منتجاتهم من الالبان والاثمار الجافة ، وسهل نينوى هو عالم عجيب من البشر المبدعين زراعيا وكل ما ينتج ويصّنع زراعيا ، وكما يسمّى بـ ( الفليحيين ) رجالا ونساء ولهم فولكلورياتهم وتقاليدهم وحركتهم الدائبة من والى مدينة الموصل يوميا ، فهي مرتعهم من العمل اليومي او الليلي ، اما الشبك عند اطراف الموصل الشرقية ، فهم لا يختلفون في حيويتهم ولا في انشطتهم وخصوصا في رعاية الثروة الحيوانية .. ان كلا من سهل نينوى وسهل اربيل يعتبران من اهم سهول العراق ليس بسبب خصبهما فقط ، بل بسبب كثافتهما السكانية المتميزة بانشطتها .. ان امتدادات شرق دجلة متنوع ايضا في مدنه وتقاليدها ويتميز هذا العالم ببراعة فنونه ، ودقة اعماله ، والمرأة تعمل صباح مساء .. ويكاد يكون عالم شرق دجلة صاحب ثقافات قديمة وهي المتمفصلة بين حضارتين اساسيتين في المنطقة : العربية في العراق والفارسية في ايران .. ليس هناك مركزا حقيقيا لشرق دجلة ، فثمة مراكز حيوية عدة .. واستطيع القول بأن الاندماج كان كبيرا في وسط العراق بحكم مركزية بغداد .. واذ تضيق المسافة في قلب وادي الرافدين بين نهري دجلة والفرات .. وكذلك الحال بالنسبة لمركزية الموصل لشمال العراق وقد كان لاستراتيجيتها الاقتصادية والتجارية الدور الكبير والمؤثر على اصقاع شرق دجلة المتنوعة والمختلطة لاقوام عربية ريفية وشبكية ويزيدية وكالدانية وسريانية وكردية بهدينانية وتركمانية .. وما يتفرع من كل هذه الاصول من ثقافات تجد الوانها شاخصة في الموصل التي تعتبر متحفا لثقافات لا حصر لها ابدا .
ثانيا : ثقافات ما بين النهرين
اما ثقافات عالم ما بين النهرين دجلة والفرات ، فهي الوسيطة والاكثر عروبة وهي الثقافات التي اغترفت من كلا النهرين .. انها الثقافات المحصورة بين مجرى النهرين ، وهي مليئة بالتناقضات على مساحة تكبر وتصغر حسب الحركة الجغرافية والامتداد الجغرافي للنهرين .. مراكز هذا العالم يبدأ بالموصل ويمر عبر بغداد الكرخ وصولا الى ابعد نقطة حيث يلتقي فيها النهران ،وتتلون الطبيعة التي تنبسط بشكل كبير على امتداد بلاد الجزيرة الفراتية حيث ثقافة زراعة القمح .. هناك سنجار جبلا وقصبة ومنحدرا في الشمال الغربي والتي تنبسط الارض فيها وصولا الى حوافي الفرات .. بلاد الجزيرة الفراتية لما بين النهرين هي النصف العراقي الاول ، وقاعدتها الموصل ، وهو اشهر مناطق العالم بزراعة اجود انواع القمح والشعير في العالم .. في حين يمتد النصف العراقي الثاني من وسط حتى جنوبي بغداد والمدعو ( ارض السواد ) . ولا يمكن مقارنة الكرخ بالرصافة ، فاذا كانت الرصافة قد اتسمّت بطابع شرق دجلة ، فان الكرخ قد اتسم بطابع غربي الفرات اكثر من دجلة نفسه .. ان حاصل جمع الكرخ بالرصافة قد شّكل بغداد العظيمة التي كانت مركزا حضاريا لعدة قرون ، وكانت ابرز عاصمة في الشرق الاوسط كله . وهي قوية صلدة في مواجهة التحديات عبر التاريخ ، ولكنها سريعة الاستجابة لكل التحديات ، اذ سرعان ما تمتص احزانها لتبرز وتشع من جديد . ان نقائض ثقافات العراق كله لما هو شرق دجلة ولما هو بين النهرين ولما هو غرب الفرات قد اجتمعت كلها في بغداد حيث تزدحم ثنائيات الاشياء ، وتجدها شاخصة في ثقافات بشرية لا حصر لها . لقد كانت بغداد عند القرن العشرين متحفا ثقافيا لا يمكن تخيله ، فلقد جمعت كل التنوعات الثقافية العراقية ، فهي مركزا يجمع كل الجيش ، وهي مركز يجمع كل الكليات ، وهي مركزا يجمع كل الشركات والاسواق ، وهي مركزا للسلطة وكل الاقاليم ..
