تردد كثيرا طرح “مقولة الكاريزما” كمطلب حيوي وحل استراتيجي للعراق من مأزقه في الظروف الراهنة. ويحصل في احيان كثيرة خلط بين الكارزما والحاكم القوي الذي يفرض سلطة وهيبة او رهبة على الشعب وذلك من خلال الاستخدام المفرط للقوة او البطش بمعارضيه والخارجين على القانون، فيجعلهم ينقادون له ويطيعوه طاعة عمياء، وبين الكاريزما التي تختلف عنها اختلافا كليا. والكارزما بحسب مفهوم ماكس فيبر هو “الفرد الذي يتميز بسمات شخصية فذة، تختلف عن سمات شخصية الانسان العادي، فهو يملك قوة خلاقة مبدعة، مثل القائد العسكري، او الزعيم السياسي والنبي الديني”. (معن عمر: 1991، نقد الفكر الاجتماعي المعاصر، ط2، دار الافاق الجديدة، بيروت، 119). والسمات الشخصية الفذة هذه التي تتكامل بمؤهلات قيادية حسب مقتضيات المرحلة هي التي تأسر الاخرين من شعبه فتجعلهم ينقادون له بمحض ارادتهم ورغبتهم.
ومن ابرز من دعى لمثل هذا المؤرخ العراقي الكبير البروفيسور سيار الجميل. (مقال نشر في ايلاف بتاريخ 9 2003 24 تحت عنوان: “بلاد بسبعة ارواح بحاجة الى كاريزما قيادية وحياة دستورية(“.ولكن البعض يخلط بينها (الكاريزما وبين القائد القوي او رجل عسكري قوي) حيث مطالبة البعض بان يحكم العراق ويجمع شمله شخص من النوع الثاني، وهو اما خلط واضح بين مفهوم ودور الكارزما او انه دعوة صريحة للعودة الى مرحلة دكتاتورية الفرد القوي والنظام التوليتاري. واخر من دعى الى ذلك هو الملك الاردني عبد الله بن الحسين، وقبله وزير الخارجية الاميركي كولن باول وان قصد به مرحلة انتقالية تسبق مرحلة الديمقراطية.
فالاتجاه الاول المتمثل بالدكتور سيار يستند على الاستفادة من نجاحات واخفاقات القادة التاريخيين السابقين للعراق منذ نشوء الدولة العراقية الحديثة عام 1921 وحتى الان، والتي تمثلت في “حجم المفارقات بين القوة والضعف وبين الحكمة والجنون وبين الواقعية والشعارات وبين التحرر والاستبداد وبين الدستورية والدكتاتورية.. الخ” حيث يبرز شخص عراقي يجمع بين زهد وسحرية عبد الكريم قاسم وبساطته وعفويته في التعامل مع عامة الناس وتسامحه مع مناوئيه وبين حنكة وسعة قلب الملك فيصل الاول، وحيوية وطموحات الملك غازي الاول وهدوء الرئيس احمد حسن البكر وهكذا يحاول الجمع بين الصفات الحسنة ويتجنب اخفاقات البعض وكوارث البعض الآخر التي جلبت الويل للعراق.
وبغض النظر عن امكانية جمع كل هذه “الخلطة السحرية” في شخص واحد وبهذا الوقت وبمثل هذه الظروف نطرح التساؤل التالي:
هل الحل في وجود القائد الكاريزما؟:
يرى الدكتور الجميل ان الحل ممكن ان يكون في وجود الشخص الكاريزما الذي يستفيد من الدروس والتجارب التاريخية لسابقيه ويرتقي لمستوى القادة التاريخيين في العالم امثال “غاندي في الهند وونستون تشرتشل في بريطانيا واتاتورك في تركيا ومحمد علي جناح في الباكستان وبورقيبة في تونس وتيتو في يوغسلافيا وديغول في فرنسا وزايد في الامارات وغيرهم”. يجمع ولاء الناس حوله ويوحدها.
ويقر بغياب هذا النوع من القيادة طيلة الثلاثين سنة الاخيرة ليس في العراق وحده فقط وانما في المنطقة العربية عامة.
في حين يرى اصحاب الاتجاه الاخر ان وضع العراق يتطلب رجلا قويا يضبط البلاد ويوحدها ويكون صوته مسموعا للجميع. وهذا اختزال لوضع العراق وتعقيداته ولعله ” تمني” اكثر منه قراءة للحالة في العراق.
عالم اليوم بلا قيادات كارزمية:
ان رفض مفهوم الحكم الشمولي والقائد “القوي” لا يقل عنه قيمة رفض الكارزما بمفهومه “المعاصر”، فالكارزما اليوم هو ليس من طراز نبي آتي برسالة سماوية، ويقود المؤمنين بها دون معارضة. كما ان الانبياء انفسهم وبصورة عامة كانوا قد عانوا الامرين حتى جمعوا من جمعوا من الاتباع وصارت لهم حظوات واصوات مسموعة.
