يعد العراق من أكثر البيئات العربية ازدحاما بالأعراق والأديان والطوائف القديمة والحديثة، فغدا مجتمعه من أكثر مجتمعات المنطقة مشكلات وتعقيدات، وتتلون فسيفساء مجتمعه بين: الصابئة المندائيين إلى جانب المسيحيين من السريان الاراميين والكلدان والآشوريين وهناك التركمان المتنوعون والأكراد البهدينايون والاكراد السورانيون واللور الفويليون وبقايا اسر المماليك الشراكسة القوقازيين.
وهناك اليهود والكاكائيون والكركرية واليزيدية والمعدان والشبك والعجم والأرمن، إلى جانب الأكثرية العربية بانقسامهم الطائفي اليوم بين الشيعة الجعفرية والسنة الحنفية والشافعية، الخ. هذا النسيج الاجتماعي المعقّد الذي كان موحّدا ومتآلفا، نجده نفسه اليوم يتفكك ويتمزق اثر انهيار الدولة العراقية ومؤسساتها التي ورثت ارث العثمانيين، بعد ما لاقاه من الاضطهادات السياسية في الماضي !
لقد بتنا نسمع اليوم ما تلاقيه الأقليات الدينية العراقية من اضطهادات قاسية من قبل جماعات العنف التي يزدحم العراق بها اليوم وهي تفترق بتماهيها ولا تعرف مرجعياتها وليس هناك معلومات عن مصادر تمويلها وارتباطاتها.
قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم: «إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون» (البقرة، 62 ).
لابد من القول، بأن بعض هذه الملل والنحل والطوائف والأنواع العراقية العريقة هي قديمة جدا عاشت في وادي الرافدين وعلى جانبيه منذ آلاف السنين، بل ويمنحنا التاريخ جملة من المعلومات الهائلة عن أدوارهم الناصعة في تشكيل الحضارة العربية الإسلامية ومدى ما قدّموه من مشاركات علمية وأدبية ومهنية وحرفية صناعية وثقافية ومعيشية في الألف سنة الأخيرة،
ولمعت من بين الأقليات أسماء من المبدعين والشعراء والعلماء والأطباء والمهندسين والمترجمين والصنّاع الماهرين، وعاشوا في مجتمع متنوع بين الحضر والريف وهم على أتم حالة من الانسجام والود في الدواخل العراقية، وكانوا يتعرضّون لكل التحديات الخارجية أسوة بأغلبية العراقيين،
ولقد فنيت أديرة وكنائس ومعابد نتيجة الغزوات، بل وتحملوا كل ما تحملته الأغلبية، والى خمسين سنة مضت نلحظ أسمى حالات التعايش بين العراقيين وعلى احسن ما تكون، بل ويجد المؤرخ الجاد نفسه امام تاريخ رائع من التعاون وتكافؤ الفرص والعيش المشترك، ومن المؤسف جدا ان مجتمعاتنا العربية لا تعرف بعضها بعضا حتى يومنا هذا. وعليه، فلقد بقي المجتمع العراقي مغّيبا في كل خفاياه عن بقية المجتمعات العربية لأسباب سياسية وايديولوجية محضة..
اليوم، انقلب المجتمع العراقي على عقبيه ويمر بأعتى حالات العنف وتجتاحه جماعات ودوائر وقوى احتلال وأجهزة خارجية وتيارات ارهاب وطوائف وعصبيات وشرذمات وعصابات، وتصلنا المعلومات المؤكدة التي تناشدنا ان نعلن للملأ في هذا العالم ما الذي تعانيه أقليات العراق السكانية من الاضطهاد وعمليات التهجير القسري والقتل اليومي وشراسة التعامل بالعنف وقمع المرأة واضطهاد الأطفال، وكلها تحت شعارات التكفير والتحريم والتجريم باسم الدين ورفض لهذه الأقوام من الأقليات السكانية التي ارتبطت بأرض العراق منذ آلاف السنين.
ان المشكلة لا تنحصر اليوم بوجود محتل أجنبي على التراب العراقي، بل أصبح التراب العراقي مباحا لكّل دخيل يفعل فيه ما يشاء، ان الأقليات السكانية العراقية تدفع اليوم بأغلى ما عندها، ولقد سمعنا ما تفعله جماعات دينية متطرفة بالطالبات الجامعيات وسمعنا ما الذي مورس ضد الكنائس والأديرة المسيحية العريقة في كل من بغداد والموصل، وسمعنا ما الذي تفعله أحزاب وتيارات دينية متنوعة بالنسوة العراقيات من غير المسلمات في دوائر الدولة او حتى في شوارع المدن،
وسمعنا بعمليات النزوح القسرية لأقليات في داخل البلاد او فرارهم وهروبهم إلى خارج العراق، وسمعنا مؤخرا بالاضطهاد المنظّم والحملات القسرية بالقتل او التهجير وتهديد الصابئة المندائيين الذين يقطنون العمارة في جنوب العراق الذي عاشوا فيه منذ الاف السنين، ولقد عشت وعرفت هؤلاء وكل الأقليات الدينية منذ سنوات الطفولة انهم من الناس الطيبين المسالمين الذين يعيشون خائفين دوما من المصير، وها هو المصير قد جاءهم ليلاحقهم قتلا وتشنيعا وحلقا لرؤوس نسوة غير محجبات امام العباد..الخ من الأعمال الدنيئة التي لا يقبلها لا عرف ولا دين ولا أخلاق.
إنني أناشد كل إنسان في هذا الوجود وكل عربي في هذه الأمة وكل المنظمات الإنسانية وكل النشطاء السياسيين ان يلتفتوا إلى ما يحصل داخل العراق، وإذا كانت مشاكل الأقليات الدينية معروفة للجميع في كل من مصر ولبنان، فان هناك تعتيماً مبرمجاً على ما يحدث في العراق ! إنني أدعو الحكومة العراقية للقضاء على كل العصابات والجماعات المتعصّبة.
ان مشكلات العراق لا تحّلها أي مصالحة سياسية ان بقيت عصابات العنف والإرهاب تعبث بنسيج المجتمع العراقي، ولا يمكن ان يهدأ المجتمع ان لم يفرغ العراق من الأسلحة والميليشيات الدينية والطائفية، وسوف لن يستقر العراق ان لم تنته كل الاختراقات التي تمزق العراقيين.
ان التعامل مع الاحتلال الأميركي شيء والتعامل مع التمزقات الداخلية شيء آخر، ينبغي الكف عن خلط الأمور! لا يمكن ان يسترجع العراق عافيته ان بقيت أموره مختلطة بحيث يذبح المجتمع ويصبح ممزقا ثمنا لأجندة معينة لهذا الطرف أو ذاك على ترابه ! ولا يمكن ان يموت كل العراقيين من اجل فاتورة الاحتلال، ولا يمكن ان يبقى الصمت يلازم كل العالم إزاء ما يحدث للعراقيين، كل العراقيين. فهل سيسمعني احد في هذا الوجود؟ إنني اشك في ذلك.
شاهد أيضاً
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …