طالعنا د. سيار الجميل في إيلاف يوم 11 فبراير بمقال رائع، عن الليبرالية القديمة والجديدة، استعرض فيه نشأة الليبرالية وتطورها ومفاهيمها، وكعادته وعادتنا، أبدع واستمتعنا بفكره المستنير، الغيور على مستقبل المنطقة، وعلى قضية الحرية الإنسانية بمعناها الشامل، ومع شكري وامتناني الدائم لقلم سيادته العلمي والشجاع، إلا أنني أستأذنه في الاختلاف مع بعض ما ورد في المقال، فرغم ضآلة هذا البعض بالنسبة لشلال التنوير الذي تدفق من المقال، إلا أنني قدرت أن الأمر يستدعي هنيهة للمراجعة المتبادلة.
ورد بالمقال: ” إن الليبرالية تبنى نظريتها على رأسمالية المجتمع، وأنها تجعل من نفع الفرد والمجتمع مقياسا للسلوك، وأن الخير الأسمى هو تحقيق السعادة لأكبر عدد من الناس من دون الالتفات إلى حجم الضرر الذي سيصيب مجتمع بكامله أو طبقة بعينها أو خسارة جماعات. إن النفعية التي تضخم مبدؤها في المجتمعات الليبرالية كي تصل إلى ما يسمى بالنفعية البنتهامية تتمثل بالاستحواذ على وسائل ربما غير مشروعة من اجل النفع الخاص. وهذا ما لا يمكن قبوله أبداً وكخصلة من سوالب الليبرالية بحيث نجد في مدن كبرى أو مجتمعات معينة القوي فيها يأكل الضعيف!”
لا أعتقد أن الأمر هكذا في المفهوم الليبرالي، وإنما تبني الليبرالية للفردية يتأسس على مبدأ أن سعي الفرد الحر نحو صالحه الخاص، سيترتب عليه تحقيق صالح المجموع، مادامت تلك الحرية متاحة للجميع، وفق قواعد ليبرالية، تمنع التقاطع أو التصادم بين الحريات الفردية المتعددة، هذا هو جوهر الفكر الليبرالي، سواء اتفقنا معه، أم قلنا بالعكس كما الفكر الشيوعي، الذي اعتبر سعي الفرد الحر خطراً على المجموع، وليس من الليبرالية القول بتحقيق الصالح لأكبر عدد من الناس، فهذا القول ينتمي للفكر الشيوعي، الذي يهتم بالقطاع الأكبر (البروليتاريا)، على حساب القطاع الأصغر (البرجوازية)، إننا نعشق الليبرالية، لأنها لا تضحي بصالح فرد واحد، ولو مقابل صالح مئات الملايين من مواطنيه، أما ما ترصده الفقرة السابقة مما تسميه “وسائل غير مشروعة” أو “سوالب الليبرالية”، فيدخل في نطاق الاستثناء الناتج عن خلل في التطبيق، والذي تتكفل الآليات الليبرالية ذاتها بتصحيحه، كما لا ينتمي تعبير “القوي فيها يأكل الضعيف” الوارد في آخر الفقرة، إلى التصنيفات الليبرالية للبشر، فلا مبرر لأن يكون هنالك ثمة “ضعيف”، مادامت فرص التحقق في المجتمع الليبرالي متاحة للجميع، بحيث لا يتبقى بعدها من ضعفاء إلا المعوقين جسدياً أو عقلياً، وهؤلاء لا يجدون رعاية أفضل من تلك التي تحققها لهم المجتمعات الليبرالية.
ورد بالمقال أيضاً: ” فان الجديدة (يقصد الليبرالية) ترتبط بالفكر الأمريكي وممارساته.. وخصوصا بعد أن غدت الولايات المتحدة الأمريكية تستحوذ على القطبية الواحدة في العالم.”.
لا نرى الأمر كذلك، ليس من الدقيق أن نطلقها هكذا يقينية مطمئنة، بأن الليبرالية مرتبطة بالفكر الأمريكي وممارساته، في تجاهل تام للشعوب والمجتمعات الليبرالية العظيمة والقوية، وجذر الخطأ هنا هو ذات الخطأ في بقية الفقرة، والتي تتصور العالم أحادي القطبية، مستحوز علية من الولايات المتحدة الأمريكية، فالعالم يتجه لتقلص دور الدولة، لتصبح مجرد شرطي ومسهل facilitator، لحماية قواعد اللعبة وتسهيلها ورفع كفاءتها، وبعض الأدوار الثانوية المكملة، لتحل محلها مجموعة من المراكز والمنظمات العالمية، والشركات عابرة القومية، والدور الأمريكي الذي يبدو للعيان متعاظماً، يرجع إلى حجم مساهمة الشعب الأمريكي النسبية في النشاط العالمي، سواء الاقتصادي أو الثقافي، وما يتبع ذلك من تعاظم لدور الدولة الأمريكية، في المحافظة على تفعيل الأنشطة العالمية المتنوعة، بنفس حجم مشاركة شعبها، ونفس هذا يفسر ما يبدو للدكتور سيار، وكأنه ارتباط بين أمريكا والليبرالية الجديدة، نحن إذن نتجه لتعدد القطبية عبر المنظمات والمراكز العالمية، إلى تجمعات تتقاطع مع التقسيم الشعوبي والدولي القديم.
