الرئيسية / حوارات / عندما كان للثقافة مركز – مكان.. حوار ايلاف مع المفكر العراقي سيّار الجَميل

عندما كان للثقافة مركز – مكان.. حوار ايلاف مع المفكر العراقي سيّار الجَميل

ما ذاك المكان في ذاكرتك وكيف تقييمه اليوم؟
لكل مكان جمالياته ، ولكن ما اجده فيه قد لا يجده غيري عنه .. والمكان كالانسان اشبهه دوما فهناك مكان خفيف الظل وهناك ثقيل الدم . لقد اختلفت حتى الاماكن العربية التي كنا نرتادها قبل ثلاثين سنة بحكم اختلاف الحياة العربية .. العواصم العربية الثلاث : القاهرة وبغداد وبيروت ليست كما كانت قبل خمسين سنة ، ولعل ذاكرتي عن بغداد التي كانت قلبا نابضا بالحياة لم تزل تمنحني احاسيس وخلجات لا متناهية ابدا .. فكل خفقاتها في الماضي الجميل يذكرني بعبقها في الصباح وبنشوتها عند الظهيرة وبجماليات امسياتها ودفق لياليها ولكل جزء منها مجموعة رائعة من الصور مقاهي الصباح في القلب وزحمة مطاعمها في الظهيرة وسيماواتها وانشطتها الثقافية في الامسيات وسحر شواطىء دجلة في الليالي . ولعل اكثر عاصمة عربية حية نالت من التشظي والعتمة والانهيار هي بغداد .. وهذه عادتها ، فلقد تعودت ان تصل الى اوج روائعها ثم تنتكس ثانية وهكذا دواليك على امتداد تاريخ طويل .. واذا كنت ايضا ألوم هذا الزمن وما فعله ببقية عواصمنا التي غدت كسيحة نتيجة للسياسات السيئة وهجمة الريف على المدينة وافتقاد روح الليبرالية التي عاشتها تلك العواصم الثلاثة قبل خمسين سنة .. ولعل بيروت برغم كل المآسي هي الافضل حتى الان .

هل تفضّل، على غيابه، وجود هذه الأمكنة – المراكز (الخليج، المغرب، المهجر
الانجليزي…) التي تتحرك اليوم، وفق ما تملي عليها محليتها، لا يهمها الريادة
الثقافية، أم تفضّل أن يكون هناك مركز – موئلٌ لاعباً دور المحرك الثقافي والرائد؟
من مثالب الحياة العربية ايضا ان مركزية الاعلام قد طغت على مركزية الثقافة ، وان الثقافة العربية بحد ذاتها قد هزلت امام التدفقات الاعلامية الطاغية .. انني لا استطيع ان أفّضل غياب بغداد او القاهرة او بيروت على حساب مراكز اخرى ، فالثقافة ليست صورة واحدة او تكوين معين .. انها بنية حافلة بكل الفعاليات والاساليب والابداعات والانشطة والالوان والحقول والخصوصيات .. فان لم تجتمع هذه كلها منذ ازمان في مكان معين يهيمن على الذاكرة مساحة واسعة من الزمن ، فلا يمكن ان تعّوض اي مدينة ما يمكن ان تقدمه مدينة اخرى .. ابدا ! سواء كنا في دواخل البيئات العربية ام في المهاجر ؟ ربما كانت لندن او باريس مهجران عربيان لهما تأثير واضح ولكن لم تجتمع كل المكونات الثقافية العربية فيهما .. اما دبي ، فهي تحتل اليوم مركزية قوية جدا في الاعلام العربي ولكن لا يمكن ان اقارنها مع بيروت التي لم تزل تحتل المركز الاول في الطباعة والنشر والتوزيع . اما المغرب ، فان الثقافة فيه مزدهرة جدا ولكن ليس هناك ثورة اتصالات عربية كي يدرك كل العرب ما طبيعة مركزية المغرب الثقافية ؟ ان المهرجانات والكرنفالات لا تخلق مركزية ثقافية لا من الناحية الجغرافية ولا من الناحية التاريخية .

كيف حدثت هذه النقلة الثقافية من مكان معلوم، إلى أماكن بلا علامة؟
ان كانت هناك نقلات اعلامية او محاولات ثقافية او بداية لتشّظي مركزيات عربية قد حدثت ، فان السبب الحقيقي وراء ذلك فقدان الحياة الليبرالية العربية من كل من بغداد والقاهرة لقراية خمسين سنة .. اما بيروت ، فيكفي ان ثلاثين سنة من حياتها عاشتها بين حرب اهلية وقيود امنية .. كلها كانت كافية لتشّظي المكان المركز .. لقد حدثت نقلات ومحاولات نقل ثقافي الى المغرب والخليج بفعل الاستقرار السياسي والمناخ الليبرالي الذي حظي به الطرفان ، ولكن الذي حال دون خلق المركز تباين السياسات الهمجية العربية ، فهل يمكن للمرء ان يتصور حياة ثقافية رائعة تطورها الكويت مثلا منذ قرابة خمسين سنة اجهز غزو صدام عليها ! ولا ننسى ايضا بأن ازدواجية الابداع الثقافي في كل من تونس والمغرب والجزائر بين ما ينتج عربيا وما ينتج بالفرنسية قد قلل من شأن اي مركزية يسعى اليها المغرب .. وثمة وهم مسيطر على التفكير العربي المعاصر ذلك ان الثقافة يمثلها الاعلام ، وهذا خطر من جنس آخر . ان الثقافة لا تخلقها الاجهزة الحديثة ولا ثورة المعلومات البدائية التي تسبح بحمد التراث ولا يبدعها ساسة ورجال دين او اعلاميون كاذبون .. الثقافة ابداع على مستوى خلق الاساليب والتشيؤات والتعابير والنصوص والتعاملات وكيفية التعاطي مع الحياة وكل جمالياتها وعناصرها .

الثقافة مستقبلٌ، لكن أيَّ مكوّنٍ من مكوناتنا الثقافية، يتحرك اليوم إلى الأمام؟
ليس هناك – مع الاسف – اي مكّون ثقافي عربي ابداعي يتحّرك نحو الامام .. وسيبقى الوضع هكذا وربما يسوء كثيرا عما كان عليه . في اي تخصص او اي حقل او اي تكوين ثقافي يمكننا القول بأن الثقافة العربية قد اسهمت في الثقافة البشرية المعاصرة ؟ هل تفوقنا بموسيقانا العربية ؟ هل اصبح الشعر العربي اليوم عنوان حقيقة العرب وثقافتهم ؟ هل تميزت ثقافتنا العربية اليوم بفلاسفتها ؟ هل استطاع المكّون الفني والتشكيلي على وجه الخصوص ان يصل الى درجة العالمية في اي بيئة عربية ؟ اين هو دور الجامعات العربية التي غدت ميتة ثقافيا ؟ اين هي ادوار المجامع اللغوية والعلمية العربية التي غدت كسيحة جدا ومشلولة ؟ ربما كانت هناك تفوقات فردية واغلبها في بيئات مهاجرة .. فهي ليست من مكونات ثقافتنا المعاصرة . ثقافتنا مستقبل وحجم ما يطبع وينشر من كتب السلف اضعاف مضاعفة لما ينتج في الثقافة العربية المعاصرة .


أين هو مركز الإشعاع الثقافي عربياً اليوم؟
انني اعتقد ان بيروت لم تزل برغم كل ما تعيشه من معضلات هي الحاضنة وليست المركز ، مع وجود مناطقيات فيها بعض توهجات .. ولكن غير متكاملة في المركزية التي افهمها . لم تزل بيروت يتراكض اليها العديد من المنتدين والمؤلفين والمثقفين وكل القراء والعديد من الفنانين .

