نعم ، لماذا يحطمونك ؟ لماذا يقتلونك ؟ لماذا يكرهونك ؟
نعم ، لماذا دوما كنت في مرمى تاريخ الموت ؟
نعم ، لأنك كنت دوما عصب حياة العراق ومركز حياة المنطقة وعاصمة اطول دولة متنوعة الاجناس والثقافات وملتقى اعرق حضارة عربية اسلامية امتدت في الشرق والغرب .. ولأنك ” سيدة البلاد ” ـ حسب توصيف ياقوت ـ ، ولأنك كنت دوما كالعنقاء لا تنسحق ابدا ، فما ان تذوى حتى تعود ترفع قامتها من جديد .. ولأنك خزين ثقافات انواع البشر .
بغداد .. التي تغّنى بك الشعراء وازدحمت فيك الصور تعيشين اليوم صراع الاضداد ، بتفجر حصونك من دواخلها ، بعد مرور عواصف ورياح صفراء وحروب طائشة وخطايا محتل .. انك اليوم عند ذروة الصراع الدامي .. ذاك الذي سّببه احتدام التاريخ .. فلا يمكنك الاستكانة والخنوع امام منهج احادي سابق او آخر انقسامي لاحق ليس لهما الا الكراهية وزرع الاحقاد.
بغداد التي لم يعد يفهمك كل العالم .. تجمعت فيك كل حمم النار وتساقطت عليك كل الاحجار الساخنة والاشلاء المتفسخة .. ولكم ارادوا فيه اغتيالك عنوة او غيلة .. لقد عانيت يا صاحبة النهرين من رزايا الانقلابات ودموية الاحزاب وبطش الدكتاتور .. ولم يعش ذلك الفجر الوليد الذي تغنّى به الشعراء ، حتى شهدنا ذبح تاريخك مذ حطموا موجودات متاحفك العريقة وجعلوا منك مشروعا للصراع الدموي ، ومضوا ينحرون نصب ابو جعفر المنصور ومن قبله عبد المحسن السعدون وغيرهما .. لم يكن الناحرون من اللصوص والسلابة الناهبين ، بل انهم اصحاب منهج قتل تاريخ بغداد وحواضر العراق .. انهم من المتلاقحين الذين عرفهم العراق منذ مئات السنين .. انهم من المهمشّين الذين يدركون ان بغداد تأكلهم واحدا واحدا .. فهي مشروع حضارة وتجانس واما الزبد فيذهب جفاء ..
ومن نكد الدنيا ان يحكم بغداد من ليس له علم ببغداد جغرافية واستراتيجية وطبيعة ومجتمعا وتاريخا .. انها ليس كما يريدها الغوغاء والمحتلون والجهلاء والانقساميون والمتعصبون والمتحزبون والارهابيون والمتأزمون والمتلاقحون والسراق والمتحذلقون .. وغيرهم ممن لم يقرأ عنها وعن تاريخها وعن قوة جذبها لبحر من محيط حضاري يعتبرها الام الحنون او اولئك الدارسون القادمون اليها في كل عصر وحين . بغداد .. هذه التي كانت خزينا للتحضّر والثقافة والمحبة تأبى ان يمتهنها الجهلاء الباغون .. وتأبى ان تستفيق كل يوم على مجزرة .. وتأبى ان ينحر فيها ابناؤها الحقيقيون في الشوارع والمساجد والحارات والاسواق وكل الاحياء ..
ويسأل كل من يعشقها : لمصلحة من ينحر مجتمعها ؟ لا يمكن ان نوزع الدهشة والحيرة والدموع ، بل علينا ان نسأل عن الاسباب التي زرعها اعداؤها وخوارجها وكل الحاقدين المتوحشين عليها .. علينا ان نستدعي تاريخها لنسأل : هل عاشت بغداد مثل هذا الذي يسود اليوم ؟ ولماذا حدث رد الفعل بمثل هذه الدرجة ؟ ورب سائل يسألني : لماذا كل التركيز على بغداد ؟ أقول لانها عصب حياة العراق ، واعيد مقولة نوري السعيد ، وهو احد ابرز زعماء العراق : ” اذا عطس العراق اصيب العرب بزكام ” ، واضيف : بأن المنطقة كلها تشعر بالقشعريرة والحمى ..
المشكلة اليوم ان هناك من ينكر ارتباطه ببغداد .. انه ينكر علاقته بعالمية بغداد واجناسها ، فمصيبتها الهجناء الذين لا يرغبون بها ولا يفتخرون بالانتساب لها .. بل وان الاحاديين هم من اعدائها ، فمنهم من لم يعرف قيمتها ومنهم من ليس منها ، ومنهم من لا يريد لها ان تبقى مركزية لكل العراق .. ومن الاخطاء التي ارتكبتها الولايات المتحدة الامريكية جهالتها بدور بغداد وسكانها ومن دون ان نجد واحدا من ابنائها في السلطة العليا ! المشكلة لا يمكن حلّها بأن تطرح في بغداد مشروعات للتقسيم من دون أي اعتبار لمركزية بغداد ، لا اقول السياسية ، بل حتى الحضارية ! المشكلة ان بغداد اليوم هي التي تصّور حالة العراق بما تشهده من هول الاحداث ولا يمكن للعراق ان يعيش بنظام مركزي او لا مركزي من دون بغداد .. لم يكن ستيفن هيمسلي لونكريك المؤرخ البريطاني المعروف الذي كتب اربعة قرون من تاريخ العراق الحديث غبيا عندما قال : اذا كانت الموصل رأس العراق والبصرة قوة استراتيجه البحري ، فان بغداد هي قلب العراق الحي ..
انني انصح كل المسؤولين عن العراق اليوم ان يجدوا بغيتهم في ان العراق لا يحيا من دون بغداد . ان من حق العراقيين أن يعيدوا النظر بين حقبة وأخرى في سيرورة حياتهم ، وبما آلى إليه تاريخهم .. وذلك لأن التاريخ وخصوصا في العراق يمر عبر سيرورته بجملة هائلة من التحديات .. وان الارض مهما تقطعت في يوم من الايام وافتقدت عقدتها الجغرافية ، فسرعان ما تستعيد حياتها من خلال قدرة المركز والحواضر على البقاء، وان المجتمع مهما جابه من الانقسامات وفقدان الامن وما يحدث من قتل للعراقيين وتفشي اشرس ظاهرة غريبة متمثلة بنفي المجتمع في دواخل بلاده ووطنه . ان السياسات التي مورست ولم تزل تمارس في العراق هي السبب في كل الخراب من دون اتخاذ أي علاجات طارئة تحصن العراقيين ضد الهلع والنفي والتغيير من دون أي اعتبارات لما هو راسخ في الضمائر . ان بغداد امام مصيرين .. فأما البقاء على حالها كي تتفسخ ويصيبها الضمور أو الانكسار لزمن طويل حتى تسترجع عافيتها .. وهذا يستحيل احضاره ان لم يبدأ أي مشروع جديد للحياة منذ هذه اللحظة قبل ان تتلاشى كل المضامين ، وعند ذاك لا ينفع الندم .
www.sayyaraljamil.com
البيان الاماراتية ، 10 مايو 2006
شاهد أيضاً
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …