الرئيسية / حوارات / ملف: إمكانية حكم دكتاتور عادل للعراق.. حوار عراقي مصري بين الدكتور سيّار الجميل والأستاذ عبد الله كمال على روز اليوسف المصرية

ملف: إمكانية حكم دكتاتور عادل للعراق.. حوار عراقي مصري بين الدكتور سيّار الجميل والأستاذ عبد الله كمال على روز اليوسف المصرية

مقدمة
كتب الصديق الأستاذ عبد الله كمال عضو مجلس الشورى المصري ورئيس تحرير كل من مجلة وجريدة روزاليوسف سلسلة مقالات عن ” الدكتاتور العادل ” في عموده اليومي ( ولكن ؟ ) بجريدة روزاليوسف القاهرية ، ولما كان الرجل قد تطرّق إلى موضوع العراق ، فلقد جرى حوار مغلق بينه وبيني حول هذا ” الموضوع ” الذي يختلف فيه الناس بين معارض له أو موافق عليه .. وكان الأستاذ عبد الله كمال ، يقوم بنشر رسائلي إليه ، مضمنة في مقالاته حتى يناقشها على مهل وعلى العلن ، وقد حرصت على ان اضمن مقالتي التي نشرتها مجلة روز اليوسف حول هذا ” الموضوع ” . هذا ” الملف ” يجمع في دفتيه مقالات الأستاذ عبد الله كمال مع ردودي التحريرية إليه ، شاكرا للرجل اهتمامه ورحابة صدره مع احترامي لقوة حجته بالرغم من عدم إيماني أن أي دكتاتور أو حاكم مستبد على امتداد التاريخ ، لا يمكن أن يتمتع بأي رصيد من العدالة .


سيار الجميل
تورنتو ـ كندا
7 يوليو/ تموز 2010

الديكتاتور العادل

عبدالله كمال
نائب بمجلس الشورى المصري
رئيس تحرير روز اليوسف المصرية

هذا المصطلح المتناقض، استنادا إلي أن كلمتيه لا تتفقان، لا العدل يكون قرين الديكتاتورية ولا الديكتاتورية تقود إلي عدل، ظل مثيرا للجدل بين المثقفين العرب.. لا هم يؤيدونه ولا هم يستبعدونه.. لكن حالة العراق الآنية، بعد سنوات من إعدام صدام حسين، تفرض إعادة «تمحيصه»، والنظرة المتجددة فيه.
المثقف الحقيقي بطبيعته لا يمكن أن يقبل بفكرة الديكتاتورية، ومن ثم فهو لا يمكن أن يسبغ عليها صفة العدل، لكن قطاعاً من المثقفين العرب لا يرفض الفكرة في عمق قناعاته تأثراً باثنين من كبار المفكرين العرب والمسلمين.. اللذين وضعا أصولاً تعريفية لهذا المصطلح وضرورته في مجتمعات الشرق.. إذ قال بها جمال الدين الأفغاني.. وقال الإمام محمد عبده «لا يحيا الشرق بدوله وإماراته إلا إذا أتاح الله لكل منهم رجلا قويا عادلا يحكم بأهله علي غير طريق التفرد بالقوة وبالسلطان».
ومن ثم فإن عملية النقد للفكرة بين المثقفين العرب غالبا ما تتراوح بين منهجين.. الأول يتبناه أولئك الذين يؤمنون بالديمقراطية.. وفق المفهوم الغربي الرافض لأي تصور لوجود الديكتاتورية.. والثاني يؤمن بنفس مفاهيم الديمقراطية لكنه يدرك طبيعة المجتمعات العربية.. كما أنه لا يمكنه أن يتجاوز التصور الفكري للأفغاني ومحمد عبده.. وفي ذات الوقت يتفهم أن التاريخ العربي مليء بنماذج من تلك التي يمكن أن ينطبق عليها المصطلح.
لن أثير جدلا هائلاً بأن أقول: إن بعضا من الخلفاء – وبمن في ذلك الراشدون – طبقوا أساليب تندرج تحت هذا المفهوم، لكن في المقابل تحتفظ المخيلة المصرية بإعجاب شديد لصانع الدولة المصرية الحديثة محمد علي باشا، وتدين له بتحولات علمية وجوهرية نقلت البلد إلي عصر آخر ولم يكن أبدا هذا الوالي المدهش بحاكم ديمقراطي.. بل إنه بدأ عصره بمذبحة للمماليك في قلب القلعة.
كما أن أحد النماذج الإسلامية المعاصرة الناجحة – الذي حقق نهضة كبري في ماليزيا – وأعني به مهاتير محمد، لم يكن من الممكن أن تنطبق عليه مواصفات الحاكم الديمقراطي بمقاييس الغرب، وهو نموذج متكامل للمصطلح المتناقض «الديكتاتور العادل»، علي الرغم مما حظي به من سمعة بين كل المسلمين والتجربة المزهرة التي حققها في هذا البلد.. حيث أجبر أغلبيته المسلمة علي اتباع القيم العصرية التي قادت إلي النهضة بمزيد من الحدة والشدة.
صدام حسين لم يكن عادلا علي أي وجه من الوجوه، وهو حاكم من خارج التاريخ، وإن صنعه، ولكن طبيعة العراق التي انكشفت للجميع منذ زمن، وصارت الآن شمسا واضحة، تعيد طرح هذا الأمر وتصوره.. حيث أثبتت الأيام والوقائع أن المجتمع من التعقيد بحيث إنه لا يمكن إلا أن يدار بشدة.. يجب ألا تكون ديكتاتورية.. وبقوة لا ينبغي أن تكون ظالمة.
الغرب ليس هو وحده الذي أنكر الديكتاتورية، ونحن العرب لسنا عبيدا بطبعنا لا يمكن أن يدير شئوننا إلا حاكم قاهر، وفي ثقافتنا قال عبدالرحمن الكواكبي عن «الديكتاتورية الشرقية»: «تصرف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة وبلا خوف تبعة»، وهو يصف الحكومة المستبدة بأنها: «الاستبداد صفة للحكومة المطلقة العنان فعلاً أو حكماً، التي تتصرف في شئون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محققين».
وقد كان صدام حسين مطابقا لوصف الكواكبي للاستبداد.. لكن حال العراق الذي أراد جورج بوش أن يحوله إلي بلد ديمقراطي نموذجي وفشل ثم رحل.. أثبت مجددا – وبما لا يدع مجالا للشك – أن الديمقراطية علي الطريقة الأمريكية لا تصلح للمجتمعات الشرقية المعقدة.. وأن لكل بلد مواصفاته.. بل إن الديمقراطية الأوروبية تختلف من دولة إلي أخري.. وتختلف برمتها عن الديمقراطية في الولايات المتحدة.
ما يمكننا أن نفهمه هو أن هناك قواعد أساسية لا يمكن التخلي عنها، لابد أن تتوافر في المجتمع العادل، أيا ما كانت ثقافته، هي تلك التي اصطلح علي تسميتها بالحكم الرشيد.. أي الذي تتوافر فيه معايير المحاسبة والشفافية والمساواة وحرية الرأي والمشاركة في اتخاذ القرار.. لكن المطالبة بهذه العناصر مجتمعة في كل الدول.. خصوصا تلك التي لم تبلغ قدراً ملائماً من النضج سوف تكون نوعاً من مناطحة الواقع.. والسعي إلي قهر الجبال.
وفي العراق، بحاله الآني، كيف يمكن أن تسأل عن محاسبة في بحر الدماء، أو عن حرية الرأي في حرب أهلية، أو عن مساواة بين أعراق متطاحنة بينها ضغينة تاريخية، في بلد يشهد أبلغ صور الطائفية وأفضحها.
نشرت في جريدة روز اليوسف المصرية ، العدد 1524 – الأحد – 27 يونيو 2010


المستبد الرشيد

عبدالله كمال
نائب بمجلس الشورى المصري
رئيس تحرير روز اليوسف المصرية


لم يطلق الإمام محمد عبده، وهو من هو، في الثقافة المصرية والعربية، وصفه للديكتاتور العادل بدون قيد أو شرط.. بل وضع له مواصفات خاصة.. إذ قال: (لا يحيا الشرق بدوله وإماراته إلا إذا أتاح الله لكل منهم رجلا قويا عادلا يحكم بأهله علي غير طريق التفرد بالقوة والسلطان ).

أولاً: جعله الإمام الراحل (منحة ربانية)، أي لا ينتج عن طريقة طبيعية للوصول إلي الحكم، فهو يأتي إلي دول الشرق وإماراته ( إذا أتاح الله ذلك) وثانياً: هو (قوي عادل.. يحكم بأهله).. أي يشرك الناس علي قوته.. هذا شرط عدله.. وقد كرر محمد عبده – وتلك هي ثالثاً – نفس الشرط بطريقة أخري: (علي غير طريق التفرد بالقوة وبالسلطان).. أي لا يكون منفردا.. ويشرك من حوله.
هل هذه المواصفات ممكنة للعراق، باعتباره، بعد تلك التجربة المريرة التي انقضت عليها سبع سنوات.. وبعد أن شهد أكثر من انتخابات.. وجرب الديمقراطية علي الطريقة الأمريكية.. مازال يرزح تحت نير الفوضي.. لا يمكن أن تتشكل فيه حكومة.. ولا تستقر فيه سلطة.. ولا تقبض عليه قوة.. تتنازعه الفرقة.. ولا يمكن لفئة أن تترك لغيرها فرصة أن تنعم بالهدوء؟
في الإجابة عن السؤال نقول إنها غير ممكنة بنفس مواصفات محمد عبده، الله لم يمنح العراق هذا الحاكم بعد، لكن استمرار بقاء العراق بلدا واحدا.. ليس علي مشارف حرب أهلية طاحنة.. تجعل من هذا الحاكم ضرورة.. بل لا يمكن ضمان مستقبله إلا بذلك.
مرة ثانية لا يريد أحد ( صدام جديدا).. فقد كان مستبدا.. لكنه كان أبعد ما يكون عن العدل.. بل إنه أيقونة للظلم والقهر.. وإن حمي تماسك الدولة وتوازنها الهش.. وعبر بها حربين كبيرتين.. وإن لم يصمد في الثالثة.. إلا أن العراق يحتاج إلي رئيس من قلب مجتمعه.. لا يجمع كل مواصفات الرشادة وصفات العدالة.. وإن كان لديه الكثير منها.. يكون مملوءا بوعي العراق.. وزاخرا بوجوب حمايته من نفسه.. وأيضا من الآخرين.. يسيطر علي الانهدار.. ويوقف الفوضي.. ولو بطش بعضا من الوقت.. ولو استبد فترة من الزمن.
وسوف يعارض البعض ما أقول هنا، إذ كيف أؤيد الاستبداد؟ والواقع إنني لا أؤيد الديكتاتورية، ولكن حين تقارن بين مستبد يضيق حرية التعبير وحاكم يقول إنه ديمقراطي بينما تجري بحور الدماء في الشوارع، فإن عليك أن تقبل الاستبداد لبعض الوقت.. وحين توازن بين مستبد يميل بعض الوقت علي فئة من السكان.. وبين ديمقراطي يدير حكومة هشة لا يمكن أن تسيطر علي الحدود.. فإنك لابد أن تنحاز إلي الديكتاتور المفترض فيه أن يكون عادلاً.
وحتى إذا كان هذا هو حل العراق، في ضوء اقتراب انسحاب القوات الأمريكية المحتلة، منذرة بمزيد من الكوارث بعد الفراغ الذي سوف تتركه، فإن هذا الديكتاتور العادل لا يمكن بلوغ الوصول إليه.. إلا إذا تجسدت المنحة الربانية.. ومن ثم فإن الحل البديل والمؤقت هو أن يعاد بناء الجيش العراقي الذي سرحته سلطات الاحتلال.. جيش يكون قادرا علي السيطرة.. وربما يكون ممكنا من خلال تفاعلاته أن يكشف عن قيادة تستطيع بطريقة ما أن تحقق بعض الفائدة لعراق ينهمر قطعة قطعة.
مواصفات الديمقراطية المدونة في الكتب لا تحمي أرواح البشر، قبل أن يكون لك صوت انتخابي حر لابد أن يكون لديك نفس تضمن أن يخرج من أنفك ويعود إلي صدرك، وقبل أن يمثلك عضو في البرلمان عبر قائمة نسبية أو بالانتخاب المباشر الفردي.. لابد أن تتأكد من أن أولادك مازالوا علي قيد الحياة في البيت.. وأنه يمكنك أن تعود إليهم في نهاية النهار. وتلك هي أهمية فكرة احتياج العراق لحاكم من هذا النوع الذي تحدث عنه جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده.
نشرت في جريدة روز اليوسف المصرية ، العدد 1525 – الاثنين – 28 يونيو 2010


