الرئيسية / سيرة وصور / المراسل عمر …ذكرى قصة إنسان كردي عراقي مضى الى رحاب الله..التواضع والنظافة والإيمان والصدق وحسن التربية : الصفات الاولى

المراسل عمر …ذكرى قصة إنسان كردي عراقي مضى الى رحاب الله..التواضع والنظافة والإيمان والصدق وحسن التربية : الصفات الاولى

” اننا نعيش كما اراد الله لنا ان نعيش .. ”
المراسل عمر
مضى من الزمن على تأسيس الدولة العراقية والعرب تعرف الاكراد معرفة تعايشية وصلة وثيقة .. وهكذا مع التركمان وغيرهم .. مضى الزمن العراقي حتى العام 1958 ولم تعرف من هؤلاء الذين شاركونا حياتنا وتاريخنا واسلامنا ووجودنا واشتركوا في الدفاع عن حصوننا ومدننا وتخومنا .. فضلا عن فضل زعاماتهم القديمة وادوار مثقفيهم وشعرائهم وعلمائهم وفقهائهم .. واليوم ، ونحن نترك مواريث القرن العشرين بكل موبقاتها الصعبة وبقاياها الرديئة .. لابد ان نتعرف عند فاتحة القرن الواحد والعشرين على نماذج من بشر عراقيين من صابئة وكرد وتركمان وارمن ويزيدية وسريان وآثوريين وغيرهم .. اعراق وجماعات عاشت بيننا وكانت لها تواريخها ومقوماتها وهي في اوطانها القديمة التي عاشت فيها الاف السنين ! ولعل العراق يمتلك اكبر قومية يمثلها الاكراد بعد العرب .. ويشترك هؤلاء في الحياة العراقية ويعدون جزءا من خصوصياته التي لابد ان يدركها العرب المعاصرين .. وان اي توّجه شوفيني او طائفي في العراق لا يمكنه الا ان يكون وبالا على حياة العراق والعراقيين كما حدث في النصف الثاني من القرن العشرين .
دعونا نتوقّف اليوم عند تجربة تاريخية ووجدانية لها مصداقيتها خصوصا وانها تّعبر في ذكراها عن قصة رجل كردي اسمه المراسل عمر .. وهي تجربة عشتها وعايشتها في طفولتي ولما تزل مغروسة في اعماقي ومحفورة في ذاكرتي منذ ان كنت في السادسة من العمر ، وكانت تتجدد كلما رجعت الى ارشيف العائلة من الالبومات القديمة لاستعيد الذكرى وخصوصا قبل ان غادرت الوطن منذ سنوات طوال . واقولها لله والتاريخ وهي نصيحة اسديها لكل عربي مخلص لا يكتفي بعروبته ، بل يشارك الاخرين من شعوب عالمنا الاسلامي انسانيتهم وخصالهم ويحترم وجودهم .. انني قد علمتني تجربتين في طفولتي التي قضيت منها سنوات بين اخوتنا الاكراد الكثير الكثير من طيبتهم ومصداقيتهم واخلاقياتهم العالية التي لابد ان نتعلم منها الكثير نحن العرب . ولكن هل بقي الاكراد يحملون نفس المشاعر القديمة ازاء العرب وغيرهم ؟ هل يحمل الجيل الجديد من الاكراد نفس تلك الاخلاقيات العالية التي تميز بها الاوائل .. لم اذكر من الاوائل الا الطيبة وقوة الايمان والنظافة والانفة والشعور بالعزة وقوة الشكيمة والمزاج المتلون !
كيف بدأت القصة ؟
لا اعرف منه الا اسمه فقط .. كان ” مراسلا ” . والمراسل في العرف الاداري العراقي : شرطي يعّين رسميا من قبل مدير الشرطة ليكون ساعيا لكل صاحب منصب .. في العام 1957 ، انتقلنا برفقة والدي رحمه الله الى قضاء سنجار غربي الموصل حيث نّصب حاكما عليه كما كنت قد حدثتكم في حلقة سابقة .. كان عمري لا يتجاور السادسة ، وقد غرست في وجداني ذكريات تلك الايام الطيبة التي كان يعيشها العراقيون على العهد الملكي الآمن ، اذ كان يحكم العراق الملك فيصل الثاني 1952- 1958 ، وكان لكل ذي منصب في البلاد العراقية بطولها وعرضها ، هيبته ووقاره ومكانته العليا في المجتمع ..
كان المراسل عمر قد كّلف بمهمة مراسل البيك الحاكم .. كان المراسل عمر رجلا كهلا تجاوز عمره اكثر من الخمسين سنة وقت ذاك .. منذ اللحظة الاولى احسست بمصداقية ذلك الرجل الذي كان تقّيا لا تفوته اي صلاة عندما يقف ببزّته البوليسية الخاكية الصوفية القديمة ويقلب سدارته ليلبسها عرضا وبالمقلوب فيؤدي الصلاة .. كان طيبا الى حد السذاجة ولكن يثور عند ساعات الغضب ، ولكنني اكتشفت بعد حين ان غضبه مصطنع حينا وحقيقيا حينا آخر .. كان يحكي لنا حكايات جميلة عن طفولته .. كان يعتز كونه كرديا مع زوجته كوتشري وابنته وولديه ..
كان له خصمه اللدود في ملحق الخدمات اسمه محمد وهو طباخ كردي ولكنه شاب قصير القامة ضعيف البنية .. كان الاثنان خصمان لدودان كل منهما يرى نفسه احسن من الاخر وكل منهما يشعر بأن منصبه اعلى من الاخر !! كان محمد يدّبر المقالب المضحكة للمراسل عمر ويقتص منه كلما سنحت له الفرصة .. الاول المراسل عمر يتهم الطباخ محمد بالكذب والبهتان وكان الثاني يعّيره بالطرش والسذاجة .. كان الاثنان يخافان من والدي ويخشيان من ” البيك ” كما كانوا ينادونه . المراسل عمر يعتني بي وبأخي الاصغر منذ الصباح الباكر ليخرجانا اليه وقد لبسنا ملابسنا النظيفة التي يقتنيها لنا الاب بنفسه من سوريا ، مع حقيبتينا الجلديتين بلونهما الرصاصي ، ليأخذنا بيده الى المدرسة الاولى .. ثم يعود علينا عند الظهر ليرجعنا الى البيت ..
في الاجواء المكفهرة من الشتاء الصعب حيث الامطار والثلوج التي تبقى مستمرة اياما نذهب بالسيارة ، وفي الاجواء العادية نذهب ونعود مشيا على الاقدام بأمر من والدي اذ يحرص على ان يعلمنا ان نشارك غيرنا اسلوبهم في تلك المدينة القديمة باجوائها وبساتينها وعيونها .. اذ لا يريد ابدا ان يشعرنا بالتميز على الاخرين .. والمسافة ليست بسيطة بين البيت والمدرسة ، اذ كنا نسلك شارعا طويلا يوصلنا الى العين الكبيرة ومن هناك يأخذنا شارع طويل آخر الى المدرسة ، وهو شارع يزدان بالاشجار ، ولكنه يأخذ بالارتفاع شيئا فشيئا حتى الوصول الى المدرسة .
في البيت المتواضع يعيش الفقراء
حرص المراسل عمر منذ ان وصلنا الى تلك المدينة الساحرة ان يأخذني برفقة اخي الاصغر معه ليرينا بيته .. وكان يفخر امام اقرانه ومعارفه انه يتمشى برفقتنا ويتنطع انه ذاهب الى داره .. مشيت معه في ازقة متربة وتمتد فيها بيوتات بائسة ، صحيح ان اوضاع الناس مزرية ولكن صورة الجميع وكأنها الان تمر من امامي .. ترسم الابتسامة على وجوهها فالتواضع والقناعة من سمات اولئك الناس الطيبين .. شيوخ تدخن التبغ بغلاوينها القصيرة .. نسوة يحملن حاجياتهن الى حيث يقيمون .. اطفال تلهو هنا وهناك .. بيوتاتهم صغيرة وقديمة متلاصقة وتشم روائح شتى .. دخلنا الى احداها ، فأحسست لأول مرة في حياتي وانا ابن الخمس سنين ببؤس بعض الناس في هذا الوجود .. الروائح عفنة والملابس متمزقة .. الاولاد يلعبون في تلك الازقة الضيقة مع انتشار الاوساخ ..