والملاحظ في عالم اليوم انه بلا قيادات كارزمية. والحاجة لها لم تعد قائمة اليوم، وهي ربما ليست قاعدة ازلية. ولعل كل بلدان العالم لم تنجب او لم تحتج الى هذا النوع من القيادة، وربما اغلب نماذج القيادات الكارزمية المتأخرة التي يشار اليها كأمثلة كان بعضها زائفا من وجهة نظر معارضيه او البعض من دارسيه على الاقل. ويرى منتقدي ماكس فيبر (مبتدع مفهوم الكارزما) انه “اعتبر القوى الكارزمية كما لو كانت قوى غيبية او فوق طبيعية او قوى سحرية، وهذه القوى السحرية التي تكمن وتتجسد في روح الساحر، يمكن ان تتحقق في الواقع، بفضل اكتسابها الكثير من قوة – المانا- السحرية او – الماغا- السحرية ايضا… وهذا القوى الكارزمية من جهة اخرى تتجسد في بعض مظاهر الطبيعة، او لدى أحد افراد الجنس البشري، فتسري الى لحمه ودمه سريان التيار الكهربي كمنحة او كعطية سحرية. ولعل ما يريد فيبر ان يبرهن عليه هنا هو ان هذه القوى الكارزمية هي قوى سحرية magical powers او هي قوى غيبية او ما الى ذلك. وكل هذه الافكار والآراء التي هي اقرب الى الفلسفة منها الى الآراء الاجتماعية العلمية، والتي جعلته يشبه السيد المسيح بالمنقذ أو بالمخلص savior، وهي فكرة قريبة من فكرة – المهدي المنتظر- (حسب منتقديه)، فهذا المنقذ الذي يحمل في ذاته الطاقة الكارزمية هو عند فيبر بمثابة – الاتي بالخلاص – بعد ان يجمع شمل قومه ويدفعهم بعيدا عن الاخطار”. (زيدان عبد الباقي: 1981، علم الاجتماع الديني، مكتبة غريب، القاهرة)
واذا ما كانت هناك حاجة حتمية وحضور حقيقي للكارزما وان كان بمفهوم الكارزما “العادية” والتي نعني بها هنا: نموذج القيادة العسكرية او السياسية اي غير الروحية، والفرق بينهما ان القائد الروحي يكون نفوذه بفعل السمات الروحية – الدينية، وربما لم تفرضه ارادة داخلية وانما جاء وفق ارادة خارجية “سماوية”، وان كانت هناك مقتضيات الحاجة للاصلاح الديني والاجتماعي في الداخل، بينما يكون الامر بالنسبة ” للكارزما العادية” هو الحاجة الداخلية ولدرء خطر خارجي كما سنرى حيث يكون بالضرورة هناك دافعا مشترك ويعد عامل موحد للافراد والشعوب وهو دافع درء الاخطار الخارجية ما يجعلها تتوحد او تذعن تحت قيادة شخص ما يعد في الاخير “كاريزما” عند البعض.
فقائد مثل اتاتورك في تركيا لم يرضي جميع او اغلبية مطلقة من شعبه. وربما كانت الاخطار التي واجهت تركيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الاولى وهزائمها المتتابعة من جارتها اليونان هو العامل الاهم في خضوع تركيا لسلطة اتاتورك. وكذا الامر بالنسبة لعبد الناصر وبورقيبة وتيتو وغيرهم، كانت هناك اخطار تهدد بلدانهم. ولم يأتي معظمهم عن طريق الانتخاب انما بعضهم عن طريق انقلاب عسكري. وعليه فهم قد حكموا بلدانهم بصيغة الانظمة الشمولية ولم يفسحوا المجال لمناوئيهم بأداء الممارسة أو المنافسة السياسية. وكانت تركاتهم ثقيلة بعد رحيلهم تمثلت في الانقسامات السياسية والمطالبة بالانفصال كما حصل بالنسبة لانفصال بنغلادش عن باكستان مثلا او انقسام يوغسلافيا الى عدة دول، ذلك لبروز “الحقائق الاجتماعية – السياسية” الجديدة او المتجددة المتمثلة بحق تقرير المصير مثلا او حق المغايرة الثقافية والحزبية وغيرها.
اما نموذج الشيخ زايد مثلا في الامارات فأن هذه “الحقائق الاجتماعية – السياسية” التي اشرنا اليها ليست متمايزة او علامة فارقة. فالانقسامات التي كانت او مازالت قائمة في الامارات العربية وعموم الخليج تقريبا هي على اسس قبلية وبالتالي فأن عوامل الانسجام والتوحد اكثر من غيرها مقارنة ببلدان اخرى او بنماذج اخرى.
ومن الضروري الأنتباه الى اقتران الكارزما بالديكتاتورية. فالكارزما مهما كان نوعه واسس كارزميته فانه سوف يبني سلطته على اسس لا ترضي الجميع وان كان عنوانه هنا “كاريزما”.