عراقٌ يكوي القلب

عبدالله كمال
نائب بمجلس الشورى المصري
رئيس تحرير روز اليوسف المصرية

أما وأننا نتطرق إلي هذه القضية الملتبسة بشأن (الديكتاتور العادل) أو (المستبد الرشيد)، من أجل العراق، فلابد أن نهتم في نقاشنا بما يكتبه العراقيون في الأمر.. وقد أسعدني الدكتور سيار الجميل.. وهو مفكر عراقي كبير يقيم بين كندا والولايات المتحدة.. ومحاضر مرموق في جامعاتها وينشر مقالاته المنوعة في «روزاليوسف» الجريدة والمجلة.. بأن كتب تعليقا علي مقالي الأول حول الموضوع علي صفحتي بالفيس بوك.. هنا نصه.. وسوف أناقش بعض ما جاء فيه.

يقول الدكتور سيار:

عزيزي (…) عبدالله كمال

قرأت مقالك اليوم، وهو مقال مهم كعادتك كل يوم.. قرأت بإمعان، كنت معك في أن الديكتاتور لا يمكن البتة أن يكون عادلا، وإلا لما غدا ديكتاتورا.. وكان قد أشيع المصطلح منذ مائة سنة تحت مسمي (المستبد العادل) بحثا عن حلول كانت مجتمعات الشرق بحاجة إليها، وكانت ولم تزل بحاجة إلي معالجات وحلول في عصر تلاقح فيه الفكر الحر وتطورت فيه المؤسسات الدستورية إزاء حكم الأقلية والنخب الشيوعية في ما أسمي بالعالم الاشتراكي الذي انتفت منه الحريات والحياة المنفتحة والرأي الآخر زمنا طويلا.
إن محمد علي باشا مؤسس مصر الحديثة لا أستطيع أن أعتبره مثالا تاريخيا، لأن عصره لم يشهد أي تطور بعد في البناء السياسي الديمقراطي الذي تطور لاحقا.. أما مسألة صدام حسين، فهي استثناء والعراق كله استثناء، إذ بقدر ما كنا نتوجس خيفة من تعقيدات العراق سابقا، فإن ما حدث بعد السقوط عام 2003 في العراق غير حتي معادلات العقلاء العراقيين وأفكارهم.
ما يحدث في العراق هو فرز من تراكمات تاريخ صعب عمره أكثر من خمسين سنة.. تفاعلت خلالها الأحقاد والضغائن والكبت السياسي مع نضوج ظاهرة الإسلام السياسي لكل التكوين الطائفي في العراق، الذي أشعلته السياسة الأمريكية باسم المكونات العراقية بديلا عن الشعب العراقي.. فتفاقمت المأساة بعد أن كانت متورمة.
إن العراق ليس بحاجة إلي ديكتاتور جديد، بقدر ما يحتاج إلي زعماء أذكياء ويتمتعون بالأهلية لحكم بلاد صعبة.. بحاجة إلي أحزاب مدنية لا دينية تمزق المجتمع ويتشظي علي أيديها.. بحاجة إلي تكنوقراط وقانون.. وستراه يحيا من جديد.. ولكن هذه مجرد أمنيات وأحلام إزاء أجندة مخطط لها من أجل كبح جماح العراق لزمن طويل.
شكرا صديقي العزيز لإثارتك هذا الموضوع الحيوي وتحياتي إلي كل الأصدقاء في «روزاليوسف». سيار الجميل.

انتهى التعليق المطول. ويمكن وصفه بأنه مقال رصين أكثر من كونه تعليقًا. ولي فيه وعليه مجموعة من إسهامات النقاش.
لقد اعتبر الدكتور سيار أن محمد علي باشا لا يمكن أن يعتبر مثالا تاريخيا للمستبد العادل في ضوء أن عصره لم يكن شهد أي تطور بعد في (البناء السياسي الديمقراطي).. وسوف أتفق معه، متجاهلا التطورات التي كانت تجري في نفس السياق في بعض دول أوروبا.. ولكن ماذا عن مهاتير محمد.. حاكم ماليزيا وصانع نهضتها.. وقاهر معارضيه.. وقد حل في عصر عرف فيه العالم قولا وعملا جميع مواصفات البناء السياسي الديمقراطي. إن نموذج مهاتير مهم من حيث إنه حاكم لبلد مسلم.. تتنوع فيه الأعراق (المالاي والصينيون والهنود).. كما كانت قد ضربته أفكار الإسلام السياسي حتي إن ولاية صباح أعلنت تطبيق الشريعة الإسلامية.
إن توصيف الدكتور سيار لما جرى في العراق.. باعتباره نتاج أحقاد وضغائن وكبت.. وأشعلته السياسة الأمريكية بعد تفاعل طيلة خمسين عاما.. لهو توصيف مؤلم ويكوي القلب.. وفيما يبدو فإنه يعجز العقل العراقي نفسه.. وكما قال سيار (فقد غير معادلات حتى العقلاء العراقيين وأفكارهم).. ولكنه توصيف لا يجعلنا نتجاهل تعقيدًا موازيا وأشرس في الهند.. ورغم ذلك فإنها تعيش شبه مستقرة.. ومن ثم فإن ما ينبغي أن نتساءل عنه هو: هل يمكن القفز في العراق فوق كل هذا.. هل يمكن عبوره بالوصول إلي صيغة.. تؤدي في ما بعد إلي إصلاحه وتعديل ما عطب في جسد مجتمع معطب بنيويا؟
لست أدري، لكن بديل الديكتاتور العادل الذي لا يريده الدكتور سيار للعراق هو (زعماء أذكياء يتمتعون بالأهلية لحكم بلاد صعبة.. أحزاب مدنية لا دينية.. تكنوقراط وقانون).. حسنا هذه صيغة.. قد تكون ناجعة.. والمشكلة ليست في أن تلك هي الصيغة الناجعة.. وإنما في أن البيئة التي تتجسد في العراق لا يمكن أن تفرز هذه التركيبة الآن.. ولا تقود إليها أبدا.. فقد تبعثر الأذكياء.. وافتقد البعض الرغبة في التصدي للمهمة.. والأحزاب الدينية لا يمكن اقتلاعها إذ تسلحت وتعيش حالة استقطاب مهولة.. والتكنوقراط لا يمكن حشدهم في مناخ ليس فيه تعليم أصلا.. إنني أخشي أن يكون اقتراح الدكتور سيار صالحا لمرحلة ما بعد أن يأتي (مستبد عادل).. حاكم قوي.. يتنازل عن بعض مواصفات الديمقراطية ويطبق الحد الأدنى من العدل.. بشرط فرض الحد الأقصى من السيطرة والنظام والتماسك.. وليس شرطا أن يكون هذا المستبد العادل شخصا بعينه.. وقد يكون مؤسسة علي رأسها هذا الشخص.
نشرت في عمود ( ولكن ) بجريدة روز اليوسف ، العدد 1526 – الثلاثاء – 29 يونيو 2010


