لا أعرف حدود صدمة الكاتب اللبناني وقد خسرت سارة مندلي لقب ملكة جمال انجلترا ولا طعم احتباس زغاريد النسوان في فمه التي كان قد تعهد بها من أستراليا وهوائها العليل إن هي ربحت.فقد كتب مقالا يناشدها فيه ألا تتردد في ارتداء البكيني، ليعالج فوزها جراح العراقيين والعرب عن بكرة أبيهم، طالبا منها ألا تهتم بـ «انتقادات الجماعات المتشددة، ولا بفتاوى أناس لا يفتون إلا لتدمير كل ما هو جميل، ولا بثرثرات حفنة من المعقدين أخلاقيا وسلوكيا»، لكن قوله في ظني لا يخرج عن سياق رهان الخديعة، كما قال سّيار الجميل ذات مرة في دعواه على المثقفين العرب:«هم من أكثر الناس خديعة للناس».فتسليع الجسد الأنثوي وتوظيفه في أغراض الترفيه وعلى رأسها مسابقات الجمال، يلقى معارضة واسعة من غير المعقدين أخلاقيا وسلوكيا، من جماعات ومنظمات واتجاهات وتيارات من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين على نطاق العالم كله، وهذه المعارضة منبتها الغرب نفسه الذي ابتكر هذه المسابقات وسوقها كونيا.كل يملك الحق في أن يدرك المرأة، ويفصّل في موضوع كينونتها وحريتها وكرامتها بالطريقة التي تناسبه.أما الاعتقاد الراسخ بأن هذا التفصيل أو ذاك هو الحق بعينه، ففيه اغفال لإرادة المرأة في أن تكون ما تريد بلا نمذجة مسبقة أو قسرية.قد نفترض أن عارضة الأزياء أكثر حرية وسعادة من فلاحة في حقل، أو من ربة بيت في قرية قصية، لكن الحكم يبقى اعتباطيا، لأن الحرية أو السعادة ليست لها معايير واحدة، وما يجلب السعادة لامرأة قد يكون مشقيا لأخرى، وما تدركه احداهن حرية قد يكون عبودية في عين الثانية.لقد أمضيت مع أسرتي الصغيرة اجازة الصيف بين لندن وميونخ، وكان الافطار الصباحي في الفندق فرصة لملاحظة تنوع قومنا الذي لا نلاحظه إلا صيفا:المنقبات كليا والمحجبات فقط والمرتديات لآخر صيحات العباءات المطرزة جنبا إلى جنب مع السافرات، كل هذا من دون ان تهتز أرض الفندق أو تنطبق سقوفه على بعضها.هو إما يخطئ التقدير أو يختزل المسألة مَن اعتقد أن الاتجاهات المتشددة هي وحدها التي تصادر حق المرأة في الاختيار.هناك صناعة كونية لها أساطينها وآلتها الإعلامية الجبارة ورؤوس أموالها، التي تتعاظم كل يوم وتسير في اتجاه تعميم نموذج جمالي موحد للمرأة التي تلبس وتأكل وتتحدث وتفكر بطريقة معينة.في (عمارة يعقوبيان)لعلاء الأسواني، تتضخم الصناعة المقابلة حتى تصبح محلات (الرضا والنور) لملابس المحجبات بسياستها المميزة في جذب أو شراء الزبونات امبراطورية ضخمة.تجارة وآيديولوجيا، أو آيديولوجيا وتجارة، ولا أهمية لتحديد أين تنتهي هذه لتبدأ تلك، لكن وجود المرأة الفيزيقي سيبقى كما هو دائما، سيد الانشغالات.كذلك هي الموضة الغربية، كثير من التجارة على شيء من الآيديولوجيا التي أخذت من العقيدة النسوية ثورتها ضد الثياب، ربما لأنها الوحيدة القابلة للاستعارة والنقل لتجارة السوق، لكن ما ان انقلب السحر على الساحر، حتى بدأت المنظمات النسوية تناهض هذا الشكل من النكوص الحضاري نحو العري الفج الذي ساهمت هي فيه.القمصان المنقوشة عليها صور غيفارا أو الكوفية المرقطة أو سراويل الجينز المشققة في حقبة زمنية ما، لم تكن تشي بالضرورة بتحرر لابسيها.اليوم ليس شرطا أن تكون كل فتاة تتهادى بلباس البحر على منصات عروض الجمال امرأة حرة.نوع من تسليع الأنوثة وتحويلها لبضاعة تقاس بالمتر والمسطرة، ولن تحتاج لمخيلة شاسعة لاستحضار دكات بغداد حين كانت الجارية تكشف عن ساقها للبائع بحسبان امتلائها والتفافها شيفرة يمررها النخاس لتطيير لبّ المشتري، إن كان له لب من الأصل.والطريف حدث في الأسبوع الماضي حين أعلن الامتداد المجري للدكة العباسية رئيس بلدية بودابست جورجي ميتنيان، عن منعه الموظفات اللواتي لا يتمتعن بسيقان جميلة من ارتداء التنانير القصيرة.وإن كنت لا تزال في شك من دور السيقان في حركة التاريخ، كما في تطور النقد الأدبي العربي، فعليك أن تعود لما قاله شاكر لعيبي مرة حين تحدث عن هوس المثقفين العرب بالحضور الجسدي للنساء في المهرجانات العربية، فما أن ينتهي الناقد إلى بلده حتى يدبج من فوره غزلا متلبسا بلبوس النقد في كاتبته النحريرة، فتكون الشرارة هي السيقان لا النصوص!.الأكثر براءة من هذا، شاعر وناقد سوري حضر مؤتمرا عربيا ولفرط ما اشغلته الأقراط والجزم، عاد لزاويته لينصب اللبنانية فهمية شرف الدين ملكة للأناقة، لها وصيفتان هما:هدى وصفي وعفاف البطاينة، في حين استبعد الباقيات!.
كثيرا ما كان الدوران في فضاء الجسد، ادانته أو تمجيده بين قطبي الستر والكشف، اختزال بائس لاشكالات اجتماعية وسياسية، وعصابية أيضا، تمت مقاربتها الآمنة في الجسد.شاهدت فيلم (أسامة) أكثر من مرة من دون ان أملّه، فالصبيّة الأفغانية لا يمكنها العيش تحت حكم «طالبان»وإعالة أهلها إلا بكبت أنوثتها، حتى فضحت (الغلام) بضع قطرات من الدم.المتزمتون وصمهم خصومهم بالكبت، وهذه دعوى لا جديد فيها، لكن ماذا لو كان المستبسل في الدعوة للعري كصاحبنا اللبناني ينطلق من آلية الكبت الطالبانية نفسها، وإن حسب أنه يفككها.
الدولة المشرقية ذات (السجل الناصع في الحقوق والحريات)، ستسمح بتنظيم أول مسابقة جمال بعد انقطاع دام أكثر من ثلاثة عقود، أو الدرجة الأسهل في سلم الاصلاح الوعر.وفي مكان آخر من الأرض لن تكون مواصفات اللباس الساتر للجسد موضة ولا تجارة، بل (عقيدة خالصة)يقوم عليها استقرار مجتمعات بقضها وقضيضها.الرسائل هنا أبسط من أن تفلسف، وإن كانت أكثر عمقا مما يوحي به ظاهرها البسيط.في حين أن الرسالة الأكثر حداثة تمررها سارة مندلي، وهي أيضا أكثر شفافية من الغلالة التي تلبسها المحتشمة على البكيني: الفتاة العراقية (الاكس لارج)، التي فازت عام ألفين بعرش جمال العراق، كانت بنت أخت صدام!، تقصد سارة أن أصولها العربية لن تؤخر حظوظها على المنصة الانجليزية، إنما هو محيط صدرها ومقاس خصرها.أحسنت القول المضمر، وبينت ان لا شقاق بين الجمال والذكاء، لكني شخصيا أميل قبل اساءة الظن في نتائج التصويت البعثي، أن آخذ في الاعتبار الدور الذي لعبه الشحم في التاريخ العربي، من حبيبة الأعشى التي يحجزها الباب إلى كتيبة أغنية البرتقالة التي أحدثت في الجمهور العربي المتعطش ما احدثه اعصار كاترينا في أهله
22 سبتمبر 2005
موقع دروب
شاهد أيضاً
حمّى رفع الشعارات: السياسي والأصولي والمثقف وصاحب المال
أطنب القدامى في الحديث عن علاقة المثقف بالسلطة في مختلف العصور وكشفوا النقاب عن الإكراهات …