نعم ، كانت بغداد مركز جذب للثقافات المتنوعة .. واستقطب كل من الكرخ والرصافة ثقافات المحيط الواسع الذي يدور حول بغداد .. ويقترب عند نقطة بغداد كل من نهري دجلة والفرات ، اذ تعد بغداد مركزا حضاريا حيويا وقلبا سياسيا نابضا بالحياة من قبل شريانيين أزليين للعراق نفسه .. عند نقطة بغداد ، تقترب ثقافة كل من النهرين على درجة كبيرة من المقاربة الجغرافية ، ولكن على درجة كبيرة من التضاد الثقافي ، فثقافة دجلة هي غير ثقافة الفرات ، ودوما ما تصطدم الاولى بالثانية على امتداد التاريخ ، وتخلق الثانية تحديات صارمة للاولى .. ثم تستجيب بغداد لتحديات هذه مع تلك ، لتمر بمراحل زمنية صعبة ، ومن ثّم تبدأ دورة تاريخية جديدة ! وكما هو حال بغداد ، يبدو حال الموصل كذلك اذ ان حركة الموصل وانشطتها المحلية تتجه نحو شرق دجلة دائما ، فالعلاقة عضوية حتى تفوق في القرن العشرين الجانب الايسر على الجانب الايمن بمساحته ، ولكن انشطتها الاقليمية والدولية ، فكانت مع غرب العراق وخصوصا مع بلاد الشام والاناضول .. واذا كانت تكريت لها دور في تاريخ العصور الوسطى ، فلقد مات دورها في العصر الحديث .. اما اغلب المدن الجنوبية لما بين النهرين ، فلقد عاشت ادوارها الكلاسيكية منذ سومر وأكد وبابل , وآشور ,, وصولا الى العصور الوسيطة اكثر قدرة ونشاطا من العصر الحديث ، اذ بدت مجتمعات ما بين النهرين اكثر انسحاقا ، واستطيع تقسيم كل من القسمين الاساسيين : بلاد الجزيرة وبلاد ارض السواد الى اربعة اقسام ، بلاد الجزيرة : القسم الشمالي من توابع الموصل والقسم الجنوبي من توابع بغداد . اما ارض السواد فهي الاخرى تنقسم الى قسمين اثنين يفصلهما خط تمتد عليه القصبات والبلدات التالية بدءا من الكوت الى كوت الحي الى قلعة سكر الى الرفاعي الى الشطرة الى الغراف وصولا الى الناصرية . وآخر ما يمكنني الوقوف عنده من ثقافات ربما تكون مغلقة وربما كانت مهمشة هي ثقافة اليهود العراقيين الذين كان لهم دورهم ونشاطهم في العاصمة بغداد سواء في السوق ام في الفنون ، وكانت علاقتهم ببقية الناس على افضل ما تكون وخصوصا في السوق كابرع التجار والمهنيين والاطباء .. ويسجل البعض من اليهود العراقيين في ذكرياته صفحات مؤلمة لما كانوا يصادفونه من تهميش وسخرية واعتداءات من قبل بعض المتعصبين .. اما ثقافة الارمن العراقيين ، فهي مندمجة في العمل مع الاخرين ، ولكن لهم حياتهم المقفلة على انفسهم وتقاليدهم ولغتهم في بيوتهم .. ولم يصادف الارمن في العراق الا المودة والمحبة ، فكانوا ان اندمجوا مع العراق وخصوصا في الموصل وبغداد .
ثالثا : مناطق غرب الفرات
اما ثقافة غرب الفرات ، فهي ثقافة متسعات او فضاءات مندفعة لمئات الكيلومترات في اعماق البوادي .. ان الفرات هو الذي يستقبل في العراق كل ما يأتي من الجزيرة العربية ومن بلاد الشام ، فالاندفاعات نحوه كلها عربية ، وهي بدوية في الغالب منذ قبيل فتوحات الاسلام حتى يومنا هذا .. ومن هناك طريق زبيدة للحج الى مكة المكرمة .. ان ثقافة غرب الفرات هي ثقافة نهرية صرفة للمدن التي وقعت على شواطئه بدءا بدير الزور وانتهاء بالاهوار ، مرورا بالبو كمال وعانة وراوه وهيت وحديثة والدليم وصولا الى الفلوجة وابي غريب عند ضواحي بغداد الكرخ .. اي بمعنى ان السكان قلما يستوطنون بعيدا عن النهر على عكس سكان شرق دجلة الذين ينتشرون في كل الارض .. فاذا كانت ثقافات شرق دجلة ليست نهرية بالضرورة ، فان ثقافات غرب الفرات هي نهرية بالضرورة .. ولا حياة لما بعد الفرات .. اننا ان راقبنا حياة العراقيين لما يتدنى من الفلوجة والحبانية وبحيرتها ، لوجدنا ان حياة عراقية تذكر لولا العتبات المقدسة في كربلاء اولا والنجف الاشرف ثانيا وبينهما الكوفة ، وبين بحيرة الرزازة وصولا الى دير الرحبة ، فهي مفازات صحراء خالية من الحياة . ولعل ابرز ما يمتلكه غرب الفرات من ثقافة عراقية تتمثّل بتقاليد الشيعة العراقيين وطقوسهم العريقة .. فضلا عن كون العتبات العراقية المقدسة كانت وستبقى محجا للملايين من المسلمين الشيعة في العالم ، اضافة الى وجود المدارس الدينية والفقهية والحوزة النجفية كمركز حقيقي من مراكز الحضارة الاسلامية .
رابعا : جامعة الثقافات الثلاث
وتكاد تكون ثقافة البصرة هي جامعة للنهرين في نهر عراقي عظيم ثالث هو شط العرب ، ولكن الثقافات اقل تنوعا مما وجدناه في بغداد مثلا ، ولكن تنوعها الثقافي قد اكتسب مواصفات البر والنهر والهور والبحر ، وخلق منها انفتاحا على العالم ، ولكنه انفتاح جزئي لا يبتعد اكثر من المدينة نفسها ولواحقها المتنوعة كالتنومة غير العشار ، والزبير غير الفاو .. ان البصرة نافذة العراق على العالم ، وبالرغم من وقوعها على شط العرب ، الا ان البصرة هي البوابة الحقيقية لكل من تركيا وايران وبلاد الشام والعراق نحو الخليج والعالم كله . ان ثقافة البصرة هي انعكاس حقيقي ايضا لمجتمعها المتنوع والذي تسيطر عليه عروبة الناس من خلال امتداد اصولهم وتعلقهم بثقافتهم وفولكلورياتهم .. لقد كانت البصرة عند مفتتح القرن السادس عشر قد سماها العالم بـ فينيسيا الشرق نتيجة انفتاحها على العالم ومركزها التجاري في العالم ، ولكنها صادفت تحديات تاريخية على امتداد تاريخها الحديث ، ولقد انتعشت في القرن العشرين ، ولكن سرعان ما عانت من جغرافيتها كثيرا وخصوصا في تماسها مع ايران منذ اندلاع الحروب مع ايران حتى اليوم . وتشهد البصرة ولادة عدد كبير من المبدعين والمختصين والنشطاء والتجار ورجال الاعمال على امتداد القرن العشرين ، واغلبهم كان ينضج في البصرة ويبدع ببغداد ، كما هو حال اغلب مثقفي العراق في القرن العشرين .. اذ كانت شخصية بغداد طاغية على كل العراق .
ثمة جيوب ثقافية مغلقة وقديمة تمثّلها ” الاهوار ” في جنوب العراق ، والتي كانت مثوى انعزالي لسكان قدماء احتموا بالاهوار وعاشوا وسط المياه منذ الاف السنين ، بدءا بهور السعدية وهور السنية وهور الحويزة وهور الحمّار .. وتكاد تكون ثقافة جنوب العراق ، ثقافة جامعة نظرا لما تضمنته كل من مضامين دجلة والفرات في مكوّن واحد اسمه شط العرب ، فخصوصيتها لا دجلوية ولا فراتية ، بل انها خصوصية شط العرب نزولا نحو البحر .. علما بأن حدودها القديمة الادارية مع ولاية بغداد لا تبعد كثيرا في اعماق اتجاهين اثنين لا يشكّلان الا تحدّيا لخصوصيتها ، اولاهما امتداد العمارة عبر الاهوار باتجاه دجلة ، وثانيهما امتداد المنتفك عبر البر والاهوار باتجاه الفرات . وربما أجد اقترابا ثقافيا للبصرة مع دجلة والعمارة اكثر بكثير مما اجد ذلك باتجاه سوق الشيوخ والناصرية . ولا يمكننا ان ننسى ثقافة الصبّة المندائيين الذين يتميزون بكل العالم بقدم دينهم وعراقة وجودهم بالعراق وتواصل ثقافتهم المندائية .. انهم يعشقون العمل والماء والقراءة ..