الحاكم والسجَّان

عبدالله كمال
عضو مجلس الشورى المصري
ورئيس تحرير مجلة وجريدة روز اليوسف

لا يريد الدكتور سيار الجميل، المفكر العراقي المعروف، إلا أن يثري الحوار، بمناسبة المناقشة حول موضوع (الديكتاتور العادل) الذي رأيت أن العراق يحتاجه.. وأنه ضرورة لإنقاذه.. وهكذا فإنه عاد وعلق من جديد علي مقالي بالأمس: (عراق يكوي القلب).. وكنت قد ناقشت فيه تعليقًا له.. فيما يلي نص ما قال مجددًا.. ولي بالطبع تعليق عليه:

عزيزي (…..) عبدالله كمال:
سررت جدًا لهذا الجدل الحيوي الذي أتمني أن يكون حوارًا رائعًا.. وأشكرك صديقي العزيز علي هذه الوقفة الدقيقة علي بعض الأفكار التي طرحتها.. ودعني أتوقف أنا الآخر نقطة بعد أخري متسائلاً أو مجيبًا، خصوصًا في «موضوع» غاية في الأهمية، كونه يخص الرؤية بالنسبة لمستقبلنا. أولاً: لا يمكن مقارنة الأوضاع الماليزية ــ برغم كل تنوعاتها ــ بالأوضاع التي عليها مجتمعات إسلامية أخري مثل الباكستان أو أفغانستان أو العراق أو إيران.. أو غيرها.. الماليزيون مسالمون، لهم القدرة علي الاستجابة للتحديات، وهم يعملون بصمت، وصحيح أن مجتمعهم متنوع، ولكن لم يمر بمخاضات صعبة نتجت عنها تناقضات لا أول لها ولا آخر، كما حدث في مجتمعاتنا العربية، وعليه لا يمكنني مقارنة مهاتير محمد بصدام حسين، فلكل منهما شخصيته ومواصفاته وكيفية أدوات الحكم لديه.. إن العراق كما قلت استثناء ليس في المنطقة فحسب، بل في بيئات العالم.. كنت أتمني أن يتأهل عراقي واحد ويمتلك مؤهلات مهاتير ليكون باستطاعته قيادة الدفة الصعبة.

ثانيًا: ومثلما هو مهاتير وصدام كذلك هو العراق إزاء الهند.. صحيح أن تعقيدات الهند لا يمكن أن تحل بسهولة، ولكن جاء بعد المؤسس غاندي كل من نهرو وابنته أنديرا ورافقهما تطور بناء سياسي بمؤسسات قائمة بذاتها.. كما هو حال محمد علي جناح في باكستان، أو أتاتورك في تركيا.. في حين أن العراق الذي تأسست دولته الحديثة عام 1921، وعلي يد الملك فيصل الأول.. لم يتطور سياسيًا، خصوصًا بعد العام 1958 جراء المشكلات الصعبة التي ألمت به علي أيدي الحكام العسكريين فتوالدت تناقضات لا يمكن تخيلها.. في الهند لم نجد الدولة تجنح لهذا الدين أو ذاك المذهب، ولكن في العراق حلت الفجائع مذ انقسم المجتمع نصفين لأسباب مذهبية وطائفية.

ثالثًا: وهل تعتقد عزيزي أن البيئة السياسية العراقية قد أفرزت من يحكمه اليوم؟ لقد رحل صدام بعد أن أفرغ العراق من كل السياسيين المستقلين أو المعارضين أو المناوئين أو حتي الصامتين.. كان العراق يعيش فراغًا سياسيًا مع غليان اجتماعي وكبت نفسي ورعب جماعي.. صدقني إن هؤلاء اليوم لم يفرزهم الواقع، بقدر ما كان من تنصيب الأمريكان لهم.. وهل تعتقد عزيزي أن الولايات المتحدة الأمريكية تعجز عن الإتيان بكفاءات ورجالات ونسوة، إذ ثمة نخب بمختلف التخصصات من العراقيين ينتشرون في العالم.. وكان أغلبهم ينتظر دوره، ولكنهم أبعدوا وهمشوا وأقصوا ضمن أجندة واضحة.. وإن العراقيين قادرون علي بلورة نخبة جديدة من بينهم، إذا منحوا دورهم.. إن العراق الذي ترونه ممزقًا ومتأخرًا وضعيفًا.. سيضع نفسه علي الطريق الصحيح إذا ما تولي شأنه النظام والقانون.
شكرًا جزيلاً لك عزيزي
وصباحكم رائع
سيار الجميل