لماذا هناك عشرات المجلات القيّمة، ومع هذا تبدو بلا فرادة تاريخية؟
ليست هناك عشرات من مجلات عربية قّيمة ، بل ثمة مجلات تقليدية او حداثوية عربية تصدر كل شهر او كل فصل .. ولكن من يقرأ تلك المجلات ؟ ان العرب وخصوصا الجيل الجديد ليس جيل قراءة وليس جيل ثقافة .. انه مدجّن على الاعلام المرئي بشكل خاص ! انه جيل لم يترب على تكافؤ ثقافي مع اهتماماته في الحياة ! انه جيل ينظر الى العالم كله من زاوية محددة واحدة ! ان السياسة والاعلام والتراث قد اكلا كل الزمن وكل الاهتمام وكل التفكير .. وهل يستوي ما يطبع وينشر من مجلات مع الوزن الديمغرافي السكاني العربي المعاصر ؟ هل هناك مجلات عربية اساسية تحتل مكانة عالية في الثقافة ؟ لذا انه بالرغم من قدم بعض المجلات العربية ولكنها تبدو بلا فرادة تاريخية !

ما فائدة كل هذه التنظيرات التي تعجّ بها معارضُ الكتب العربية، وما هو ثابت في
الأذهان، ثابت ثقافياً، لا يمكن زحزحته؟
معارض الكتب العربية سوق رائجة في العديد من العواصم العربية . ولكن لمن ؟ لكثرة هائلة من اولئك الذين ليس لهم من الكتاب الا ان يكون تراثيا وملونا ومذهبا كي يقتنيه ويتفاخر به ! هناك مثقفون عرب لا يمتلكون دفع ثمن كتاب رصين واحد ! هناك كتب تعج بالتنظيرات السياسية ، ولكنها لا تتضمن اي رؤى او ابداعات او حتى افكار جديدة .. ان كل عام ربما ان احصى المرء حجم ما ينتج من كتب عربية يكتبها مؤلفون عرب ولها حظوة قوية من القوة ، فالنتيجة ستكون مخيبة جدا لآمالنا العربية .

أي مخرج يُرتأى من مأزق حاضرنا الثقافي الذي أخذ يُنمّي، من جهة، حنيناً سكونياً
إلى ماضٍ حركي في زمنه، ومن الجهة الأخرى يُشكك بكل مغامرة جديدة كل الجدة،
باختزالها آلياً إلى نوع من مغامرة، سبق أن رأيناها؟
ثمة سبل حقيقية لكنها ستأخذ لها زمنا طويلا من اجل اخراج ثقافة العرب من مأزقها ، منها : اعادة ترسيخ الليبرالية العربية وتحديث كل المناهج التعليمية وزرع التفكير المدني في النفوس .. والخروج من قوقعة التراث الى عصر الحداثة .. والانفتاح على تجارب العالم الثقافية ومجابهة التحديات بالتلاؤم مع روح العصر .

أيّةُ خاتمة لعالم المكتوب، وأنَّ أيَّ اكتشاف، مهما كان، لم يعد اليوم دهشةً ولا
تغوّراً، وإنما مجرد وسيلة أخرى للقضاء على مصادر (بعبع) أُصبنا به: الإرهاب؟
الارهاب نتيجة وليس سببا ، ولكن ان استمرت ظاهرته فسيؤثر في الصميم من الحياة العربية التي نعرفها . ان قطع دابره لا يتم ليس بالقضاء فعلا على مصادره ، بل بتحييد مصادره ان تكون هي المتحكمة في تفكير الانسان وحياته ومصيره . وانني اعتقد بأن الزمن سيضعف كثيرا من نشاط تلك المصادر ، ولكن ما اخشاه هو ما سينتجه من آثار جسيمة على مصالحنا العليا في عالمنا الكسيح . ان مشكلتنا اليوم ليس في كيفية قطع دابره واستئصاله ، بل مشكلتنا مع من لم يعترف به كظاهرة اجرامية ، وهؤلاء ليسوا فرادى بل ملايين من العرب والمسلمين . تلك هي المشكلة . وهذا جانب خطير غير منظور يكرس الكراهية بيننا وبين كل العالم ، فاغلب العرب والمسلمين يكرهون العالم غربا ام شرقا ، وبدا العالم كله شرقا وغربا يكرهنا .