المحور الثالث

الحصيلة : تحليل النتائج .. وعرض الاستنتاجات . ماذا نستخلص ؟
1. انسان ما وراء وما بين نهرين ..
اننا الان امام عدة مصورات وسلايدات لتوضيح أنواع كثيرة جدا من المعلومات على الصور الفضائية والخرائط والمصورات الارضية . لقد كان تأثير بناء المدن على ضفاف نهري دجلة والفرات ، ودجلة كم تغنى به الشعراء والأدباء وان الإغريق سموا دجلة ( تايكر / تايكرس ) ، فله خواص النمر في سرعة جريانه وعذوبة مائه ، وهو مدمّر إذا فاض في الربيع إكتسح كل شيء ، معطيا للعراق سمته الحضارية ، لمناطق شرق دجلة تختلف عن مناطق ما بين النهرين ، وكانت مناطق إستقطاب للآشوريين ، وفيها من العادات والتقاليد لا حصر لها ، وأراضي خصبة جدا ، فيها البساتين والقرى ، وإنسانها منتج وحضاري إيجابي ، مقارنة بإنسان غرب الفرات الذي يقل إنتاجه نظرا لقساوة تربته وصحرائه ، هاربا إلى البادية دوما ، فنهر الفرات يدافع دوما ضد هجمات الاعراب وهو هادئ ومسالم ويسحب البداوة إلى العراق ، ونهر دجلة متحرك وسريع ويدعو الناس للإستقرار والترسخ في الثقافة والأرض والتجارة والاتصال .
ونرى بغداد الواقعة بين النهرين عندما يقتربا من بعضهما ، فهي عاصمة ثقافية متطورة ، والرصافة إتسعت والكرخ بقت على حالها لأزمان ، وأصبح الإنسان لا يفارق النهر وخصوصا دجلة ، وكانت ملايين النخيل منذ سومر حتى دمرتها الحروب الاخيرة ، كما تحطمت جغرافيات عراقية واماكن استقرار ومعابد .. اننا امام تباين ثقافات ويتضح تنوع الأزياء العربية والكردية واليزيدية والتركمانية والصابئة المندائيين والمناطق المسيحية لها أزياء معينة ، والبدو ، وما تبقى من تلك الآثار إندثر معظمها ، فضلا عن الموسيقى . ان الفولكلور هو صورة انسانية معبرة عن هذا التنوع العراقي الخصب ، وهو تعبير يوحي لنا بتباين متسع من ناحية العادات والتقاليد وبالتالي رسوخ ثقافات عريقة .. والثقافة في معناها العربي القديم مستنبطة من ثقف الشئ ، اي : حذق به ، ولقد وجدت ان كل منطقة عراقية قد حذق الناس فيها باشياء معينة ، وباستطاعتنا تصنيف ذلك بالتفصيل اذا تأملنا كل بيئة معينة من العراق وطبيعة ثقافة الناس فيها ..