انتهي التعليق.. ويا عزيزي الدكتور سيار نحن لسنا مختلفين واقعيًا.. إذ نريد هدفًا واحدًا.. ألا وهو (عراق مستقر).. وإن كنت لست علي قدر تفاؤلك الضمني الذي يتبدي في نهاية تعليقك الثاني، كما تبدي في نهاية تعليقك الأول.. وعلي الرغم من أن عبارتك الأخيرة هي (لب القصيد) الذي أسعي إليه.. إلا أنني سوف أناقش أفكارك من بدايتها.
أقدر بالطبع اختلاف المجتمعات.. وأن المقارنات قد لا تكون جائزة في أغلب الأحيان.. بل إن جوهر مقالاتي حول الديكتاتور العادل هو أن هناك خلافًا جوهريًا في تطبيق الديمقراطية، بحيث لا يمكن العثور علي ديمقراطيات متطابقة.. لقد لجأت السعودية إلي تنفيذ انتخابات علي المستوي المحلي.. فكان أن أدي هذا إلي وصول عدد هائل من أصحاب الاتجاهات المتطرفة إلي مقاعدها.. ولا أعتقد أن ذلك كان هو المقصد. ولا يمكنني طبعًا أن أقارن بين ماليزيا والعراق.. لكنني كنت أشير إلي أن في البلدين تنويعات.. بل إن ماليزيا فيها تعقيدات قد تكون متضاعفة مقارنة بالعراق.. حيث الاختلاف بين الأعراق الثلاثة (الملاي والهنود والصينيين) متوازٍ مع إيمان كل عرق بديانة ضد الآخرين.. الإسلام والهندوسية والعقائد الصينية.. وأنت تعرف أن الصينيين كانوا يسيطرون علي الأوضاع الاقتصادية.. رغم أنهم أقلية.. وقد أدت خلفيات هذا التعقيد إلي انفصال سنغافورة عن ماليزيا في خمسينيات القرن الماضي.. وربما كان صعود سنغافورة أحد حوافز صعود ماليزيا، فيما بعد.
لا يمكن بالطبع أن نتجاهل جوهرية الاختلاف بين الثقافة الآسيوية والثقافة العربية.. تلك التي أدت إلي صنع ماليزيا التي أصبحت تبيع تنوعها.. وهذه التي أدت إلي صنع العراق الذي لا يمكن له أن يفاخر بما يجري فيه.. أو للدقة لنقل جوهرية الاختلاف ما بين الثقافة الإسلامية والثقافة الآسيوية.. فبعض الدول الآسيوية المسلمة لم تفلح في توظيف مقوماتها الآسيوية لصالح نهضتها.. ومن ذلك الوضع في باكستان. لست بمقارن بين مهاتير وصدام، هذا أمر لا يمكن بداهة.. ولكنني لجأت إلي الحديث عن نموذج مهاتير لكي أدلل علي أنه من الممكن أن يكون هناك ديكتاتور عادل يحدث نهضة.. وفي رأيي أن مهاتير لم يكن حاكمًا صاحب مواصفات ديمقراطية.. أما صدام فهو لم يكن حاكمًا وإنما سجان قاهر.. يمارس شذوذه النفسي والسياسي وعبثه العقلي والخلقي.. وليس هذا هو ما أري أنه ضرورة للعراق الآن.
وأكمل تعليقي علي بقية ما قلت يا عزيزي الدكتور سيار غدًا.
نشرت في جريدة روز اليوسف المصرية ، العدد 1527 – الاربعاء – 30 يونيو 2010