لماذا بتنا وكأننا نعيش بلا مستقبل، بين ماض “أبيض” وحاضر “أسود”، أسرى جمال فترة
بقيت في الماضي، أشبه بمنظور نُطلُّ منه على غد جوّال.
أنعيش، نحن العرب، على عكس المجتمعات الطبيعية، الأوروبية مثلا، التي حققت ماضيها
على نحو تعيش معه حاضراً، بوصلتُه مستقبلٌ الحنينُ، ليس نكوصاً، وإنما رغبة في
المزيد لا غير؟
نعم ، بتنا نعيش نحن العرب على عكس كل مجتمعات الدنيا ، لأن لم نعش ثورات فكرية حقيقية تغّير من تفكيرنا .. وان كل تجاربنا الاصلاحية والثورية والانقلابية كانت فردية و سلطوية وحزبية وضيقة وانتهازية ومفبركة .. لم يستطع العرب على وجه الخصوص ان ينجحوا في اي مشروع حضاري حديث ، لأن الانقلابات العسكرية والنزعات الفاشية قد جعلتهم اصفارا على الشمال وامتهنت المجتمعات واهانت التكفير وقتلت الليبرالية ونحرت الثقافة .. وجاءت انقلابية 1979 في ايران لكي تكمل المهمة التي بدأتها النزعة الاصولية باستخدام الدين في السياسة استخداما دمويا ، فانقلب الفهم من خلال العاطفة من دين مشروع لبناء الحضارة ونشر التسامح والمحبة الى دين مشروع للقتل وتصدير الارهاب .. فبدأت حركات التكفير وانتشرت الجماعات والاحزاب والقوى التي صادرت الحياة العربية والاسلامية باتجاه آخر لم يعرفه تاريخنا ابدا ، ولم يقتصر على الحرب ضد الدول ، بل غدا عدوا لدودا لكل المجتمعات .
صحيح أن الحاضر صنيعة الماضي، لكن الماضي هو أيضاً صنيعة حاضر تقوى فيه القراءة
الجدية على رؤية مسار تاريخ مجتمع بأكمله، لتقف عند محطة جوهرية لم ينتبه إليها أحد
في ذلك الماضي – التاريخ: وها هو الحاضر ماضٍ، يطلع من نفق مواض كانت تمنعه من
التقدم.
نعم ، الماضي مغيّب ومجهول بكل مزاياه وخطاياه عن تفكير العرب اليوم ، وما يعرفه الناس من الماضي هو صنيعة هذه القوى التي نشطت في القرن العشرين ، وجعلت الماضي تكيفه حسب مزاجها ، بحيث سيطر سيطرة عمياء على كل التفكير . فالمهمة صعبة جدا واكبر مما نتخّيل .. وان التغيير لا يمكن ان يحدث بسهولة وسط بحر هائج من الغلو والفوضى الفكرية والعقم الفلسفي والهزال الثقافي والسياسات البالية والتقاليد الجائرة .. سيأخذ ذلك ازمانا حتى يبدأ الوعي يعمل من جديد .

ايلاف يوليو 2005

شاهد أيضاً

ملف: إمكانية حكم دكتاتور عادل للعراق.. حوار عراقي مصري بين الدكتور سيّار الجميل والأستاذ عبد الله كمال على روز اليوسف المصرية

مقدمة كتب الصديق الأستاذ عبد الله كمال عضو مجلس الشورى المصري ورئيس تحرير كل من …