2. العراق ومصر :
انني اعرض امامكم جدول بالارقام والنسب المقارنة بين كل من مصر والعراق ، وان الثقافة في الشرق الأوسط ترتكز على ركيزتين اساسيتين هي الثقافة في مصر والثقافة في العراق ، فظلت المنافسة بين الثقافتين عبر التاريخ إلى يومنا هذا في مجالات الفن والادب والمعمار والعلوم الإجتماعية والصحافة وعوامل الإنتاج ، وكان العراق يقود ، وعندما يضعف تأخذ مصر دوره ، فتبدو هي التي تقود ، ويتوضّح ذلك من خلال مخطط بياني للمقارنة بين مصر والعراق . ان التنافس التاريخي بين المركزيتين سياسيا وحضاريا قد اضاع جملة هائلة من القدرات .. لكنني اجد ان مصرا كانت دوما ملاذا للعراقيين عندما يهربون من العراق ، ولكن لم يكن العراق في يوم من الايام ملاذا للمصريين ابدا !
نبقى ضمن اطار معرفي كما ترون من تحليل عدة ظواهر اساسية تميز بها العراق ، فافترق عن غيره من البلدان .. فاذا ما قارنا بين العراق وبين مصر في جغرافيتهما الثقافية ، سنجد ان الالوان قليلة في مصر مقارنة بالالوان التي تحصى في العراق مع كونها صاخبة ومفترقة .. وهذا الامر دعاني الى ان اتابع مقارنة بين البلدين منذ العصور الكلاسيكية حتى اليوم .. اين هو التفوق في التنوعات العراقية ؟ اين هي الديمومة في الارث الحضاري ؟ كم من اللغات القديمة المستخدمة هنا مقارنة بهناك ؟ .. الخ

3. دعوة من اجل اعادة مركزية بغداد الثقافية في العالم
ان الجغرافية الثقافية للعراق الحديث تعلمنا بما لا يقبل مجالا للشك ان مركزية بغداد الحضارية والثقافية معا مؤهلة لأن تكون واحدة من المدن الثقافية في العالم اليوم .. والتي غاب اسمها من التصنيف العالمي للثقافة البشرية .. انني بهذه المناسبة ادعو الى العمل الدولي من اجل جعل بغداد مركزا ثقافيا في التاريخ الى جانب المراكز الثقافية الاخرى في العالم ، وها انا اعرض امامكم خارطة المراكز الثقافية في العالم وعلى العراقيين اليوم ان يثبتوا للعالم في القرن الواحد والعشرين على ان العراق يمكنه ان يكون من خلال مركزية بغداد واحدا من بؤر الثقافة في العالم . فهل باستطاعة العراقيين تحقيق هذه الغاية في ظل واقعهم المهترئ اليوم ؟ ان العالم الذي يهتم بالعراق اليوم استراتيجيا وسياسيا ، وقبل هذا وذاك اقتصاديا كونه من اغنى بلدان العالم بالبترول ..لابد للجيل الجديد ان يعيد التفكير في خصبه الثقافي من جديد ليكون واحدا من مراكز العالم الثقافية .
4. العراق هو الجاذب والطارد
ان اسلوب الحياة عند العراقيين يختلف من مكان إلى آخر ، كما ان مثل هذا البحث في الجغرافية الثقافية ، يراقب الانسان العراقي وخصوصيته في اثراء الحركة الانسانية ، وقدرته في الابداع البشري والخطاب الادبي ووسائل التعبير وإختلاف الأزياء ، واللغة المستخدمة ، وإختلاف اللهجات ، ودور المرأة العراقية في القرن العشرين ، والأفكار الجديدة ، والنّخب والجماعات والتشكيلات الثقافية ، ودور الطبيعة والتضاريس ، لذلك فان العراق هو من احوج بلدان الشرق الاوسط للدراسة والبحث المقارن في جغرافيته الثقافية الغنية جدا. ربما نسمع صورة مشوهة عن العراقيين ، ولكن تبقى الآراء تختلف حول الكثير من الأمور في حياة العراقيين : حول الموسيقى والغناء وحول التراث والفولكلور والعادات والتقاليد .. ولكل عراقي له ثقافة بيئية مختلفة ، وهذا لا ينسحب على النّخب المثقفة فقط ، بل على كل ابناء الشعب العراقي .ان العراق إكتسب أهمية قصوى لوقوعه في قلب العالم ، ويقع في قلب المجال الحيوي للشرق الأوسط ، ويقع بين خمسة بحار ( الخليج ـ قزوين ـ الاسود ـ المتوسط ـ الاحمر ) ، فهو بيئة مركزية مستقطب للناس وانواع البشر ، وكان هدفا اساسيا لدول وامبراطوريات ، وقد تعرض للهجمات على مر التاريخ ، فإختلف الناس عليه وخرجوا منه . نعم ، كان العراق يستقطب الناس على امتداد التاريخ ، ولكن وجدت الناس تغادره على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين وحتى الان بالالاف المؤلفة. نعم ، أصبح الآن الناس تهاجر منه مرغمة إلى بقية أقطار العالم ، ووراء ذلك جملة صارخة من العوامل والاسباب المتنوعة ، اهمها : شراسة السلطة وانعدام الحريات واشتعال الحروب وفرض الحصارات وصولا الى الاحتلال وتداعياته المريرة .. ان الهجرة لم تكن لبشر واعداد من البشر فقط ، بل هجرة لثقافات واختفاء اقليات وانهيار معنويات وتبدد اجيال وخسران كفاءات واخفاق مؤسسات .. الخ
5. النخلة : رمز حضاري لكل العراقيين
ان طبيعة العراق الجغرافية طبيعة متنوعة ومؤثرة ، فسلسلة جبال طوروس وانتي طوروس وسلاسل زاكروس ، تفصل حدوده الطبيعية عن الاناضول وايران والسهول والبادية ، وان وادي ما بين النهرين يخترقه كل من الشريانين ألازليين ، دجلة والفرات ، فضلا عن العشرات من الانهار والنهيرات والروافد واللواحق .. ونرى أن الحضارة العراقية القديمة ، كانت قد بدأت في الجنوب ثمّ إمتدت إلى الشمال أو إنكمشت على نفسها ، وكان الجنوب يزدحم باشجار النخيل منذ عصر السومريين ، فكانت النخلة هي عنوان العراق ورمزه .. بل وكان يبدو من اعماق الصحراء معتما لما فيه من ملايين الاشجار ، فاسمي بسواد العراق ، حيث ظهور الخط المسماري والقوانين والعملة والتدوين والزراعة قبل سبعة الآف سنة من تأسيس السومريين والأكديين والبابليين والآشوريين ونشوء اولى الحضارات البشرية على ايديهم . وفي العصور الوسطى سمي العراق بجمجمة العرب والمسلمين في الفقه والمذاهب واللغة والفلسفة والشعر والحكمة والمنطق وعلم الكلام والبلدان والهيئة ( = الفلك ) والنقد الادبي.. مع حيوية المسيحيين العراقيين في الطب والترجمة وحيوية اليهود العراقيين في الصيرفة وفنون الغناء .

6.انطلاقة العراق الابداعية
والعراق منذ 1909- 1979 وثبّ وثبة قوية فوجد نفسه في قلب العالم من المبدعين ، أمثال : نازك الملائكة والسياب والبياتي والجواهري وجواد سليم وجميل بشير ومتي عقراوي وعلي الوردي وجواد علي وعبد الجبار عبد الله وغيرهم كثير من المثقفين المتميزين في العالم …. كما حّلل دور المرأة العراقية وسمتها الانتاجية وابداعاتها الثقافية ، ولكن السياسات والحروب والدكتاتورية افقدت العراقيين الامن والاستقرار وخلقت الفوضى والخوف والهجرة والاختفاء ، فغدا العراقي يعيش دون إستقرار ابدا ، ويحمل ثقلا كبيرا من التناقضات .
الإنسان العراقي كان يبني السدود لأنه محب للزراعة ، والصراع بين أبن الريف والمدينة والبادية كان محتدما ، ولا يزال ابن العشاير يحمل القيم البدوية العشائرية ، وكانت هناك أسوارا حول المدن ، وكان الناس الحضر لا يسمحون للبدو والرعاع بدخول المدن ، ولكن بعد ان هدمت الأسوار في النصف الاول من القرن العشرين ، تداخلت الناس فيما بينها ونشأ الصراع ، صراع المستويات لا صراع الطبقات ، وولد إنقساما خفيا بين المجتمع العراقي ، وولد تعبيرا في الشارع وكبت دفين لدى البعض وخصوصا المهاجرين والنازحين الذين سكنوا حول الاحياء السكنية الجديدة . وكان هناك مشروع عملاق لزراعة القمح في شرق وغرب دجلة والجزيرة ، وكانت الفرصة سانحة ، لو تمت ، لخدم المجتمع خدمات كبرى ، وساهم في اعادة انتشار ابناء الريف ، ولأصبح العراق سلة غذاء العالم .. ولكن المقادير السيئة سارت بالعراق في طريق آخر !

7. خارطة العراق الثقافية
انني اعرض الان امامكم خارطة ثقافة العراق بتقسيماتها الملونة والفسيفسائية ، وهي تحتاج إلى أكثر من جيل لدراستها في شفافية عالية وصراحة متناهية ومعرفة معمّقة ، لكي تتجانس الذات مع الموضوع في ظل مناخ واسع من الحريات ، كما نتمنى أن تكون هناك ثورة بزل في الجنوب .
وأما الموسيقى العراقية ، فهناك موسيقى ثرية لها خصوصياتها وتنوعاتها فالجالغي البغدادي والمقامات ، وموسيقى نينوى والوسط والجنوب والشمال الذي كان ملهما للمبدعين ، فمثلا كانت بعض الطقوس المسيحية تمارس في الشوارع والازقة ، والمعبد اليهودي قدم ثقافة متميزة قبل 1500 سنة في الجفل مثلا , وصولا الى كلية بغداد ودور الآباء اليسوعيين ، ودار المعلمين العالية التي غدت بؤرة للمبدعين في الخمسينيات وغيرها ، وكلهم قدموا خدمات لا تنسى من التربويات ، فلا ثقافة عليا من دون تكوين تربويات عليا . ان حضارات العالم إستلهمت ثقافتها من العراقيين ، والجنائن المعلقة تعتبر إحدى عجائب الدنيا السبع قبل الاف السنين لم تزل في الذاكرة البشرية .
8. واخيرا : علّي ان اقول شيئا
انني في نهاية مطاف هذه الرحلة ، اقترح بعض الاراء التي ربما تنفع وتفيد اقسام العلوم الجغرافية والاجتماعية والتاريخية في دراسة الجغرافية الثقافية للعراق الحديث بالتوسع في المفاهيم الرئيسية التي حللتها قبل قليل ، وان تتم القراءات على اساس تجارب تركيزية او تطبيقية لقسمات من المجتمع العراقي ، واغناء هذا ” الموضوع” بالبحوث التخصصية والمعمقة في الجامعات ، وان تغدو الاهتمامات بالعراق من خلال تغطية كل مضامينه في الجغرافية الثقافية ذات الصلة ، وامكانية الانفتاح على جمهور عريض من الباحثين والقراء والمهتمين والطلبة الجامعيين للدراسات الاولية والعليا على حد سواء ، فضلا عن الاستفادة من تجارب غيرنا في هذا المجال .. كله من اجل غرس وعي عراقي جديد عند الاجيال الجديدة من العراقيين ، وفهم معايير العراق الاجتماعية قبل السياسية .. فان الحاجة باتت ماسة والضرورة اساسية للتغلغل في بنية المجتمع العراقي .
هكذا ، وبعد استعراضنا كل هذه الحصيلة من الخلاصات والنتائج والاستناجات .. أعدكم بأن هذه ” المحاضرة ” ، ستجد فرصتها في النشر على موقعنا الالكتروني قريبا . اشكركم شكرا جزيلا على حسن اصغائكم ، كما اثمّن جدا مداخلاتكم وتعليقاتكم وحواركم ، واشكر دعوة الجمعية العراقية الكندية وتكريمها لي ممثلة برئيسها الصديق الاستاذ يلماز جاويد وكل طاقم العمل الذي بمعيته .. متمنيا ان نثري معا هذا ” الموضوع ” في المستقبل ، وان يبقى موضوع العراق يشغل بالنا وتفكيرنا .. وامسية سعيدة مع تحياتي لكم جميعا .

تنشر المحاضرة على موقع الدكتور سيّار الجميل
www.sayyaraljamil.com

ملاحظة : يتم الترخيص في حالة اعادة النشر من قبل الدكتور سيار الجميل

مجموعة من الخرائط والمصورات التي تّم عرضها وتحليلها في المحاضرة :


أقدم خارطة للعراق




خارطة العراق رقم 1



tribalmap




ottoman-iraq 2



خارطة دجلة والفرات




Check Also

الأرمن العراقيون.. الخصوصيّة والجاذبيّة والأسرار الحيويّة ! -2-

الحلقة الثانية :حذاقة الصنّاع وعظمة المشاهير الشخصيات العامة الأرمنية ينقل لنا الأستاذ آرا اشجيان عن …