الرئيسية / ابحاث ودراسات / المسيحيون العراقيون.. الحلقة 1/5 حفريات عن جذور تاريخية

المسيحيون العراقيون.. الحلقة 1/5 حفريات عن جذور تاريخية


مقدمة : أهمية الموضوع
نظرا لاهتمامي الشديد بالتاريخ الاجتماعي العراقي واعتزازي الشديد بكل الأطياف الاجتماعية العراقية ، وخصوصا طيف المسيحيين منهم بمختلف مللهم وطوائفهم وطبقاتهم ، فاسمحوا لي بمعالجة سلسلة تاريخهم ، وتحليل تكوينهم ، ومقاربة عراقيتهم من خلال درس انثربولوجي .. فضلا عن رؤى منهجية مهمة ، ثم تحليل الجذور التاريخية وربطها بالواقع المعاصر خصوصا وان المسيحيين العراقيين – كما قلت في كل ما نشرته عنهم سابقا – ، هم من أقدم سكان العراق الحضريين ، والذين عاصروا سلاسل اسر حاكمة ، ومنوال عدة دول متنوعة إبان أحقاب متعددة ، وقد اثروا الحياة العراقية والإنسانية بالمزيد من العطاءات الحضارية والثقافية .. ولما كانت الآلاف المؤلفة منهم قد غادرت وهاجرت من العراق نحو العالم الجديد إبان القرن العشرين ولأسباب شّتى سياسية واجتماعية وأمنية بالدرجة الأولى ، فان من الواجب الاعتناء بحياة هذا الطيف المتلون سواء كان في مدننا العريقة أم في أريافنا الشمالية الخصبة .. وإنني اشكر كل الذين تداولوا عدة مقالات قمت بنشرها عن المسيحيين العراقيين منذ العام 2003 ، واشكر أيضا كل الذين دعوني إلى مؤسساتهم الأكاديمية من أجل المشاركة في موضوعات خاصة بالمسيحيين العراقيين ، وأثني على بادرتهم الرائعة بالتعريف بأهم ما لدينا نحن ليس في العراق وحده ، بل في كل منطقتنا من سكان قدماء شاركونا السراء والضّراء وعاشوا على أرضنا منذ آلاف السنين .. مؤملا تحفيز العرب كلهّم من اجل معرفة حقائق مجتمعاتهم كاملة من دون أي تعّصب لملة ، أو دين ، أو طائفة ، أو عرق ..

الاستشارات
لقد اعتمدت في كتابة هذه ” الدراسة ” على جملة كبيرة من المصادر والمراجع المهمة سواء بالعربية أو بلغات أخرى ، وقد استفدت من معلوماتها الواسعة ، خصوصا ، وان بعضها قد استخدمته منذ سنوات خلت في بحوث ودراسات أخرى . هنا ، ينبغي القول ان ثمة كتابات عدة من قبل مؤرخين وعلماء اجتماع عراقيين تدارسوا المجتمع العراقي وعشائره ومدنه ومحلياته والعديد من اطيافه السكانية كالاكراد والتركمان والصبة المندائيين واليزيدية والشبك وحتى اهل الجبايش ، ولكن لم نجد اية دراسات اجتماعية حديثة عن كل من اليهود والمسيحيين العراقيين . وبالرغم من ذلك كله ، فلقد اعتمدت هنا اساسا على المصادر والمراجع التي كتبها مسيحيون عراقيون وبعض المستشرقين . هنا اشير الى ما كتبه كل من بطرس نصري الكلداني وماري بن سليمان والمار أدي شير والاب لويس شيخو اليسوعي وعمر بن متى والقس اسحق ارملة وبطرس عزيز والمطران سليمان صايغ وروفائيل بابو اسحق والعلامة انستاس ماري الكرملي والمؤرخ يوسف غنيمة والبروفيسور ماتييف ، والمار غريغوريوس صليبا شمعون والدكتور يوسف حبي والمؤرخ هرمز ابونا والمؤرخ جورج البناء والدكتور ابرام شبيرا والدكتور بهنام ابو الصوف والدكتور لويس ساكو وبنيامين حداد وايشو مالك جوارو وغيرهم .. ومن المؤرخين والمستشرقين الغربيين : السير هاري لوك وجون جوزيف وجوستن بيركنس وبوزورث وعزيز عطية وجارلس فريزا وفيليب حتي والبرت حوراني وسيتون لويد ودبليو ويكرام وغيرهم . وبهذا الصدد ، فإنني أقدم الشكر الجزيل لكل من ساعدني في توفير المصادر والكتب والمقالات ، واخص بالذكر المؤرخ جورج البناء والسيدة أميرة بيت شموئيل والأستاذ بهنام حبابة والدكتور باسل بهنام والدكتور فاضل بيات ( الذي أمدّني ببعض مصورات الأرشيف العثماني ) وغيرهم .

لماذا هذا ” البحث ” ؟
أنني اقدم هذه المحاولة البحثية إلى المسلمين قبل المسيحيين ، ليدرك البعض حقائق التاريخ ، وقوة التحديات .. وهنا أدعو علماء التاريخ ورجال الاجتماع والانثربولوجيا من المسيحيين والمسلمين في منطقة الشرق الأوسط كلها ، للعمل والتنقيب من اجل تقديم دراسات معمّقة وحيادية من دون أية انحيازات مذهبية ، ومن دون أية تضخيمات تاريخية ، ومن دون أية ادعاءات لا تستند إلى وثائق وآثار دامغة .
علينا أن نوّضح في محاولتنا المتواضعة هذه ، بأن المسيحيين العراقيين اليوم ومنذ أحقاب مضت ، بنية غير متماسكة أبدا ، فهم ينقسمون إلى نوعين من الانقسام ، أولاهما : انقسام مذهبي يجعلهم مللا طائفية غير متلاقية ، إذ كانت إلى زمن ليس ببعيد لا تتزاوج ولا تتصاهر ولا تشترك معا ليس لأسباب كنسية فقط ، بل لأسباب اجتماعية وطبقية ، إذ نجد أن فوارقَ بنيوية مترسخة بين أبناء المدن من الحضر وبين ابناء القرى الفلّيحية (= الفلاحين ). وثانيهما : انقسام تاريخي يجعلهم ( ضمن الانقسام الأول ) طوائف عرقية ولغوية متنوعة ، أي بين من يتكلم العربية باللهجة الموصلية وبين من يتكلم بالآرامية المحلية . وسنشهد من خلال محاولة في حفريات هذا ” الموضوع” الشائك بأن المسيحيين بشكل عام والعراقيين منهم بشكل خاص لم تهدأ انقساماتهم منذ مطلع نشوء المسيحية في الشرق ، كما هو حالها في أحقاب تلت في الغرب ، بل وان الغرب المسيحي قد أثّر تأثيرا واضحا في كل من التركيبتين الأولى والثانية منذ القرن السادس عشر حتى القرن التاسع عشر .
أتمنى أن تنال كل أطياف العرب الاجتماعية عطفا حقيقيا ، خصوصا إذا ما علمنا بأن المسيحيين العرب والعراقيين بالذات ، هم من أقدم الناس ، وأمجد الأقوام في تعايشهم وشراكتهم مع المسلمين منذ مئات السنين .. ولم تحدث أية صراعات دموية ، ولا أية مشروعات قتل جماعية ، كما يدعي البعض من الجهلاء بالتاريخ ، أولئك الذين يريدون أن يختلقوا الفتن الجديدة في مجتمعاتنا من دون معرفتهم بحقائق التاريخ والمجتمعات ، وهم يوهمون الناس بأن صراعات دينية مأساوية قد حصلت بين المسلمين والمسيحيين ، ولا يمّيزون أصلا بين الصراعات العرقية والاختلافات الدينية ، ولا يستوعبون من وقف مع المسيحيين ومن وقف ضدهم .. إننا في العراق ، وبشهادة بطاركة ومطارنة وقسس وكّتاب .. يقرّون بالحياة التاريخية المشتركة المسالمة ، وعلى رأسهم شهادة الكاردينال عمانوئيل دلي الذي يقف على رأس الكنيسة المسيحية الكلدانية في العراق والعالم . لقد سادت المحبة وعّم الاعتزاز بهذه الأقوام العريقة والجميلة في كل مكان من ارض العراق ، وخصوصا في المناطق القديمة التي عاشوا فيها منذ آلاف السنين .

رؤى منهجية واشكاليات الموضوع
إن من يبحث من المؤرخين في هذا ” الموضوع ” ، وخصوصا في جذوره القديمة ، سيجد صعوبة بالغة جدا في رسم ملامح حقيقية عن الأصول المشتركة ، أو المفترقة بين بقايا الأقوام العراقية القديمة ، وهذا ينسحب في حقيقة الحال على المسيحيين العراقيين الذين وجدنا كم الاختلافات في ما بينهم كبيرة حول عراقة كل ملّة من الملل ، وقد أتى هذا ” الاختلاف ” في التسميات التاريخية والشكليات الاجتماعية بطبيعة الحال أكبر من الاختلافات المذهبية والكنسية واللاهوتية في تقديم كل ملّة نفسها على الأخرى ، فمنها ما يكتسب طابعا دينيا حقيقيا بمجمل انقساماته التي شهدها التاريخ ، ومنها ما يصبغ نفسه بالصبغة القومية كي يبحث له عن جذور عريقة جدا لتأكيد أصالته وهويته وهو ليس بحاجة إليها أبدا كونه يمتلكها .. وربما كان ذلك صحيحا .. ومنهم ما نجده يبعد نفسه عن بقية النحل القومية ، كي يقدم نفسه وصبغته باعتباره هو الأصل ، فالسريان مثلا هم غير الكلدان ، وان كّلا منهما غير الآثوريين ، ربما كان الأصل واحدا ، ولكن المشكلة في التسميات والتفسيرات . ولعل مصطلح ” السريان ” و ” الآراميين ” هو الأقدم في الأدبيات الكلاسيكية ، إذ أن كلا من تسميتي ” الكلدان ” و ” الاشوريين أو الآثوريين ” هي تسميات تاريخية حديثة ولدت في القرون المتأخّرة ومستلهمة عن حقائق تاريخية قديمة ..
ولقد قرأت مشاحنات وحوارات ساخنة تؤكد نزعة الانفصال السرياني الآرامي عن العروبة في حين كان البعض من المسيحيين أنفسهم قد وجد بأن السريان عربا ! ولقد وجدنا من يؤكد عروبة المسيحيين مستندا على مناذرة العراق وغساسنة سوريا أو غيرهما .. بل وان العديد من المستشرقين يؤكدون بأن الآرامية هي أخت العربية كونهما من جذر واحد نما من الجزيرة العربية .. واليوم ، بدأنا نسمع بمصطلح جديد هو ” الكلدوآشوريين ” كحاصل جمع يدمج الكلدانيين والاثوريين معا في تسمية واحدة.. وهو المأخوذ من عنوان العلامة أدي شير ” كلدو آثور ” لكتابه . ولقد قرأت – مؤخرا – كتابات مسيحية عاطفية ضد العرب أنفسهم ، بل ووصل الأمر ببعض الأخوة أن يجعل المسيحية العراقية لا تمّت بأية صلة إلى العروبة ، علما بأن كل المفكرين والادباء والمثقفين النهضويين المسيحيين الأوائل ، كانوا يعتبرون انفسهم عربا ، وانهم قد حملوا مشعل العروبة منذ القرن التاسع عشر ، بل واعدم بعضهم مع الشباب المسلمين على يد الوالي جمال باشا السفاح في بدايات القرن العشرين .
وتبدو الصورة ضبابية ومشوّشة حتى عند المسيحيين العراقيين أنفسهم ، فميراثهم الكنسي يتفوق جدا عندهم على ميراثهم التاريخي وخصوصا من الناحية الوثائقية.. ولا ننسى بأن الانقسامات التي واكبت مسيرتهم التاريخية الطويلة على مدى زمني يقرب من ألفي سنة قد جعلتهم يفسرون معلومات مبتسرة ونادرة تفسيرات تلاءم كل طرف منهم على حساب الطرف الآخر .



صراع التسمّيات من الانقسامات الدينية الى الانقسامات القومية

إنني كمؤرخ عراقي وعربي ومسلم ، لا أريد أن اتدخّل أبدا بشأن الانقسامات الداخلية لدى المسيحيين العراقيين ، إلا بالقدر الذي انقله عن هذا أو ذاك منهم .. ولما كنت على علاقة وطيدة ولي صداقات قوية بكل الأطراف من الملل والطوائف المسيحية العراقية ، وأتعاطف مع الجميع منهم ، فلا أريد أن اتبّنى أي موقف لهذا على حساب ذاك . ولكن دعوني أتوكأ على رؤية الأستاذ بنيامين حداد عندما فسّر منتقدا ” الأزمة ” في واحدة من مقالاته التي اسماها بـ ” صراع في التسميات ” .. إذ يقول : ” استميحكم عذراً أيها الأخوة إن قلت: أننا قد أصبنا بعقدة التسميات، فأجدادنا الأوائل .. تخلوا عن كل تسمياتهم القومية بلا استثناء، ليس هذا وحسب بل أنهم أقاموا حاجزاً منيعاً يفصلهم عن كل ما يمت بصلة إلى كل ما يذكرهم بالعهود الوثنية السالفة .. وتبعاً لذلك أطلق علينا إخوتنا العرب تسمية (السريان) دون تمييز بين كنائسنا، ليس هذا وحسب بل إن أجدادنا بعد أن كانوا قد تبنوا إلى جانب لغتهم الآكدية، اللغة الآرامية التي تمكنت من فرض نفسها ومن ثم أن تطغى وتزيح لغتهم الأصلية الآكدية، عمدوا هنا أيضاً إلى نبذ اسم اللغة الجديدة هذه أي الآرامية كما ذكرنا، وأبدلوه بالسريانية، بسبب ما كان من علاقة لفظة الآرامية بالعهود الوثنية. أما الغربيون ونقصد بهم هنا الفرنجة، فقد أطلقوا علينا بدورهم لفظة Syriac أو Syrian . وعلى لغتنا Syriac أي أن كلاً من العرب والفرنجة أطلقوا علينا جميعاً ودون تمييز لفظة السريان والتي ارتضيناها لأنفسنا بعد التنصر. وتلك لعمري شهادة بيّنة من العرب والغرب على أننا شعب واحد وأمة واحدة، ولم يفرقوا بيننا كما فعلنا نحن تجاه أنفسنا “.
ويتابع قائلا : ” أن كرسي الجاثاليق المشرقية بعد أن انشطر إلى أكثر من كرسيين، فلقد اتخذ الشق الذي تبنى مذهب روما الكاثوليكي اسم (الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية) وسمي الجالس على هذا الكرسي (بطريرك بابل على الكلدان) ولم ينفِ صفة المشرقية عنه. واحتفظ الشق الثاني من الكنيسة بمعتقده، أما كنيسته فقد أضاف إليه لفظة (الآثورية) فغدت تكنى (الكنيسة الشرقية الآثورية) أو (الكنيسة الشرقية الآثورية القديمة). في حين لم يتخلَ الشعب في كلتا الكنيستين عن تسمية (سورييا: سورايي). التسميات التاريخية القومية (الكلدانية والآثورية وغيرهما) التي أعيدت وكنيت بها كنائسنا، فبالإضافة إلى أنها بتعددها عملت على تكريس وترسيخ التشتت والتمزق .. فهي قد أوجدت من الغموض والارتياب لدى الكثيرين في صدق الانتماء العقائدي ، من كلا الطرفين، سواء من حمل التسمية الكلدانية أو الآشورية. فالآشوريون على ما تذهب الغالبية العظمى من المؤرخين هم من الأصول السامية الآكدية ولغتهم الأصلية هي الآكدية، نزحوا من السواحل الغربية للخليج العربي، واستوطنوا في حوالي 3000 ق.م المنطقة الشمالية من بلاد الرافدين الممتدة على ضفة نهر دجلة اليمنى وأسسوا دولتهم. كما يخبرنا الآثاريون بأن موطن الكلدانيين الأوائل على الشواطئ الغربية للخليج العربي حيث تأسست هناك منذ القرن الثامن عشر قبل الميلاد أو ربما قبل ذلك، سلالة الأمراء التي عرفت لدى المؤرخين بسلالة (القطر البحري) ومن ثم زحفوا نحو الشمال إلى (سهل شنعار) وأسسوا دولتهم المعروفة في بابل. وهذا يعني أن أجدادنا القدامى بغض النظر عما تسموا به من تسميات شعب واحد، وجد على أرض واحدة ومنها انطلق واستوطن بلاد النهرين من شماله إلى جنوبه ” ( انتهى النص ) .
من جانب آخر ، أصدرت الحركة الديمقراطية الآشورية في نوفمبر / تشرين الثاني 1991 كراسا بعنوان : ” الكلدان مذهب ام قومية .. ” تؤكد فيه ان الكلدانية مجرد انتماء مذهبي للكاثوليك الملتزمين بالطقس الشرقي ( ص 17 ) . وللتأكيد على ذلك تضمن مقولات ونصوص وآراء كتبها كل من الاب يوسف حبي في بحثه ” من هم مسيحيو العراق ” ، وبهنام ابو الصوف في محاضرته ” علاقة كلدان اليوم بكلدان الامس ” استنادا الى احكام المطران ادي شير والمطران يوسف بابانا والقس بطرس نصري ويوسف ككا وغيرهم .

تباين التسميات
يقول العلامة أدي شير في كتابه المعروف (كلدو آثور): “ومن البلاد التي كان أصل سكانها كلداناً (بيث قطرايي) المقصود بها الساحل الغربي للخليج العربي من الكويت شمالاً وحتى أقصى عمان جنوباً، وكان سكان تلك البلاد يتكلمون الكلدانية” ويقول صاحب كتاب (الآشوريون في التاريخ) إيشو مالك جوارو: “ومن البلاد التي أصل سكانها من الآشوريين، سكان السواحل الغربية للخليج العربي وكانوا يتكلمون الآشورية”. وصاحب كتاب (كلدو آثور)يعتبر الآشوريين والكلدانيين شعباً واحداً مستنداً إلى مراجع عديدة من ضمنها ما جاء في الكتاب المقدس (تكوين: 10: 11 ـ 12) ونصه: “ومن تلك الأرض (يقصد أرض بابل) خرج آثور وابتنى نينوى وساحات المدينة وكالح، وراسن بين نينوى وكالح وهي المدينة العظيمة” ويضيف أدي شير قائلاً: “ومما يشهد جلياً على أن الآشوريين والكلدانيين شعب واحد، كون لغة الآشوريين ولغة الكلدانيين واحدة وكذلك قل على ديانتهم وتمدنهم”.
وفي موضع آخر من كتابه المذكور يقول نقلا عن جوارو : “إن سكان الجزيرة وآثور والعراق على اختلاف مذاهبهم، هم كلدان آثوريون جنساً ووطناً. ولقد دعوتهم (كلداناً آثوريين) لأنهما في الأصل شعب واحد نظراً إلى الديانة والعوائد والشرائع والآداب والصنائع، فضلاً عن أن اسم سكان الكلدان والآثوريين أطلق دون تمييز على شعب واحد في التواريخ القديمة، إذ كانت الدولتان تتضامنان غالباً فتصبحان دولة واحدة. ولا عبرة للحروب المتواصلة بينهما فإن بين سبارطة وأثينا أيضاً كانت الحروب متواترة، وهذا لا يمنعهما من أن تكونا ملة واحدة، فإن لسانهما كان واحداً وكذلك قل عن عوائدهما. ” ويخلص قائلا : ” هذا كله نعرفه ولكن نحرّفه. ونروح نتشبث بتسمياتنا المختلفة. أليس بمقدورنا أن نقول: إن تشبث كل منا بإحدى تلك التسميات هو في حقيقته موقف مفتعل .. ”

وماذا ايضا ؟
على ضوء هذه الآراء ، فقد تابعت القرارات التي أصدرها المؤتمر العام الكلداني السرياني الآشوري الذي انعقد في بغداد بتاريخ 22 تشرين أول / اكتوبر 2003 تحت شعار ( وحدتنا وحقوقنا القومية والوطنية في العراق) وما تضمّنه بيانه الختامي الذي أثار منتقديه من المسيحيين العراقيين بأنه – كما وصفوه – وبالاً على مستقبل فرق الشعب الآرامي العديدة في المنطقة دون الأخذ بعين الاعتبار الوضع الجغرافي وأهمية الحجم السكاني لكل فريق وطائفة من أبناء المسيحيين في العراق. وأنها قرارات غير منطقية فيما يخص تسمية المسيحيين ، إذ تزيد في وتيرة الانقسامات الحالية بين طوائفهم لأنها صبّت برمتها في صالح أبناء الطائفة الآشورية الصغيرة العدد والتي تعد اليوم ثالث طائفة كنسية في العراق بحجمها الصغير. إذ أن حجم الطوائف المسيحية في العراق اليوم يبدو على النحو التالي – مع تحفظاتي على هذه الأعداد – : الكلدان ما يقارب عددهم 600 ألف شخص ، والسريان ما يقارب عددهم 300 ألف شخص ، والآشوريون ما يقارب عددهم 100 ألف شخص ” . أي أن إجمالي عددهم الكلي هو مليون نسمة عراقي ، وقد أكدّ الكاردينال عمانوئيل دلي قبل أيام في حديثه على قناة الجزيرة الفضائية أن عدد المسيحيين العراقيين هو مليون . ولكن السؤال : كم هو حجم المهاجرين والفارين من مسيحيي العراق إلى شتات العالم منذ خمسين سنة حتى اليوم ؟ وكم هي نسبة الذين هجروا المدن الأساسية في العراق من المسيحيين ، وخصوصا من بغداد والموصل وبغداد ؟

حفريات في جذور العراق الانثربولوجية
لو تعمقنا في حضارة العراق – حسب التسمّية العربية – و( موزوبوتيميا ) – حسب التسمّية الإغريقية – أو ( بيث نهرين ) – هكذا التسمية الآرامية القديمة – لوجدناها أول من وحدت الإله الخالق غير المنظور والعظيم على كل الآلهة ، لكن تحت اسم مختلف كل مرة ، حيث نجد اولاً عند السومريين الإله أنليل الذي قتل تنين البحار ليحل السلام في الكون ، ثم مردوخ أو آشور في بابل ونينوى . لقد استمر شعب ارض الرافدين يحتفل بعيد اكيتو ، ولكن للأسف الشديد قلت قيمة ذلك العيد لديه ، وخاصةً بعد انهيار كيانه السياسي واعتناقه للديانة المسيحية ، حيث بدل هذا ” العيد ” تاريخه رويدا من الأول من نيسان / ابريل إلى الأول من كانون الثاني/ يناير عيد رأس السنة الميلادية ، كما أن تعرضه عبر قرون طوال إلى الظلم والاضطهاد ، جعله يبتعد أو ينسى الكثير من أعياده العراقية القديمة . ولكن بمرور الزمن ، بدأ العراقيون يمتلكون الوعي بعراقيتهم ، فأهتموا بإحياء تراثهم الأصيل ، وابتعدوا عن ممارسة طقوسهم الرسمية القديمة ، ولكنهم كانوا على امتداد تاريخ طويل ، يجدون مكانهم اللائق في العراق سواء كانوا من الكلدانيين أم السريان أم الآثوريين .. وهم لا يكفوا يرددون أغنيتهم القديمة عن نينوى ، قائلين :

نينوى نينوى يا نينوى ،
كم كانت الليالي جميلة
تذكّرتُ ليالي السّهر
والأيّام الحلوة الصّافية
عطشتُ لذلك الجمال
ولنظرة العيون تلك
اِشتقتُ كثيراً لذلك الحديث
ولعدّ النّجوم
تذكّرتُ الأنهار
وتلك المياهَ العذبة
آهٍ ! ماذا أفعل للأيام الّتي أبعدتني عن أحلامي
الأيّام تشهد بأن حبّكِ جرحٌ لن يُنسى
وبأنّكِ أنت ستُصبحين حياتي وحبيبةَ الايّام
نينوى نينوى يا نينوى ،
كم كانت الليالي جميلة
تذكرت ليالي السّهر
والأيّامَ الحلوة الصّافية

التكوين التاريخي للانثربولوجي المسيحي
للمسيحيّة تاريخ عريق في العراق يعود إلى بدايات المسيحيّة الأولى . وتتعدّد الروايات حول دخول المسيحيّة العراق، ومنها أنّ أوّل جماعة مسيحية قامت في العراق ، كانت في مملكة حدياب بإقليم الموصل ، وهو إقليم موازٍ لنهر دجلة، وقاعدته مدينة ألموصل الحدباء . وكان أوّل مَن تنصّر آزاد الحديابيّ في العام 59 للميلاد ، وهذا تاريخ مبكر جدا . وثمّة مَن اعتبر أنّ القدّيس توما الرسول هو أوّل مَن بشّر في العراق. وهناك مَن يعتقد أنّ المبشّر الأوّل في العراق هو آدي (تدّاوس) أحد الرسل السبعين الذي أرسله توما الرسول. وهناك مَن يؤكّد أنّ انتشار المسيحيّة في العراق ونواحي آشور وبابل بدأ على يدي الرسولين توما وبرثلماوس . على اية حال ، نمت المسيحية وانتشرت في العراق وهي تواجه تحديات كبرى .
لقد انقسم المسيحيون الأوائل إلى ثلاث فرق أساسية ، هي : الملكانية والنسطورية واليعاقبة . فالملكانيون هم اتباع أريوس الذي قال بأن المسيح مخلوق ، وليس مولوداً من الأب ، ولذا لا يساويه في الجوهر .أما النسطوريون وهم أتباع نسطور ، فقد قالوا بأن للمسيح طبيعتين إحدهما إلهية والثانية بشرية ، فهو بالأولى ابن الله وبالثانية ابن مريم . أما التيار الثالث وهو حزب اليعاقبة ، فيعتقدون أن المسيح هو الله نزل إلى الأرض . ولقد انقسمت الكنيسة إلى فرعين : الكنيسة الغربية في روما والكنيسة الشرقية في القسطنطينية ( مع وجود الكنيسة القبطية الارثودكسية في مصر وتوابعها والتي لا علاقة لمسيحيي الشرق بها ) ، ولم تكن للكنيسة الشرقية أية علاقة لها بالغربية ، ثم أخذ الخلاف يتسع ويتشعب ، وأخذت الفرق تتوالد فتنشأ منها فرقا جديدة وأحزابا جديدة بالرغم من الجهود العديدة التي بذلت لتوحيد الكنيسة ( وسنأتي لاحقا لتوضيح جذور الانقسامات المسيحية ) .
إن معظم المسيحيين العراقيين هم من الكلدانيين الذين يتبعون الكنيسة الكاثوليكية الشرقية ، وهم مستقلون عن روما مع كونهم يعترفون بسلطة البابا الروحية. يقول الكلدانيون عن انفسهم : إن الكلدانيين شعب قديم يتحدث العديد منهم اللغة الآرامية وهي لغة السيد المسيح ، علما بأن هناك من يقول بأن التسمية الكلدانية ” بمعناها المتداول اليوم يعود اصلها الى القرن الخامس عشر ، عندما اعلن نساطرة قبرص المؤمنين بعقيدة الكنيسة الشرقية النسطورية خضوعهم للكنيسة الكاثوليكية الرومانية وقبولهم لمعتقدها اللاهوتي .. ” ( الكلدان مذهب ام قومية ، ص 11) . أما الفئة المهمة الأخرى فهي فئة الآشوريين ( او كما يطلق عليهم في الادبيات المحلّية بـ الآثوريين ) ويقولون أنهم ينحدرون من الإمبراطورية الآشورية والبابلية، وقد انتشروا في أنحاء الشرق الأوسط بعد انهيار إمبراطوريتهم في القرنين السادس والسابع قبل الميلاد. وقد اعتنقوا المسيحية في القرن الأول الميلاد حيث تعتبر كنيستهم الشرقية الأقدم في العراق.. أما الفئة الثالثة ، فهم السريان ، وهم ينتمون إلى الكنيسة السريانية الآرثوذكسية وهم اليعاقبة الذين اخذوا اسم يعقوب البرادعي ، بالإضافة إلى طوائف بروتستانتية متعددة. وهناك اليوم في العراق أيضاً من يتبع الكنيسة السريانية الكاثوليكية التي انقسمت عن الارثودكسية اثر تكثلك بعض السريان . وهناك الأرمنية الأرثوذكسية والارمن الكاثوليك الذين نزحوا من تركيا هرباً من المجازر في بداية القرن العشرين ( انظر دراستي التي نشرتها عنهم بثلاث حلقات ، ايلاف ) . وهناك أيضاً الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك بالإضافة إلى الانجليكانيين والانجيليين والسبتيين .

انتظروا الحلقة القادمة بعنوان : الطيف العراقي : درس انثربولوجي
نشرت في ايلاف ، 11 نوفمبر 2010 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

الأرمن العراقيون.. الخصوصيّة والجاذبيّة والأسرار الحيويّة ! -1-

الحلقة الأولى :الجذور والأغصان مقدمة 1/ الارمن عراقيون لقد غبنت مجموعات اجتماعية عراقية عديدة ، …