هل يمكن ان تتجه الحكومات العربية لخلق اتفاقيات تعاون مع التكتلات المناهضة للمعسكر الامريكي البريطاني – ان ماحصل للعراق يجعل الامر اكثر تعقيدا ؟
اعتقد ان الحكومات العربية خلال هذه المرحلة التي اعقبت الحرب على العراق ، هي اضعف بكثير مما كانت عليه في المرحلة التي سبقت الحرب . وبالرغم من ان اغلب تلك الحكومات كانت تقدر حجم المخاطر التي يتعّرض لها الامن في النظام العربي قاطبة اكثر بكثير مما كانت تقدرّه الشعوب ، اذ كانت اكثر عقلانية من هيجان العواطف الشعبية التي لم تجد امامها الا الصراخ ، فان الحكومات نفسها لم يكن باستطاعتها فعل اي شيىء يدرأ الحرب وما تسببه من كارثة على العراقيين او وما تنتجه من تداعيات على المنطقة بالكامل . ان العرب لا يدركون حتى يومنا هذا خطورة جيوستراتيجية منطقتهم المركزية في العالم في زمن لم يعد هناك اي نوع من التوازنات التي يمكن الاستناد عليها كما كان عليه الحال في القرن العشرين . كما انهم لم يدركوا مخاطر ما انتجته تداعيات وآثار 11 سبتمبر 2001 عليهم بالذات اذ جعلهم العالم كله وليس امريكا بالذات منتجين لعناصر الارهاب .. وكم نودي على الحكومات العربية ان تأخذ زمام المبادرة من اجل التغيير في الاساليب المتبعة والاعلام والسياسات والمبادرات والمشروعات التي تحاول ليس لاضفاء مظاهر كاذبة على العالم والامريكان بالذات ، ولكن لتأسيس تاريخ قيمي عربي حر جديد لكل من الدولة والمجتمع ينفض عنه كل تقاليد القرن العشرين واسماله البالية من اساليب الحكم ورهبة الدكتاتورية وعفن الاحزاب الثورية المؤدلجة وطقوس الشعارات الشوفينية البالية التي لم تحقق الاهداف النبيلة التي رفعتها منذ عشرات السنين .. هذا لم يحدث مع الاسف وسوف لن يحدث حتى والعرب يعايشون سقوط النظام العراقي السابق وهم يدركون حق الادراك بأن لا وجود اليوم ابدا لانظمة سياسية شمولية ماكرة ليس لها الا شعاراتها الزائفة .. ان الحكومات العربية مدعوة اليوم لا لعقد اتفاقيات مع التكتلات المناهضة للمعسكر المتحالف الامريكي البريطاني .. وانا اتساءل : اين هي تلك التكتلات المناهضة ؟ اذا كانت كل من فرنسا وروسيا والمانيا قد انصاعت جميعها للموقف الامريكي بعد ان عارضته من اجل مصالحها ، فهل هناك اية تكتلات مناهضة تتلاقى مصالحها مع مصالح العرب شعوبا وحكومات ؟؟ ان الامر لا يستحق كل ما نتصوره من التعقيدات .. على الحكومات العربية ان تستكشف اساليب تغيير جديدة لواقعها الذي يجسد التطلعات الدستورية والقيمية التي لا يمكن لأي قوة ان تهددها ، وان تعمل على ايجاد سياقات من التفاهم والتعايش مع حياة العصر ، والا فسيكون مصيرها قاتما لا قدر الله .
– ماهي الحرية التي تريدها الشعوب وماهي الديمقراطية التي تمارسها الانظمة؟
افهم من سؤالك تطلعات الشعوب للحريات وممارسة الانظمة للديمقراطية المزيفة .. ان شعوبنا مختلفة هي الاخرى في تنوعات تفكيرها ، فهل هي مستوعبة لمعاني الحريات ؟ ومعانيها واحدة واقصد بها : الحرية الشخصية والحرية السياسية في التعبير عن الرأي والحريات الاجتماعية والحريات في الاعلام وحريات التفكير .. الخ اذا كانت شعوبنا قد استوعبت فعلا تلك ” المعاني ” وانني اشك في ذلك ، لأن معانيها تصطدم قبل كل شيىء بموانع وسلطات وسدود وحدود اجتماعية ودينية قبل ان تكون سياسية وسلطوية .. لكن ربما اقول بأن تجارب الشعوب الاخرى في كيفية حصولها على الحريات السياسية خصوصا يمكن ان تستفيد منه شعوبنا التي هي – كما اعتقد – بأمس الحاجة الى التربويات الجديدة التي تعتني بامور الدنيا ومتطلباتها وتعقيداتها في فهم العالم من اجدل بناء المستقبل وفك اطواق العزلة عن التفكير المغلق الذي يسجن فيه الناس .. وتأسيس اساليب في الممارسة والتفكير على الحريات السياسية .. وهنا انتقل الى مهام الانظمة العربية قاطبة والتي لا يمكنها تأسيس اجواء ومناخات كالتي اطالب بها لتتمتع الشعوب والمجتمعات بها من دون ان تكون هناك دساتير وقوانين تضمن حقوق الانسان وواجباته وتضمن كل الخطوات الديمقراطية التي يمكنها ان تغدو تقاليد ثابتة مع مرور الزمن لتغدو الديمقراطية في التفكير والممارسة ليست مجرد مجالس تصفق للانظمة وانتخابات زائفة وبرلمانات كاذبة .. بل لتغدو الديمقراطية عنوانا للدولة وليس بوقا للنظام السياسي .. نعم ، لتغدو الديمقراطية تقاليد راسخة لمؤسسات مدنية تمارس ادوارها الطبيعية في اجواء حرة مع تغير الانظمة .. ولتغدو الديمقراطية تستند في كل ما يعبر به المجتمع وحرياته على جدار الدستور من دون اي تجاوزات لحكام دكتاتوريين وفاشيين ولا اي قرارات مجنونة لزعماء عسكريين ومتخلفين ولا سياسات مرتبكة لحكومات ولا اي نهب لسلطويات قمعية ولا اي شموليات لاحزاب احادية .. الخ ما اريد التوصل اليه ان الحريات تستلهمها الشعوب من خلال وعي مدني وتفكير مؤسساتي حتى تعمل بشكل طبيعي ، اذ لا حريات في مجتمعات متخلفة ومنغلقة .. اما الديمقراطية ، فهي مجموعة آليات دستورية للعمل ضمن سياقات لا يمكن ان تعيش في حكومات تتجاوزها او تضربها عرض الحائط .. السؤال : هل ان العرب مؤهلون لكلتا القيمتين ؟ نعم ، اذا ما خلقت المناخات والتربويات وتغير الواقع تغييرا جذريا .
ماهو موقف الحكومات من احزاب المعارضة بعد سقوط صدام؟
لا يمكننا تسميتها باحزاب المعارضة بعد سقوط صدام حسين يوم التاسع من ابريل 2003 ، فلقد غدت قوى سياسية عراقية متنوعة في الداخل والخارج . وأود أن اوضح انه برغم مخالفتي لعدد من تلك القوى على النهج والاساليب والافكار ، الا ان الواقع يفرض علينا ان نعترف بأن هذه القوى السياسية تعد اقوى واكبر قوى سياسية عربية اليوم من حيث تنوعاتها وتعدديات نزوعاتها واساليب اعمالها وانتشار عناصرها .. ولقد نشأت في اوقات وازمان مختلفة منها ما يعود الى بداية السبعينيات ومنها الى الثمانينيات وغالبيتها ابان التسعينيات وخصوصا بعد الحرب الخليجية الثانية اثر غزو العراق الكويت العام 1990 . ان من اخطر ما تحمله ذاكرة هذه القوى السياسية العراقية التي عاشت فصولا مأساوية في الداخل والخارج انها كانت مهمشة وغير معترف بها عربيا وبعيدة عن الحكومات العربية التي لم تقدم يد العون الى اي طرف منها .. وان لذلك اسبابه المتنوعة التي ليس هنا مجال الخوض فيه ، ولكنني اقول بأن الحكومات العربية لم تكن تقتنع ابدا بزوال نظام حكم صدام حسين بمثل هذه السرعة ، فضلا عن مصالح كانت تربط النظام السابق بتلك الحكومات .. وايضا فان اغلب اهداف تلك القوى العراقية المعارضة كانت لا تلتقي باهداف الحكومات العربية . المهم ما الذي سيحدث اليوم ؟ ان اغلب هذه القوى السياسية ستبدأ العمل سياسيا في العراق واغلبها يحمل شحنات مناوئة في ذاكرته عن تلك الحكومات باستثناء بعض القوى التي كانت تتعامل مباشرة مع انظمة سياسية معينة . وعليه ، فانني ارى انه من باب ابقاء المصالح المشتركة بين الدول العربية وخصوصا المجاورة والعراق في صيغته المستقبلية انما يتطلب اتخاذ مواقف ايجابية بعد كل المواقف السلبية التي اتخذت في الماضي عندما كانت هيئات وتجمعات وجبهات معارضة .. ناهيكم عن مراقبة التغييرات السياسية التي ستحدث في العراق خلال المرحلة الانتقالية والمخاض الصعب الذي سيجتازه العراق في العقد الاول من القرن الواحد والعشرين . وان النظام العربي برمته سيمر بمرحلة تاريخية حرجة جدا عندما بدأت سلسلة التغييرات في العراق على هذا النحو ، والمطلوب من الحكومات العربية قاطبة وخاصة الدول المجاورة للعراق ان تعترف بكل التغييرات التي ستحصل في العراق ، علما بأن اي تمسك باهداب واسمال النظام السابق سيضر ذلك بأي حكومة عربية ضررا بالغا .. وعلى الحكومات العربية ان تراقب التجربة العراقية وتتعلم من دروسها بدل المكابرة في مستنقعات وضعت فيها وهي غير قادرة على الخروج منها ابدا الا من خلال التغيير .
(الحرية) , (الديمقراطية) , (المشاركة السياسية) , (حقوق الاقليات) , مصطلحات مرشحة للتداول بشكل كبير في المستقبل القريب وبشكل واسع , وستجد بعض الحكومات العربية والاسلامية مضطرة لاستيعابها .. هل ترون الية مقترحة لاستيعاب هذه المفاهيم من ناحية شرعية وواقعية؟
انه منطق هذا العصر بعد زوال الحكومات الشمولية والانظمة الدكتاتورية وبداية تطلع المجتمعات للمزيد من نيل حقوقها المضاعة .. انها في الحقيقة ليست مصطلحات جديدة ولكنها موجودة ومعروفة منذ ازمان بعيدة ، ولكن عندما طرقت الاجراس باسمها من قبل الاخرين ، بدأنا نرشحها للتداول وخصوصا بعد 11 سبتمبر 2001 في حين كانت شعوب العالم الاشتراكي قد نفضت عنها السقوف وحطمت الجدران وبدأت العمل بها منذ سنوات طوال اثر سقوط الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية . اننا نحن العرب قد مارس البعض من مجتمعاتنا الحياة الليبرالية وعملوا بهذه المصطلحات في فترة ما بين الحربين العظميين ابان النصف الاول من القرن العشرين ، ولكن اغتيلت التجارب الليبرالية العربية على مرحلتين اثنتين ابان النصف الثاني من القرن العشرين ، اولاهما الانقلابات العسكرية في اكبر البلدان العربية وثانيهما التداعيات التي افرزتها الثورة الاسلامية في ايران .. وعليه ، فان مجتمعاتنا التي غرقت بمفاهيم وافكار وشعارات وسجالات غدت نزوعات راسخة في التفكير الجماعي واللاوعي الجمعي .. عدت مصطلحات الليبرالية ومفاهيمها غريبة وكأنها من صنع القادمون الجدد ! ان المهم ليس حكوماتنا العربية والاسلامية في ان تأخذ او لا تأخذ بمثل هذه المفاهيم والمصطلحات الليبرالية .. المهم ، هل ان مجتمعاتنا ستستوعبها بشكل هادىء وبمنتهى الشفافية ومن دون اي احتجاجات او اي رفض ؟؟ ان على الحكومات العربية والاسلامية قاطبة وخصوصا العربية منها مهام صعبة من اجل تغيير كل اساليبها الدعائية والاعلامية والثقافية والتربوية من اجل استيعاب المجتمعات ليس للاشكال والمسميات فقط ، بل لغرس المفاهيم الليبرالية في التفكير السائد واتاحة الفرص امام كل المجتمع للتعبير بكل حرية عن مكبوتاته من اجل حل جميع التعقيدات التاريخية والفكرية . ان اصوب الاليات التي لابد من تأسيسها : تنزيه ديننا الاسلامي الحنيف عن مستنقعات السياسة وادرانها ، وابقائه بكل معانيه الروحية السامية في الاعالي بعيدا عن امور الدنيا وتناقضاتها . واشاعة المناخات الجديدة في العمل السياسي وفسح المجال في التعبير لكل الهيئات الاجتماعية من خلال اصدار قوانين تسمح بالاحزاب السياسية واجراء الانتخابات في كل تأسيس بلدي او اداري او سياسي . ثم اصدار تشريعات جديدة تخص تغيير المناهج التربوية المدرسية وفسح المجال للحريات الاكاديمية العربية في خلق جيل عربي متمدن وواقعي التفكير . ثم الابتعاد اعلاميا عن الشعارات الفضفاضة والانشائيات الرخوة والطوباويات والخيالات في معالجة المشكلات الجسيمة .. الخ اذا ما اتبعت مثل هذه الاليات في مجتمعاتنا وبكل قوة وثقة من قبل حكوماتنا ، فسنمشي رويدا رويدا على طريق المستقبل .. والا فمصيرنا صعب جدا في عالم يتفوق علينا في ليبراليته ومصالحه ومؤسساته وكل مناخاته واجوائه ومداراته .
نشر في الحياة وصحف اخرى عشية الحرب على العراق 2003
الرئيسية / حوارات / كيف نتعامل مع المفاهيم الجديدة بعد الحرب ؟ وآليات عملية مقترحة لاستيعابها من اجل المستقبل.. نص الحوار الذي اجراه الاستاذ عبد الحميد شاهين
شاهد أيضاً
ملف: إمكانية حكم دكتاتور عادل للعراق.. حوار عراقي مصري بين الدكتور سيّار الجميل والأستاذ عبد الله كمال على روز اليوسف المصرية
مقدمة كتب الصديق الأستاذ عبد الله كمال عضو مجلس الشورى المصري ورئيس تحرير كل من …