في داخل ذلك البيت البائس الذي يعيش فيه المراسل عمر وعائلته ، مجموعة من الحيوانات والطيور والدواجن .. امتعة ومنامات نظيفة يضعونها فوق اعالي الدواليب وهم يفترشون الامتعة المهلهلة .. اوانيهم معدنية أصابها السواد .. الدجاجات السوداء مع عشرات الفراخ يمرون في كل مكان لالتقاط ما يرونه من دون ان يعبئوا بالاخرين .. والديك خشن يقف فوق التنور يصيح باعلى صوته فيجيبه ديك آخر من بعيد .. قطة بيضاء كالقطن سمينة وانيسة تتمطى في شمس الضحى .. كل هذه الصورة السوريالية يجمعها حوش صغير جدا تتوسطه شجرة رمان تزدحم بالازهار الحمراء .. وكل ذلك عالم المراسل عمر وبدا انه سعيد جدا به وكأنه يمتلك قصر يلدز !
صور من حياة الناس
لأول مرة في حياتي وانا غض غرير اسمع لغة لا افهمها ، قلت له : عم عمر ماذا تقول للناس عندما تلقاهم ؟ اجابني : نحن نتكلم كردي ! ومع توالي الايام تعلمت جملة كبيرة من الكردية وبدأت احادث الناس بها ، ولكن ما ان غادرت عالمهم الجميل حتى نسيتها كاملة باستثناء بضع كلمات .. رجعنا من طريق آخر ، وجدت الاتربة تملأ الاماكن ، ولكن بدت لي من بعيد عيون جارية مياهها عذبة وتسري المياه في كل مكان من هذه المدينة التي تجاور جبلا عظيما يقوم الى جانبها ويسّمى باسمها .. وقفت على العين الكبيرة المسورة بجدار دائري قديم مبني من الحجر والجص .. ونسوة يجلسن في داخله عند حافة دائرة ماء يتدفق من تحت الارض ، كل واحدة جلست لتغسل كومة من الملابس , هذه تفرك بيديها والثانية تضرب بالخاطور ( = اداة خشبية تصنع خصيصا لضرب الملابس اثناء غسلها ) ، وثالثة وضعت حزمة من الاقمشة المنقوعة والاصواف تحت رجليها ، وهي واقفة تضرب بهما على تلك الحزمة لتنظيفها ! دلفنا بعد ذلك الى الشارع العام الذي تضلله الاشجار الباسقة .
كان المراسل عمر مزهوا ( بمنصبه ) امام بقية زملائه واقرانه من الشرطة العراقيين ، فمركز الشرطة يلاصق دار الحاكم .. وكان يستخدم نفوذه عليهم وكأنه متسلط فيشخط بهذا وينهر ذاك .. كان دار الحاكم الذي نقيم فيه ينقسم الى قسمين قسم الضيافة الخاص بوالدي وقسم نعيش فيه .. كان كرسيه في القسم الاول وما ان يلتقي بالطباخ محمد حتى يتنابذان فيخرج يزبد ويرعد ثائرا وسرعان ما يغّير حالته اذا ما وقف امام سيده اذ يصمت الاثنان بوجود الوالد صمتا جامدا لا اسمع منهما الا : امرك بيك وكأنهما من طينة اخرى !
كان للمراسل عمر ولد اسمه ( خّطاب ) يكبرني بسنة واحدة فقط ، وكان كبقية اقرانه من ابناء تلك البلدة التي تنوعت فيها الاجناس من صغار الاطفال ، يحمل كل واحد منهم كيس قماش صغير وقد خيط اعلاه بخشبتين ويربطونه باعناقهم وينزلون فيه قصبة لامتصاص رحيق ما يضعونه في الكيس .. انهم يضعون في الكيس مادة يمتصونها يسمونها ( السويق ) . فما هو السويق ؟ السويق : مطحون لب البطيخ الاصفر ( = الشمام ) بقشره ولبه معا يضاف اليه مطحون السماق الاحمر الحامض مع قليل من السكر المطحون .. فيصبح خليطا كالباودر يمتصه الاطفال من خلال تلك الاكياس المحمولة في حلقوهم ، ويمتصون الباودر من خلال فوهة بكرة خشبية صغيرة تؤخذ بعد استكمال خيوطها ، فيشدونها برأس الكيس اذ يمتص صاحبها السويق من فوهة تتصل بفوهة اخرى .
لم اكن طفلا شقيا ، بل كنت اعشق المغامرات وصناعة المقالب بالمراسل عمر وبغيره .. اتذّكر مرة انني اصطنعت التيه في وسط بساتين التين والزيتون ، واختفيت عن اعين المراسل عمر وجن جنونه بعد ان اصبح المقلب حقيقة وتهت فعلا واخذتني الطرقات الى مكان خارج المدينة وعرفت ان اعود بنفسي بواسطة وجود منارة بعيدة تتبعت الطريق اليها وكان المساء قد خيم ولما وصلت كان الدنيا قد انقلبت ونلت من العطف بقدر ما نال المسكين من التوبيخ ! وفي الامسيات ، كنت الح على العم عمر ان يأخذني الى حيث يجلس بعيدا من النادي الصيفي الذي كان قد تأسس بجهود من والدي ( رحمه الله ) وكنت معجبا بالوان الاضوية الملونة المنتشرة فوق الاشجار وروائح اشجار التين في الامسيات الجميلة والموسيقى تتهادى انغامها كانت سواقي المياه تمتد في كل مكان من ارض النادي ، وقد هندست بشكل جميل ويجري الماء سريعا فيها وهي مياه طبيعية جارية بالقرب من النادي الذي اتخذ له موقعا جميلا قرب المطحنة التي كانت تعمل وتدور بقوة المياه الساقطة والسريعة .. وكان يعجبني الحمص المسلوق مرات او التين الاخضر الذي تتميز به سنجار من كل هذه الدنيا ، فالتين فيها لا يمكن وصف حلاوته ابدا .. كانت مياه سنجار من اعذب ما شربت من مياه في حياتي .. وكانت الاثمار التي تزدهر بها بساتين سنجار مثار اسئلة لا تحصى ..
ذكرى المراسل عمر
بعد رحيلنا عن سنجار في العام 1959 لأسباب سياسية وتغير النظام السياسي تركنا المدينة بعد سنتين هي غير تلك التي دخلنا اليها ، فالشوارع غدت معبّدة وبنيت مستشفى كبير وجددت الاسواق واصبحت المدينة نظيفة جميلة وسياحية .. بدت جهود الاثاريين تبدو واضحة في مناطقها .. تأسس صندوق الضمان لمساعدة الفقراء ، وبني نادي جميل جدا للموظفين .. الخ وكل ذلك بفضل جهود والدي ( رحمه الله ) . استمرت العلاقة بيننا وبين ذلك الانسان الطيب المراسل عمر وخصوصا بعد وفاة والدي العام 1968 ، اذ كانت والدتي كريمة عليه وعلى عائلته حتى وفاته ووفاة زوجته .. لم اره ابدا ، بل كنت اسمع انه كان يبعث لي بتحياته وكانت الدنيا قد عصفت به على عهد البعثيين وقتل ابنه خطّاب ظلما وعدوانا ، فعاش يندبه ويبكيه حتى مات كمدا رحمه الله رحمة واسعة .

شاهد أيضاً

اعلان من الدكتور سيّار الجميل.. الى كافة المثقفين العراقيين في العالم

ايها الاخوة .. ايتها الاخوات أعلن لكم جميعا انسحابي من المجلس العراقي للثقافة في عمّان …