أين هو؟

عبدالله كمال
عضو مجلس الشورى المصري ، ورئيس تحرير مجلة وجريدة روز اليوسف

اتصالاً مع ما كتبت أمس، تحت عنوان «الحاكم والسجان»، ومع المقالات الثلاثة الماضية، وفي سياق الحوار مع الدكتور سيار الجميل المفكر العراقي حول ما طرحته بشأن «الديكتاتور العادل» الذي يحتاج إليه العراق.. أواصل اليوم.
لقد قلت للدكتور سيار إنه بالطبع لا يمكن مقارنة صدام حسين بمهاتير محمد.. لكن مهاتير هو نموذج للمستبد الذي أقصد أن العراق يحتاج إليه.. وقال سيار إنه لا يمكن مقارنة حال العراق بحال الهند.. لأن الهند عرفت بعد المؤسس غاندي كلاً من نهرو وابنته أنديرا.. كما ترافق ذلك مع بناء المؤسسات الحديثة في الهند. هنا لب القصيد «المؤسسات» تلك التي احتاج إليها العراق، وظن الكثيرون أن الولايات المتحدة سوف توفي بالوعد.. وترسخها.. حتي لو تقبلنا غصباً وعنوة عملية الغزو التي تمت.. لقد محت قوات الولايات المتحدة وحكامها العسكريون للعراق ما كان يمكن وصفه بأنه هياكل مؤسسات في البلد.. ولما محوها لم يضعوا لبنات غيرها.. بل ألصقوا ديكورات لمشاهد تليفزيونية.. قيل إن هذا برلمان.. وتلك حكومة.. وتلك أحزاب.. وهذا جهاز شرطة.. فلما جاءت ساعات الاختبار.. كان أن حدث الانهيار. بناء علي هوس مكارثي مريع يخشي من بقايا حزب البعث.. اجتث الاحتلال ومعاونوه في العراق أي نواة لمؤسسة كان يمكن أن تتطور فيما بعد.. بل وقضوا علي الجيش.. وسرحوا كل من فيه.. تماماً كما سرحوا المساجين في الزنازين.. فحدثت الفوضي.. وتحول المساجين إلي اللصوصية.. وأصبح العسكريون عناصر مبعثرة.. بعضها يقاوم.. وبعضها تائه.. وبعضها لا يجد ما يأكل.. وكلها جميعاً تكتنز غضباً مهولاً لا يمكن له أن يذوب بين يوم وليلة. الولايات المتحدة قالت إنها كانت تبني دولة.. لكنها عملياً ساوتها بالأرض.. والحاكم القوي هو الذي يمكنه أن يستعيد فتات الأشياء ويلصّم هذه إلي جوار تلك لكي يجعل هناك أرضية صالحة للبناء.
الهند مختلفة تماماً، غاندي كان يقود ثورة من نوع فريد لتحرير بلده من الاحتلال، هدف اتفق عليه الهنود. لكن غزو العراق والإطاحة بصدام هو هدف تفرق عليه كل العراقيين.. ولا ينفي حقيقة استقرار الهند، أنها قد عانت من تعدد فئاتها وتنوعها طيلة الستين عاماً الماضية.. ولكنها بحر كبير جداً.. فيه بشر ينتحرون ويقتلون ويموتون جوعاً وطائفية.. في الوقت ذاته الذي فيه بشر يرغبون في الارتقاء.. وهو ما كان. الهند، قادتها قيادات التحرر، بدءاً من نهرو، مدفوعين بزخم التوحد خلف الحلم.. وبطاقة الوصول إلي الاستقلال.. لكن العراق محتل.. ومتفرق.. وأبناؤه يتطاحنون.. وهو بالطبع بلا مؤسسات.. ومن ثم لا يمكنه أن يبلغ ما بلغ الهند المتنوع من استقرار، ولذا فإن العراق يحتاج إلي من يختصر المراحل.. إلي أن يحكم القبضة.. أن يفرض القوة.. أن يتجاهل بعض معايير العدل من أجل التوحد.. أن يتخطي اعتبارات الديمقراطية التي في الكتب حتي يجعل كل العراقيين علي مائدة واحدة.. ولو قهراً.. إلي أن يتذاوبوا وينصهروا.
ومن الواضح أنني والدكتور سيار نتفق في أن التي صنعت هذا الفراغ الرهيب هي الولايات المتحدة.. ولكنني لا أتفق معه علي أن الكوادر العراقية الكفء المبعثرة حول العالم.. يمكنها أن تعيد العراق إلي سياقه وحدها.. هؤلاء التكنوقراط يمكنهم أن يعينوا دولة عراقية جديدة لكنهم لن يتمكنوا من أن يصنعوا بيئة تؤدي إلي تلك الدولة.. وبالتالي إن ما يريده العراق هو شخص من الداخل لديه شرعية ما.. قد تكون فيها عناصر قبلية.. وقد تكون فيها تراثات من ميراث مؤسسات.. وقد تكون فيها جهود بُذلت ضد الاحتلال.. من تلك التي تصنف علي أنها مقاومة وليست إرهاباً.. حتى لو أعطاه الاحتلال فرصة بناء صيته علي حساب الاحتلال ذاته.
إن هذا وحده هو الذي يمكنه أن يصنع وضعاً مختلفاً في العراق.. بعدها عليه أن يستدعي كل العقول التي تناثرت من دماغ العراق في كل أنحاء العالم.
نشرت في جريدة روز اليوسف المصرية ، العدد 1528 – الخميس – 1 يوليو 2010

من يضمن أن يكون الديكتاتور العادل حلا مرحليا؟

أ. د. سيّار الجميل

من أجل شراكة حوار مفعم بالمعلومات، ومؤطر بالاحترام، ومعزز بالتجربة.. ومن أجل ربط الفكر بالسياسة وبالواقع السياسى.. ومن أجل الاستفادة من التاريخ بعد توظيفه لصالح حاضرنا وبناء مستقبلنا.. من أجل تقديم المزيد من الحلول لمأزق العراق اليوم بعد أن دخل النفق الصعب، من أجل خلاص أهله من كل التحديات التى حاقت بهم، ولم تزل تقيدهم بكل قيودها، فإن من الأهمية بمكان، أن نحاور شخصية مرموقة، وهو واحد من أعز أصدقائنا العرب نعم أنه الأستاذ عبدالله كمال النائب بمجلس الشورى المصرى ورئيس تحرير كل من جريدة ومجلة روزاليوسف الزاهرتين . وقد عرفت فى الرجل خصاله العربية، وثقافته العليا، وأسلوبه الرائع، وخصب معالجاته لقضايا عدة في آن واحد، وهذا دليل حيويته ونشاطه الإعلامى والسياسي فى قلب مصر، ناهيكم عن قوة حجته وبيانه، خصوصا في مجادلاته وحواراته التي أجده يصول ويجول فيها بكفاءة نادرة.. وبعد هذا وذاك فثمة حاجة اليوم إلى حوار عراقي مصري لمسائل حيوية وأساسية في الحياة العربية حاضرا ومستقبلا.
اليوم دعوني أتوقف مع الرجل في الذي طرحه لأول مرة، وهو يعالج مسألة الديكتاتور العادل ، فكان أن أوضحت له في رد مقتضب بعض ما أجده من رأى وتفكير بهذه المسألة التي تشغل بالنا نحن ، كواحد من البدائل التي طرحت منذ مائة سنة.. وإن مجرد البحث عن بديل، يعنى إخفاق مجتمعاتنا في تقبل الأدوات والعناصر الجديدة، ولكن أن قبلنا طرح بديل كهذا على ألسنة بعض مفكرينا قبل مائة سنة، فهل من الصواب أن يطالب بنفس البديل اليوم ؟ معنى ذلك أن مجتمعاتنا لم تزل تراوح في مكانها..، إن لم تتراجع عمّا كانت عليه ! علما بأن الديكتاتورية أو الاستبداد لا يمكنهما أن يستقيما أبدا مع العدالة! وإذا آمنا حقا بمثل هذا الحل فمن يضمن أن يكون حلا مرحليا أو وقتيا، ولقد علمتنا تجارب العراقيين أنه متى ما استحوذ ديكتاتور على السلطة والقوة والمال، وخصوصا في العراق، فسيعمل بكل طاقته على أن يجعل العراق مزرعة له، ويجعل شعب العراق عبيداً لإرادته، والأمر لا يتوقف على حفنة من الضباط العسكريين ، بل يبدو أن النزعة الديكتاتورية أو حتى طبيعة الاستبداد كامنة في البعض من الناس سواء جاء بثياب عسكرية أو ببذلة مدنية..
دعوني الآن التفت إلى الصديق القدير عبد الله كمال لأعلمه بسروري الكبير بهذا الجدل الحيوي سواء كان فكريا أو تاريخيا أو سياسيا، وأتمنى أن يكون حوارا رائعا.. شاكرا وقفته عند العراق الذي غدا يكوى القلب فعلا ـ على حد توصيف الرجل ـ .. العراق الذي تغنى به الناس، وخصوصا في مصر ، وصدحت الحناجر بمفاخره وعظمته وعاصمة أمجاده كي يغدو اليوم يثير اللوعة والأسى.. أنني أشكر صديقي العزيز على هذه الوقفة الدقيقة، وخصوصا عند بعض الأفكار التي طرحتها في مقالي المختزل.. ودعني أتوقف أنا الآخر عند نقطة بعد أخرى متسائلا أو مجيبا، وخصوصا في موضوع يعد اليوم في غاية الأهمية، كونه يخص الرؤية بالنسبة لمستقبلنا ومستقبل أجيالنا.
أولا : مهاتير ليس صداما
لا يمكن مقارنة الأوضاع الماليزية برغم كل تنوعاتها إزاء الأوضاع التي عليها مجتمعات إسلامية أخرى، مثل الباكستان ، أو أفغانستان ، أو العراق ، أو إيران أو غيرها.. الماليزيون مسالمون، لهم القدرة الصامتة على الاستجابة للتحديات، وهم يعملون بصمت أيضا تختلف طبائعهم الاجتماعية عن طبائعنا نحن سكان الشرق الأوسط، وبالتالي ستختلف أساليبهم السياسية.. صحيح أن مجتمعهم متنوع، ولكنه لم يمر في تاريخه الحديث بمخاضات صعبة كالتي خاضها العراق مثلا، نتجت عنها تناقضات لا أول لها ولا آخر كالتي نعيشها اليوم، أو لم يحدث في بلدان جنوب شرق آسيا كما حدث في مجتمعاتنا العربية. وعليه لا يمكنني مقارنة مهاتير محمد بصدام حسين، فلكل منهما شخصيته وتاريخه ومواصفاته وكيفية صنع أدوات الحكم لديه. لا يمكن البتة مقارنة ديكتاتورية صدام حسين بديكتاتورية مهاتير محمد ، فلكل منهما أسلوبه في التعامل مع أبناء شعبه ! أن العراق كما قلت استثناء ليس في المنطقة فحسب، بل في بيئات العالم.. كنت أتمنى أن يتأهل عراقي واحد ويمتلك مؤهلات مهاتيرمحمد ، ليكون باستطاعته قيادة الدفة الصعبة لمرحلة ما بعد صدام، والتي طالبت بها منذ العام، 2002 وأسميتها من أجل فترة نقاهة، يستعيد العراق خلالها عافيته ويتأهل لخوض الديمقراطية، قبل أن تترجم الأخيرة إلى فوضى عارمة، وهذا ما حصل ويا للأسف الشديد.
ثانيا : العراق ليس الهند
ومثلما هو الفرق كبير جدا بين ماليزي مثل مهاتير، وعراقي مثل صدام، كذلك هو العراق إزاء الهند.. صحيح أن تعقيدات الهند المزمنة، لا يمكن أن تحل بسهولة ويسر بعد تاريخ حافل بالأمجاد والتعاسة معا، ولكن جاء بعد المؤسس المهاتما غاندي كل من الرئيسين نهرو وابنته أنديرا، ومع كليهما نخبة من الساسة المحنكين، ورافقهما تطور بناء سياسي بمؤسسات قائمة بذاتها وأحزاب مدنية.. كما كان هو حال محمد على جناح في الباكستان، أو أتاتورك في تركيا ، أو ديغول في فرنسا ، أو فرانكو في اسبانيا ، أو نيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا وغيرهم .. ولقد بقيت رموز هذه البلدان باقية حتى يومنا هذا في الذاكرة الجمعية والضمائر الوطنية.. لم تقلع كالذي حدث في مصر 1952 ، والعراق 1958 مثلا ! وان وجود كل من مصر والعراق يمتد إلى أعماق العصور الكلاسيكية قبل الآخرين. إن العراق الذي تأسست دولته الحديثة عام 1921 على يد الملك فيصل الأول ( حكم للمدة 1921 – 1933) ، والذي جمع شمل المجتمع في لحمة وطنية واحدة وبإطار مدني وبأحزاب وطنية ومن خلال دستور رصين وبرلمان قوي .. واستمرت