كما لا ننسى ان هناك كارزمية قائمة على اسس زائفة خادعة وهذا الخداع وضرورات مرحلة عسكرية او اجتماعية راهنة ربما هي التي تجبر شعبا ما او شعوبا متناقضة على الانضواء طائعين او مرغمين تحت قيادة كاريزما. ومن ابرز هذه الظروف وهذه المخاطر هي الخطر الخارجي والحقيقة التي نرى من الضرورة الاقرار بها هي انه لا تكاد توجد جهة عراقية وطيلة فترة الاحتلال الماضية، تؤمن او تعطي اولوية الى أن هناك خطرا خارجيا يهددها اكثر من الخطر الداخلي الشائك. حيث ان المخاوف داخلية بحتة بالدرجة الاولى، فمخاوف الشيعة والاكراد كانت وما ومازالت من سيطرة السلطات المحلية الفئوية ذات الطابع العنصري والطائفي في الحكم، وان كان هذا الشكل ظاهريا وغير منصف حتى لابناء السنة العرب في العراق.
والمخاوف الان هي من امكانية عودة هذه الطغمة الى السلطة تحت اي ظرف. ومن جهة اخرى فان مخاوف العرب السنة الرئيسية هي من تسلط او انتقام الشيعة والاكراد وفرض نظام مشابه لما كان سائد سابقا وعلى حساب نفوذهم السابق في السلطة.
لقد كانت مطالب ممثلي اهالي تكريت مثلا حول استسلام المدينة هي ” ان يسلموا المدينة الى القوات الاميركية وليس الى قوات من العراقيين” وذلك لخوفهم من انتقام هؤلاء جراء افعال النظام السابق التي حسبت عليهم.
ولا شك ان غيرهم ايضا لديهم مثل هذه المشاعر والمخاوف وما يتمنوه ان يصل الامر الى مخرج يشبه المعجزة يجنب الاطراف المتربصة ببعضها التصادم بعد خروج قوات الاحتلال ويوصلها الى وفاق يرضيها في النتيجة اجمع.
ولهذا فاننا نجد هنا ان ليس هناك شعورا او اجماعا على ان هناك خطرا خارجيا يهدد العراق لكي يتفقوا او يبحثوا عن قيادة شخص كاريزما ولو ايقنوا ذلك لما احتاجوا الى كارزما. نعم يتفق الجميع ان هناك احتلالا ويجب ان يخرج ان آجلا ام عاجلا، ولكن ليس هناك اتفاق على آلية وتوقيت خروج هذا الاحتلال.
كما وان من المهم ايضا الالتفات الى ان ظروف التاثير الاعلامي والتجاذبات الاقليمية لها دور كبير في حالة التشتت وتأجيج انواع من عدم الثقة او الاتفاق هذه التي نشهدها في العراق اليوم.
ان اشد ما يوحد العراقيين هو الأرث المشترك أو معاناتهم المشتركة من الطغيان والدكتاتورية من جانب وخفوت جمرة الانقسامات الخطيرة والتي تدفع الى الحروب الاهلية عادة وهي العنصرية والطائفية، وان كانت موجودة بدرجة قليلة الا انها بفعل السياسة الماضية التي كانت تدفع بهذا الاتجاه بطريقة براغماتية تخدم مصالحها كطغمة حاكمة.
وعليه فان سر توحد القاعدة الشعبية من عموم الشعب العراقي اليوم هو رفضها لهذه الادلجة وكما يبدو ان رد فعلها هو كيدي تجاه السياسة السابقة ومن لايود استقرار العراق وأمنه ومن هذه الاطراف اميركا مثلا، وبعض دول الجوار، والقوى الظلامية من الارهابيين في الداخل والخارج، ومع ذلك فان هذه الامور لا توصل الى التوافق تحت قيادة شخص كارزما.
وعليه فان الشعب العراقي يبحث الان عن الصيغة التوفيقية التي تكون بلسما لجراح المتضررين السابقين والمتخوفين، وطموح عموم العراقيين في الامن والامان وحرية التعبير والممارسة الحياتية وقدر من الرفاه الاقتصادي والانفتاح على العالم. وهذا المشروع برايي هو “المشروع الكاريزما” البديل الذي نبحث عنه، ليكون بديلا عن “الفرد الكاريزما” المستحيل في هذه المرحلة.
حميد الهاشمي – باحث أنثروبولوجي وأكاديمي مقيم في هولندا
مجلة الجندول ، العدد 14 ، السنة الثانية ، نوفمبر 2004
شاهد أيضاً
مسامير.. عتاب إلى الحكومة العراقية شديد الخصوصية شديد العمومية !
قرأتُ الخبر التالي وأسعدني : ( ناشنال بوست ، تورنتو ، يو بي اف ، …