ويقول المقال: ” ولا يمكن أبدا أن تقرن الليبرالية الجديدة التي تطمح إلى بناء عالم جديد بما تقترفه الولايات المتحدة أو غيرها من ( موبقات ) وخصوصاً باستخدام القوة العسكرية لفرض الهيمنة والأفكار والتقاليد.”
آسف يا سيدي، أرفض هذا المنطق حتى لو كان دفاعاً عن الليبرالية، إذا كنت تري أن ما تمارسه أكبر القوى الليبرالية في العالم، يندرج تحت بند (الموبقات)، فبماذا نعد الناس إذن ونحن نبشرهم بالليبرالية؟! وكيف ندفعهم بعيداً عن الأصولية والعنصرية والفاشية، فيما نقر أن الليبرالية في أقوى معاقلها لم تنجب غير (الموبقات)؟! أفهم ألا نحسب على الليبرالية بعض الهنات التطبيقية للإدارة الأمريكية، فهنالك دائماً فجوة بين النظرية والتطبيق، لكن على أ ن لا يصل الأمر إلى حد الجرائم في حق الشعوب، وإلا كانت النازية بريئة من ممارسات هتلر، والشيوعية بريئة من أفاعيل ستالين وتشاوشيسكو، والبعثية والأصولية بريئة من ممارسات صدام وبن لادن والزرقاوي!! علينا إذن أن نختار بين توصيف (موبقات) للممارسات الأمريكية، وبين تحمسنا لليبرالية!!
وأخيراً، تحتاج العبارة التالية بمقال د. سيار للمراجعة: ” لقد ولد الليبراليون العرب ( والعراقيون الجدد على وجه التحديد ) ليس من فراغ تاريخي ؟ إذ لم تخلقهم أمريكا هكذا فجأة.. فضلا عن وجود من الليبراليين العرب الجدد اليوم امتداد للآباء والأجداد في الماضي القريب. ألم تولد الليبرالية العربية في مصر وتونس والعراق وبلاد الشام منذ القرن التاسع عشر ؟ فليس هناك أي علاقة تربط الليبراليين العراقيين والعرب الجدد بالولايات المتحدة الأمريكية وسياساتها ؟ وليس لهم أية علاقة بالمكارثية الجديدة ؟ فلقد عرف العرب انتخابات دستورية منذ أن كانوا جزءا من الإمبراطورية العثمانية، وانتخب عن ولاياتهم العديد من النواب العرب في مجلس المبعوثان العثماني سواء في عهد المشروطية الأولى عام 1876، ثم كانت هناك انتخابات عهد المشروطية الثانية عام 1909 . ثم توالت الحياة الدستورية الليبرالية على امتداد النصف الأول من القرن العشرين.”.
أعتقد أن هناك خلطاً في قراءة تاريخ المنطقة الاجتماعي والسياسي، بين ظهور بعض رموز التنوير المتأثرين بالثقافة الغربية، وبمعزل عن القاعدة العريضة للجماهير، واتخاذ بعض الخطوات السياسية على مستوى القمة تشبه الفعاليات الديموقراطية، وبين تواجد الفكر الليبرالي في تربة المنطقة، بين قطاعات يعتد بها من الجماهير، على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وهو ما نزعم عدم حدوثه حتى الآن في شرقنا، خلا لبنان كحالة لها ظروفها الخاصة، وبالمناسبة، لا تعني انتخابات العراق (أملنا جميعاً في التحديث)، أنه قد بدأ الخطوة الأولى في اتجاه التطور الليبرالي، ما لم يتبعها العمل بإخلاص على توطين الفكر الليبرالي بين الشعب، بدءاً من مستوى العلاقات الأسرية.
شفاف الشرق الاوسط ، 20 فبراير 2005
شاهد أيضاً
مسامير.. عتاب إلى الحكومة العراقية شديد الخصوصية شديد العمومية !
قرأتُ الخبر التالي وأسعدني : ( ناشنال بوست ، تورنتو ، يو بي اف ، …