نخبة فيصل تحكم البلاد حتى العام 1958 عندما أطاح الضباط الأحرار بالملكية وأسسوا الجمهورية ، وجدنا حدوث تغيير جذري في العراق ، لكنه أخفق، ولم يتطور العراق سياسيا، وخصوصا بعد العام 1958 جراء المشكلات الصعبة التي ألمت به على أيدي الحكام العسكريين ، أو الحزبيين القوميين والبعثيين والصراع الدموي مع الشيوعيين، وصراع الحكومات العسكرية ضد ما كانت تسميّه بحركات التمرد في شمال العراق ( = كردستان ) .. فتوالدت تناقضات لا يمكن تخيلها، وهذا لم يحدث في الهند مثلا.. ففي الهند ، لم نجد الدولة تجنح لهذا الدين ، أو تلك الطائفة ، أو هذه القرية ، أو تلك العشيرة.. ولكن في العراق، حلت الفجائع مذ انقسم المجتمع إلى نصفين اثنين لأسباب أيديولوجية وطنية وقومية ، مذهبية وطائفية، وترسخ دور القبيلة والعشيرة والأسرة والطائفة.. حتى نجد انعكاسات ذلك على المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية ، وحتى على الأحزاب والمنظمات والنقابات التي لم تعد تجدي نفعا فألغاها النظام السابق .. ناهيكم عن تأثير زحف الريف على المدينة واغتيال طابعها الحضاري الذي عرفت به منذ أزمان طويلة تمتد في عمق التاريخ.
ثالثا : هل الجوقة الحاكمة ابنة بيئة سياسية عراقية ؟
وهل تعتقد عزيزي أن البيئة السياسية العراقية، هي التي أفرزت جوقات من يحكمه اليوم ؟ وهل تعتقد أن البيئة السياسية العراقية هي التي جاءت بحكم صدام للعراق سابقا؟ لديّ قناعة ، وربما كنت على خطأ فيها.. أن أغلب الذين حكموا العراق منذ تأسيسه حتى يومنا هذا، كانوا صناعة أجنبية، ولم يكن للعراقيين أية إرادة في اختيار حكامهم، ولا أية بيئة سياسة باستطاعة المرء أن يجد نفسه صاحب مسئولية فيها! اليوم، رحل صدام عن حكم العراق بعد أن أفرغ العراق من كل السياسيين المستقلين والمتحزبين وحتى من النقابيين .. وهاجر أغلب المفكرين والمختصين ناهيكم عن المعارضين السياسيين والمناوئين المؤدلجين أو حتى الصامتين إلى شتات العالم كله! وكان العراق يعيش فراغا سياسيا كبيرا مع تداعيات أحادية سياسية مقدسة، وحروب دموية مستمرة، ومأزق حصار اقتصادي قاس، وغليان اجتماعي، وكبت نفسي، ورعب جماعي، ومخاوف من المجهول.. ولم تزل كلها تفرز حتى اليوم بآثارها في ظل واقع كئيب ومستنسخ ومتفجر بالتناقضات!! صدقّنى أن هؤلاء من حكام العراق اليوم الذين جاءوا بعد صدام، لم يفرزهم الواقع، بقدر ما كانوا ورقة كرديت بأيدي الآخرين من غير العراقيين، ولقد برزوا على الساحة فجأة بعد أن تم تنصيبهم من قبل الأمريكان ! هنا أسأل : هل تعتقد يا عزيزي أن الولايات المتحدة الأمريكية تعجز بالإتيان بكفاءات ورجالات ونسوة من العراقيين توليهم شئون تصريف البلاد وإعمارها وخلق الظروف المناسبة للبدء بالعملية السياسية، إن ثمة نخبا عراقية بمختلف التخصصات ينتشرون في أصقاع العالم.. وكان أغلبهم ينتظر دوره لخدمة البلاد والعباد، ولكنهم أبعدوا وهمشوا وأقصوا ضمن أجندة واضحة منذ العام 2003 وحتى يومنا هذا.. فلقد ذهب العديد من العراقيين المتميّزين بشئون المؤسسات والإدارة والنفط والإعلام والاقتصاد والجيش والإعمار والصحة وحقوق الإنسان.. إلخ إلى العراق منطلقين من أماكن تواجدهم أو نفيهم في العالم، ولكنهم اصطدموا بواقع سياسي يرفضهم رفضا تاما.. ومنذ تلك اللحظة، خلق ما يشبه الصراع بين أبناء الداخل وأبناء الخارج من دون أية أسباب حقيقية، علما بأن العراقيين في الخارج قد وقفوا وقفات إنسانية لا تنسى إزاء أهلهم العراقيين في الداخل طوال أزمان الحروب والحصار.
ما الذي فجّر تناقضات العراق ؟
إنني أعتقد أن العراقيين قادرون على بلورة نخبة حاكمة جديدة من بينهم، إذا منحوا دورهم كرجال ونسوة أكفاء ووطنيين يعوون حجم المأساة، ولكن السياسة الأمريكية كانت لا ترغب بهم واستندت على أحزاب دينية وطائفية وعرقية، وخرجت على العالم باسم «المكونات العراقية الأساسية الثلاث: السنة والشيعة والأكراد» بديلا عن تسمية الشعب العراقي الواحد، علما بأن المجتمع العراقي مختلط ومركب من عدة قوميات وأقليات وفئات، ولكن الأغلبية فيه عربية، إن العراق الذي ترونه ممزقا وكسيحا، ومتأخرا وضعيفا.. وبلد لا يقوى على الحياة إلا من خلال ديكتاتور عادل، أو حاكم مستبد عادل وحتى إن كان ذلك لفترة مؤقتة، فإنني أعتقد أن العراق ليس بحاجة إلى مثل هذا «الديكتاتور» الذي لا ولن يستطيع أن يجمع البطش والعدالة في العراق بيد واحدة!.
إن العراق اليوم بحاجة ماسة إلى لحظة زمنية معينة، تصل من خلالها نخبة عراقية مؤهلة دستوريا لحكم البلاد، وليس لها إلا مشروع وطني للتغيير والنزاهة والإصلاح، كي تبدأ مرحلة جديدة تسقط فيها كل السياسات التي طبقت عراقيا حتى الآن كالمحاصصة مثلا باسم الشراكة أو باسم الديمقراطية التوافقية ، مع ضرورة تشريع قوانين ردع، وعدالة توزيع، وتأسيس خدمات حيوية ، وتعديلات دستورية.. الخ. إن مثل هذا سيأخذ العراق بعيدا عن مأزقه، وسيخرجه من النفق الذي دخل فيه.. وسيبدأ يحيا من جديد ضمن أسلوب جديد منفتح في الداخل والخارج.. إن أي خطوة إيجابية من أجل ذلك.. هي تحقيق لحلم أغلب العراقيين. فالواقع يتغير في لحظة زمنية معينة من دون أية حاجة إلى ديكتاتور جديد سيصفق له الناس ويهرجون ويرقصون أمامه، وما أن يسقط حتى يلعنوه أو يسحلونه أو يقطعوه إربا إربا في الشوارع!.


نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية ، العدد 4282 – السبت الموافق – 3 يوليو 2010
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

عراقٌ يكوي القلب

أما وأننا نتطرق إلي هذه القضية الملتبسة بشأن (الديكتاتور العادل) أو (المستبد الرشيد)، من أجل …