ظل حسنين هيكل شاغل العرب الصحافي، طيلة نصف قرن تقريباً، منذ أن بدأ صحافياً متواضعاً في الحرب الكورية في بداية الخمسينات. وعندما برز نجم عبد الناصر استطاع هيكل بحاسته الصحافية المرهفة أن يعرف من النجم السياسي الصاعد في ثورة 1952، فلزم عبد الناصر، ونال ثقته، وأصبح مستشاره السياسي والإعلامي، ومدير علاقته العامة، وكاتب خطبه، وكاتب الميثاق الوطني في 1962 ، وحافظ أسراره وأوراقه. وعندما رحل عبد الناصر، ورث هيكل كل أرشيف عبد الناصر كاملاً. وتلك واحدة من الظواهر الغريبة العجيبة في مصر أم العجائب وعند العرب آباء العجائب والغرائب.
فكيف يمكن للتاريخ الوطني على امتداد ثمانية عشر عاماً، ومن أخطر أعوام التاريخ الحديث لهذا الوطن أن يكون ملكاً لشخص واحد، يأخذ منه ما يشاء، ويحذف منه ما يشاء، ويُعدِّل فيه، ويرسمه حسب مزاجه وأيديولوجيته. ونحن نعلم ونعرف أن مثل هذا الأرشيف يكون في حوزة الدول، بعد رحيل الحكام والزعماء، وليس في حوزة شخص واحد كهيكل، إلا إذا كان هذه الشخص هو الدولة، وإلا إذا كان عبد الناصر وتاريخ عبد الناصر ليس مُلكاً لمصر وللدولة المصرية، ولكنه مُلك لهيكل فقط؟!
ومن خلال هذا الأرشيف إن صدقاً وإن كذباً كتب هيكل معظم “مقاماته السياسية” التي اتصف جزء كبير منها بالخيال السياسي، واتصف الجزء الآخر بوقائع لما يكن فيه من شاهد غير هيكل، باعتبار أن معظم “مقامات هيكل السياسية” تتم فبركتها بعد موت ابطالها ( الملك حسين والحسن الثاني مثالاً لا حصراً) كما لاحظ وقال لنا سيّار الجميل في كتابه المهم والشامل (تفكيك هيكل) والذي تعرّض من جرّائه لأذى اليمين واليسار العربي، ولم يُعجب أحداً من المؤدلجين الدينيين والقوميين. وهو إن دلَّ علي شيء فإنما يدلُّ على مدى الوثنية السياسية المتغلغلة في العالم العربي، وعبادة الأصنام السياسية التي أصبحت في النصف الثاني من القرن العشرين اشد وأعنف وأعظم من عبادة الأصنام الدينية في جاهلية العرب الأولى، فيما لو علمنا أننا نعيش الآن في جاهلية عربية جديدة، أبرز مظاهرها هذا التعلق السياسي النرجسي المُعيب بالجلادين والديكتاتوريين والطغاة والذين ما زلنا حتى الآن نصلّي في معابدهم، ونسجد لهم، ونرفع صورهم في البيوت والشوارع والمحافل.
أصدر هيكل عشرات الكتب السياسية عن تاريخ مصر الثورة، بل هو سارد هذا التاريخ وصاحب “مقاماته” الرئيسية. كما كتب عن تاريخ العرب والعجم، دون أن يواجَه بمؤرخين مؤهلين يُمحصُون ما يكتب. وكان ذلك بسبب أنه المالك الوحيد للحادثة التي يكتب أو يتحدث عنها. فهو الشاهد والقاضي الوحيد في الوقت نفسه، على كل ما كتب. وحين تصدى له فؤاد زكريا استاذ الفلسفة، في كتابه (كم عمر الغضب: هيكل وأزمة العقل العربي، 1983) كان ذلك أول تمحيص تاريخي أكاديمي وعلمي، ثم جاء كتاب سيّار الجميل (تفكيك هيكل) الذي استطاع ولأول مرّة في التاريخ العربي المعاصر أن يكشف ويعرّي “مقامات هيكل التاريخية والسياسية.”
في كتابه (620 صفحة) تتبع سيّار الجميل أستاذ التاريخ في جامعة الموصل وفي الجامعات الأردنية والإمارتية، مسيرة هيكل الصحافية والسياسية و”مقاماته التاريخية والسياسية” كذلك. ووقف عند كل منعطف منها وقفة المؤرخ المُمحص للحادثة التاريخية، وكيفية وجوب تناولها، وما هي مقومات رواياتها. وخلُص إلى أن هيكلاً كان لا يكتب تاريخاً، بقدر ما يكتب روايات تاريخية خيالية لا تختلف كثيراً عما كان يكتبه جورجي زيدان من روايات تاريخية اسلامية خيالية.
قسّم الجميل كتابه إلى ستة فصول وخاتمة. وقد اختص كل فصل بمنطقة معينة من العالم العربي. وبدأ فصوله بتكوين هيكل من حيث المنهاج والتفكير. واستعرض نشأة هيكل على أبواب السلطة في العهد الملكي ثم القفز إلى جانب عبد الناصر. واستعرض المناصب الصحافية والأدوار السياسية التي لعبها هيكل. كما استعرض مؤلفاته ووسمها بفقدان المصداقية، وبأنها نوع متميز من الاطناب العربي. واستعرض خريف الغضب نموذجاً. كما استعرض الخلل الواضح في كتابات هيكل. وفي الفصل الثاني، انتقل إلى انهماك هيكل بالشأن الأردني وكتاباته عن الأردن والملك حسين الراحل. وردَّ الجميل على هيكل في كل صفحة كتبها الأخير ولم يترك له شاردة ولا واردة إلا ونقضها نقضاً عملياً موثقاً. وكان المغرب العربي بين التذكير والتزوير، هو الفصل الثالث من هذا الكتاب . وقد استعمل الجميل نفس أدواته في التمحيص والتدقيق في كل كلمة كتبها هيكل عن المغرب العربي وعن المملكة المغربية على وجه الخصوص، وأخرج هيكل في النهاية على صورة شاهد زور، يروي روايات يتيمة لا شاهد عليها. واحتلت مصر وهي الركن الأساسي في “مقامات هيكل السياسية” الجزء الأكبر من كتاباته، كما احتلت الفصل الرابع من كتاب الجميل تحت عنوان “هيكل: التغيير والتجسير”. وفي هذا الفصل يثبت الجميل بأن هيكلاً لم يكن مؤرخاً، ويقول: “كثيراً ما كتب هيكل عن التاريخ وذكره في ثنايا كتاباته، ولكنك في بعض الأحيان تراه ينسحب من الميدان كي يصف علاقته بالموضوع صفة المتباعد عن علم التاريخ، ولكي يرجع إلى ميدانه الحقيقي في الصحافة، أو ينكمش حتى في هذا الميدان فيهرب إلى صفة السياسي الذي لا يمكن القبض على آرائه ووجهة نظره.” وفي الفصل الخامس الخاص بالعراق، يشرح الجميل كيف كان هيكل يتأرجح في كتاباته عن العراق بين التفسير والتحقير بدءاً من ثورة 1958 . وفي الفصل السادس والأخير نقرأ كيف كان هيكل يعالج مشكلات الخليج العربي السياسي، وكيف كان يتناولها بكثير من الانشائية والخيال، دون الاعتماد على حقائق تاريخية وسياسية موثقة.
إن أهم ما في كتاب “تفكيك هيكل” لسيّار الجميل هو هذه النتيجة النقدية، التي خلُص اليها الجميل، والتي يوافقه عليها القلة من نقاد هيكل وباحثيه، وهي أن هيكلا كثيراً ما أقحم نفسه في مواضيع لا علاقة له بها، ولا علم له بها كي يجيد الكتابة فيها. وأنه كاتب لا يوثّق ما يكتب. وكتاباته تفتقر إلى المراجع التاريخية الموثوقة. ورغم أنه كان يكتب عن العالم العربي، إلا أن كتاباته لم يكن فيها إشارات إلى المفكرين والباحثين العرب الذي كتبوا في الموضوعات نفسها، ومن هنا خلت كتاباته من الأسانيد والآراء المقارنة. ولعل أكثر ما يعيب كتابات هيكل عن الزعماء العرب أنه كان يكتب عنهم من زاوية معينة، وأنه كان يوسّع هذه الزاوية على حساب زعماء آخرين. ويخلص الجميل إلى أن معظم ما كتبه هيكل كان متناقضاًً، لا يرقى إلى مستوى الكتابات السياسية والتاريخية الراقية، سواء في العالم العربي أو في الغرب.
كتاب “تفكيك هيكل” كتاب مؤرخ أكاديمي ذي منهاج علمي واضح في تناوله لأعمال هيكل وليس لشخص هيكل. وهنا تتضح الموضوعية الجليّة في هذا الكتاب الذي يردُّ على الآراء الشخصية والانطباعات الخاصة لهيكل بمنهاج تاريخي علمي لتفكيك الكتابات المتعلقة بالسياسة والتاريخ.
ايلاف
2004 الإثنين 26 يناير
شاهد أيضاً
مسامير.. عتاب إلى الحكومة العراقية شديد الخصوصية شديد العمومية !
قرأتُ الخبر التالي وأسعدني : ( ناشنال بوست ، تورنتو ، يو بي اف ، …