” لقد صدقت رواية ابن عباس في تفسير ابن كثير لاحدى ايات الله ، اذ انهار العراق وسوف لن تقوم له قائمة الا عند بياض يومه .. متى ؟ الله وحده عالم الغيب ”
الشيخ فائق
سأحكي لكم اليوم قصة مضى عليها بالضبط 45 سنة وقد عايشتها عندما كنت طفلا صغيرا وانا في الصف الاول من ابتدائيتي .. كانت السيارة تنهب الارض بنا نهبا من العام 1957 وعمري لم يتجاوز الخامسة بعد ولم يعلق في ذاكرتي القليل لأن ما شهدناه من احداث تموز / يوليو العام 1958 الصعبة والساخنة قد حفرت عندي خطوطا عميقة بالغة التأثير وقوية الاثار .. كنت بصحبة اخي الذي يصغرني بسنتين ورفقة والدتي ووالدي ومربيتنا والسائق خورشيد يقود سيارة الفورد الواسعة التي تنهب الارض وتتلوى بين السهول والوهاد الخضراء نهبا من الموصل باتجاه قصبة بلدة سنجار الواقعة عند جبل سنجار في شمال غرب العراق وقد نّصب والدي رحمه الله حاكما عليها .. ولم يكن يحرسنا احد في الطريق الذي يدوم بالسيارة اكثر من ساعتين .
اذكر ان اناسا من كل الفئات استقبلتنا عند مشارف مدينة سنجار حيث تقع عند بوابتها البعيدة ، قرية جميلة فيها يجري ماء رقراق واسمها ” كوكمك ” .. كانت سنجار مدينة قديمة جدا واشتهرت كثيرا في العصر العباسي ، اذ غدت مركزا من مراكز علوم الفلك والمراصد ولم تزل بعض آثار المنارة القديمة التي كانت تستخدم لتلك الاغراض العلمية .. ومجتمعها خليط من العرب والاكراد ولكن تعد مركزا لعشرات القرى التي تحيطها والتي تقطنها الطائفة اليزيدية العريقة .. وهي طائفة اجتماعية لها تاريخ نضالي ضد كل الذين ارادوا النيل منها كونها مغلقة ، ولليزيدية ديانتهم وطقوسهم وعاداتهم وتقاليدهم الخاصة التي اعتبرت في عهود تاريخية مختلفة ” طائفة مارقة كافرة خارجة عن الاسلام ” ! ..
وعليه ، فلقد اوصوني وانا غض غرير بجملة وصايا لا يمكن اجتياز خطوط حمراء كيلا اتعرّض الى ما لا يحمد عقباه .. كان حفل الغداء في دار القائمقام ، ولم ازل اذكره رجل مرح لم يخلق مثله في كلامه الجميل ونكاته الرائعة وكان يغني اذ كان جذلا بمقدم والدي حاكما للمدينة .. وفي اليوم الثاني ، وصلت الى دارنا مائدة السيد مدير الناحية وهو رجل دمث من اعيان الاكراد واسمه طاهر النقشبندي ( وهو غير القاضي محمد طاهر النقشبندي ) ، ثم دعينا في اليوم الثالث في دار الشيخ الوقور فائق الدبوني الواقع في قلب المدينة .
سنجار بلدة صغيرة هادئة تقع بالقرب من جبل يسمى باسمها ذاع عبر التاريخ بخيراته ومياهه العذبة وثلوجه ثم تنفسخ البادية للجنوب منها وهي بادية الجزيرة الفراتية التي يتنقل فيها البدو وقد اصبحت في ما بعد من اهم حقول زراعة الحنطة والشعير .. تشتهر سنجار بالتين والزيتون وبخيرات لا تحصى ويشتهر تينها ببياضه وحلاوته التي لا يمكن وصف طعمه الرائع .. مشاكلها كثيرة بحكم اختلاط المجتمع وعادات سكان المدينة عن تقاليد سكان القرى .. في المدينة عيون ماء لا تعد ولا تحصى اشهرها العين الكبيرة وعين بلبولي وغيرها وتنتشر على مد البصر بساتين مختلفة فيها كل الاثمار المتوسطية . استمر وجودنا فيها لأكثر من سنتين شهدنا خلالهما اقسى الاحداث التاريخية في حياة العراق ، وساقتصر في هذه المقالة على الحدث الاول لأترك الحدث الثاني في حصة لذكرياتي عن شخصية اخرى ..
من هو الشيخ فائق ؟
أحد ابرز كبار عائلة الدبوني الموصلية الشهيرة ، غارق في السن ، لحيته بيضاء ناصعة طويلة مع وجه سمح لا يبتسم الا نادرا نظرته اليك فاحصة ، وزوجته السيدة مجدية ابنة الشاعر الموصلي الشهير عبد الله راقم افندي النجفي الخوالدي .. وللشيخ فائق وزوجته ابنتهما الوحيدة الانسة سكينة التي كانت تلازمهما كل الاوقات . اما اولاده فهم اربعة برز منهم اثنان في القانون والثالث في الادارة اما الرابع فضابط سيشنق في العام 1959 ضمن قافلة الذين حوكموا بتهمة التآمر ضد نظام الزعيم عبد الكريم قاسم ، رفقة ناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سري على عهد قاسم .. كان الشيخ فائق يقيم في الموصل ، ولكنه يختار سنجار مصيفا له لقرابة ثلاثة اشهر في كل سنة ، نظرا لطيب هوائها وعذوبة مياه عيونها وروعة اثمارها ..
كان بيته عاليا ويمتلك فيه اجمل شرفة مدوّرة تطل على بساتين وعيون ماء تجري في كل مكان .. كان يسمّي الشرفة بـ ” المفتول ” ويعقد فيها جلسته التأملية رفقة زوجه وابنته .. وكان الشيخ فائق يلبس لباس الافندية أي البدلة والربطة ، واما يستخدم السيدارة رمز جيل القدماء من العراقيين او يعتمر العمامة ! كان والدي يصطحبنا اليها في زيارة اسبوعية خلال الصيف لنقضي وقتا رائعا هناك بعض الساعات .. وكانت عمتي لوالدي واسمها العمة جميلة تقيم معنا وهي تسعد بزيارة اقربائها وكان الشيخ فائق وعائلته يردون الزيارة بعد يومين او ثلاث .. اذكر عندما كنت يافعا قد اصبت بالخوف والرهبة من اناس يلبسون غير ملابسنا وينظرون غير نظراتنا .. وكانوا في البيت ينهونني ان لا اذكر امام تلك الناس بعض الكلمات التي تعتبر بالنسبة لهم خطيئة وكفرا وخصوصا كل كلمة فيها حرف ” الشين ” ، فكان ذلك كافيا ان زرع الرعب عندي من ذلك ، فكانوا يأخذونني بأمر من عمة الوالد الى الشيخ فائق ويضع يده على رأسي ويقرأ تعويذته وكنت احس بقوة يده وتأثيرها على رأسي ، ثم ينفخ علي ّ ثلاث مرات !
كان صيف العام 1958 حارا وضاريا وفي مطلع يوليو منه صحت والدتي على حلم عنيف جدا واصرت ان تحكيه لفضيلة الشيخ فائق ، وفي المساء بدأت تقص خبر الحلم العجيب على الشيخ وهو يزيغ بعينيه عندما سمعها تقول بأن الشمس ستنشق الى قسمين ويسقط القمر متناثرا محترقا وقد تحولت البحار والانهار الى دماء قانية ، فعّقب عليها عندما انهت رؤيتها قائلا : الله يسترنا من الذي سيحدث في العراق .. كان يتمتم ببعض الكلمات ويغمض عينيه ليبقى طويلا ، ثم يستنشق الهواء فجأة ، وهو ساهم النظرات ويقرأ بعض آيات الله .. ويكرر : الله يسترنا !
وفي فجر الرابع عشر من تموز/ يوليو 1958 صحونا على وضع ملتهب في العراق .. الاذاعة العراقية تزمجر غاضبة بقوة وانشودة ” الله اكبر ” تخترق الاسماع واغنية ” يا ويل عدو الدار ” تثير الوجدان وتعليقات صارخة يطلقها صوت اجش عرفت في ما بعد انه صوت العقيد الركن عبد السلام عارف ( رحمه الله ) وهو مهتاج يذيع حول ما يجري في بغداد ، ويدعو الناس للخروج من بيوتها لتهاجم قصر الرحاب وكل مؤسسات العهد السابق .. وبدأ فصل جديد من تاريخ العراق باعلان الجمهورية بكل ما رافقها من قتل وسحل وتدمير باعلان ثورة عسكرية بدأتها بقتل الملك فيصل الثاني وكل افراد عائلته ( رحمهم الله ) ..
اعترف انني منذ تلك اللحظة التاريخية الصعبة تعلمت معنى الخوف من احداث العراق الصارمة ، وعرفت ان الانسان يقتل وان الدماء تسيل .. كان ابي ( رحمه الله ) يضرب كفا بكف وكانت والدتي مذهولة وكانت العمة الكبيرة تحتضنني مع اخي سرمد .. اجرى والدي اتصالاته التلفونية مع القائمقام الجديد وكان اسمه احمد الوهاب ومدير الناحية الشيخ طاهر النقشبندي ومدير الشرطة اسماعيل احمّيد لضبط الوضع في داخل المدينة ومخارجها .. ولقد عرف بأن كل شيىء قد انتهى لصالح الانقلابيين ولكن لم تعرف الصورة بعد الا من خلال بيانات يذيعها الراديو من دار الاذاعة العراقية ..
كان الراديو الكبير في مجلس الاستقبال الذي فتح لاستقبال بعض المسؤولين والشخصيات .. وكان الراديو الاخر في الصالة التي تضمنا .. وجدت عمتي الكبيرة تنهمر منها الدموع حزنا وكمدا على الملك الشاب فيصل وجدّته جلالة الملكة نفيسة التي تعرفها والحريم .. امتلأت الصالة الكبرى بالسيدات واذكر منهن : الست مقبولة سرسم والست اديبة محجوب والست سميرة رسام وغيرهن كثيرات من زوجات مسؤولين وموظفات ومعلمات .. لم اتثبت من مشاعرهن ولكن من دون تأكيد هناك من كان فرحا مستبشرا بقيام الانقلاب واندلاع ثورة الرعاع الذين هبوا على شوارع بغداد ليشاركوا في ماراثون التحولات العراقية ويصفوا حساباتهم مع رجالات العهد الملكي السابق .
يوم من التاريخ : صباح دامي ومساء حزين
كنا في المساء نجلس في شرفة المفتول والمراسل الشرطي عمر رفقة زملاء شرطة يحرسون الطريق كنت انظر الى الافق لأرى الشفق بعد ان ذبلت الشمس وقد اصبح احمرا قانيا .. لقد وجدت الشيخ فائق يبكي وينتحب كالنسوة وهو يقول : لقد دمر العراق بايدي هؤلاء من اولادنا العسكريين الطائشين ! ينتحب ويتساءل : لماذا يقتلون سليل الرسول عليه افضل الصلاة والسلام ؟ لماذا يقتلون فيصل الثاني ويسحلون عبد الاله ؟ لماذا تقتل النساء من دون ذنب ؟ انني اشهد بأن البلاد دخلت اليوم في بحر من الدماء سوف لن تتخلص منها بعد عقود طويلة من السنين !
كان ابي حزينا وكئيبا وفي قلبه غصة ! كانت امي منذهلة كما لو ان اعصارا قد حل بهذا العالم ! كانت عمتي الكبيرة تولول مكلومة ! الكل ساكتون وهم يرون الشيخ الوقور وقد اعتصره الالم الشديد وهو يبكي كالنساء قائلا : لقد تحقق الحلم والرؤية معا يا ابنتي خالدة ( ويقصد بها والدتي ) .. كنت اشهد اول مناحة في حياتي وانا غض غرير .. وبعد مرور ايام على الحدث ، بدأت تتلمح الصورة فهناك من صفق وهتف في الشوارع ، ففي اليوم الثاني ، وردت الى بيتنا نخبة من السيدات وبينهن فرحات مستبشرات بالخلاص من النظام الملكي البائد .. وسرعان ما تواردت الينا بعد ايام من قبلهن مجموعات من الصور بالاسود والابيض عن اجداث الامير عبد الاله ونوري السعيد وهي تسحل على قارعة الطريق وقد تقطعت اربا اربا .. اذكر والله صورة جثة عبد الاله وهي مقطعة على عمود الكهرباء وبابشع حالاتها .. وقد جن جنون والدتي وهي تراني امعن النظر فيها وبرفقة صور اخرى ، فسحبت الصور من يدي وهي تصرخ بالذي اعطاني اياها .. لقد بدأت هواجسي في تلقي الصدمات التاريخية العراقية وانا غض غرير ..
بعد ايام بدأت تنتابني حالات من الفزع اذ اصحو في المنام وانا في حالة نفسية سيئة .. كانت عمتي الكبيرة جميلة تضع قرآنا صغيرا جدا تحت وسادتي .. او تستعين بسكين صغير تضعه تحت تحت الفراش دفعا للكوابيس كما هي كانت تعتقد .. اخذوني عند الشيخ فائق ليمسك رأسي بقوة ويتمتم بضعة كلمات وينفخ نفخة قوية يشعرني بقداسته .. لا اذكر ابدا متى استقامت حالتي ، ولكنني بالتأكيد كنت انتظر المدرسة على احر من الجمر لالتقي اصحابي .. كانت صور الدفاتر قد تغيرت وكان اسم الدولة قد تبدل .. بدأ الكل ينشد للجمهورية العراقية الفتية .. بدأنا نهتف كل صباح بنشيد ” الله اكبر ” الذي وضعه فنان مصري وكانت اذاعة صوت العرب تبثه صباح مساء ..
وبعد ايام انطلق صوت كوكب الشرق ام كلثوم لتنشد قصيدة الشاعر محمود حسن اسماعيل التي لحنها رياض السنباطي :
بغداد يا قلعة الاسود يا كعبة المجد والخلود ..
والتي لم ازل احفظ منها على ظهر قلب :
سمعت في فجرك الوليد توّهج النار في القيود
وبيرق النصر من جديد يعود في ساحة الرشيد
ثأرت في حالك الظلام وقمت مشدودة الزمام
للنور للبعث للامام لبأسك الظافر العتيد
ومجدك الخالد التليد عصفت بالنار والحديد
وعدت بالنور من جديد
يا عربا دوّخوا الليالي وحطموا صخرة المحال
مروا على شعلة النضال مواكب البعث والصعود
لقمة النصر في الوجود عودوا لايامكم وعودي
كالفجر في زحفه المجيد
لم يبق الشيخ فائق في مصيفه ليكمل شهر آب المشهور باللهاب من كثرة الحر والقيظ فيه .. رجع رفقة زوجته وابنته الى مدينة الموصل ليبدأ تاريخ من نوع آخر .. وتمضي الاشهر الساخنة ، فاذا بابنه هاشم وكان ضابطا كان قد انخرط على غرار اترابه في الخط القومي ويشارك العقيد الركن عبد الوهاب الشواف في محاولته الانقلابية فيعتقل ويساق الى محكمة الشعب برئاسة العقيد فاضل عباس المهداوي ويحكم بالاعدام وينفذ به الحكم رفقة جماعة الطبقجلي .. ليبكي الشيخ فائق على شباب ابنه بكاء مرا .. ولم يمض الا زمن قصير حتى يلقى الشيخ فائق ربه راضيا مرضيا ولكن في قلبه غصات ولوعات لا حدود لها ابدا .. ومرت السنوات العجاف على العراق ، وكلما تسخن الاحداث الدموية فيه وتمر الحروب عليه كلما اتذكر كلمات الشيخ فائق .. ـ رحمه الله رحمة واسعة ـ ، فلقد غرست ذكراه في خاطري مذ كنت يافعا غضا .. ومن النعم التي اشكر الله عليها انه منحني ذاكرة حادة كانت هي السبب في ان اكون متخصصا في تلافيف التاريخ الحديث ، ولعل من اصعب تواريخ المنطقة هو تاريخ العراق الذي تكثر فيه التلافيف والمشكلات والمعضلات وحزم الاحداث والتمردات والتشظيات .
فصلة من كتاب : زعماء ومثقفون : ذاكرة مؤرخ لمؤلفه سّيار الجميل
الرئيسية / سيرة وصور / فائق الدبوني.. هيبة الشيخ والعالم الديني الوقور… نفاذ الرؤية الروحية وبكائية في مساء سنجار الدامي الحزين
شاهد أيضاً
اعلان من الدكتور سيّار الجميل.. الى كافة المثقفين العراقيين في العالم
ايها الاخوة .. ايتها الاخوات أعلن لكم جميعا انسحابي من المجلس العراقي للثقافة في عمّان …