الذكرى الثامنة : رحيل رجل المهام الصعبة
مرّت في العشرين من شهر يناير / كانون الثاني 2008 الذكرى الثامنة على رحيل الاستاذ عبد الباسط يونس ، الاديب والصحفي ، ابن الموصل الحدباء ، ام الربيعين ، وهو من جيل رواد ما بعد الحرب العالمية الثانية ، اذ كان قد ولد في الموصل عام 1928 ودرس ونشأ فيها ، وأحبها حّبا جمّا ، وكان قد غدا واحدا من ابرز شخصياتها الصحفية والاعلامية .. واسمه الكامل : عبد الباسط يونس رجب حسين البدراني كانت ولادته بالموصل ، وبحكم وظيفة والده كواحد من قدماء ضباط الجيش العراقي ، فقد انتقل الى بغداد وعاش طفولته في الاعظمية .. لكنه عاد الى الموصل ، وعرف عنه منذ شبابه قيادته للمظاهرات في شوارع الموصل .. وكان جريئا وشجاعا في قول ما يريد . وفي العشرين من عمره ، اي في العام 1948 ، واثناء المظاهرات ضد معاهدة بورتسموت اعتلى الصندوق الحديدي الاحمر للبريد في شارع نينوى وعند مدخل شارع النجفي ، وصاح في المتظاهرين بصوته الجهوري: يسقط اكبر رأس في العراق ، فأحيل الى المحكمة واعتقل .
ولم يثنه ذاك عن نضاله الذي عرف به بين رفاقه ، اذ تعّرض لمرات عدة للمداهمة والاعتقال والاحكام العرفية. حدثّنى عن اعتقاله اثر احداث الشواف في الموصل عام 1959 ، ووقوفه امام المهداوي ، وكان صريحا وجريئا ، ولقد بقي في الحبس فترة ليست بالقصيرة من الزمن ! .. علما بأن دورا كان مسندا له في تلك الاحداث الخطيرة .. لقد وجدته بعد سنين وهو يقصّ علينا احسن قصصه يتنّدر على تلك المواقف ، ويقول معلقا : لقد ارْتكبَتْ اخطاء جسيمة بحق العراق ، فلقد ناضلنا وكافحنا طويلا من اجل اهداف مثالية لا يمكن تحقيقها .. كان شجاعا صلبا في الدفاع عن آرائه ولا يخشى في الحق لومة لائم وكانت له صولاته وجولاته السياسية .. لم ينتم الى اي حزب من الاحزاب ، ولكنه كان يعّبر عن روح وطنية ، وقد تأثّر بحكم واقعه السياسي والاجتماعي والثقافي بالافكار القومية حينا .. لكنه تخّلى مع الايام عن عدة افكار كان يؤمن بها في الماضي . لقد كان في الثلاثين سنة الاولى من حياته مشاركا في الاحداث والمواقف .. ولكنه بدا في الثلاثين سنة الثانية على غير ما كان عليه !
المزايا الرائعة
ان انشغاله في القضايا الوطنية قد اضاع عليه فرصة اكمال تعليمه .. ولكنه منذ مطلع شبابه كان قارئا نهما يعشق الكتب ، وقد روى لي انه كان يمضي الساعات الطوال وهو يتعب على تكوين ثقافته ، وفعلا كانت ثقافته واسعة لا يبارى احد فيها .. ولقد كانت الصحافة عشيقته ، اذ كان في بداياته يراسل عدة صحف ومجلات في العراق ومصر ، ونشر عدة مقالات .. ولما وجد عوده قد اكتمل وان صوته ينبغي ان يصل الى كل العالم ، نجح في تأسيس مطبعة الهدف الكائنة في شارع نينوى ، وقبالة شارع غازي ، والتي طبع فيها العديد من الكتب المهمة لمؤلفين معروفين .. واصدر عبد الباسط يونس العديد من الصحف الرصينة التي نشر فيها عدد من الادباء والكتّاب العراقيين والعرب .. وكانت له مقالته الاسبوعية السياسية وافتتاحياته الجريئة التي تلهب العواطف وتتناقلها الايدي ، وهي تنال بسياط لا تعرف المهادنة رئيس الحكومة والوزراء ابان العهد الملكي .. نعم ، لقد اصدر في الخمسينيات والستينيات ( حتى انقلاب تموز 1968 ) عدة صحف محلية في الموصل ، كانت اشهرها : وحي القلم والاساس والمثال والعاصفة والراية والهدف .. كان جاهزا ، فما ان تغلق صحيفته حتى يباشر باصدار اخرى .. كان شعلة متوقدة من الحيوية والنشاط في تاريخ الصحافة المحلية .
وبعد عقدين حافلين من الزمن في العمل الصحفي الجاد والمؤثر .. منع من اصدار اي صحيفة ، فكانت تلك اكثر ما قضّ مضجعه على امتداد اكثر من ثلاثين سنة عاشها وهو ينتظر السماح باصدار الصحف .. ولكن امنيته لم تتحقق ابدا رحمه الله . وهو من المؤسسين لنقابة الصحفيين في العراق في عام 1959،ومن الأعضاء الأوائل فيها وعضو تأسيسي لاتحاد الصحفيين العرب . وكان هو نفسه يمثّل مؤسسة صحفية ، فهو الكاتب والمحرر والمراسل والناشر والمدقق والموزع وجامع الاشتراكات .
عرفت الفقيد منذ زمن بعيد ، وكنت اعرف مكتبه ومطبعته القديمة اذ كان صديقا لوالدي واعمامي وكان يبرّنا اسوة بكل ابناء الموصل الاصلاء .. اذ لم يكن هناك من اديب ومثقف وسياسي موصلي لم يعرفه الاستاذ عبد الباسط معرفة عميقة منذ مطلع الخمسينيات .. كان مجلسه القديم في مطبعة الهدف غرفة واحدة كبيرة بعض الشيئ يقع مكتبه على طرفها الايسر ، وكل شئ تجده قديم فيها .. ومن ابرز روّاد مجلسه القديم: الدكتور عبد الجبار الجومرد ويوسف حاج الياس المحامي والمؤرخ احمد الصوفي ووالدي القاضي كوكب علي الجميل والشاعر ذو النون الشهاب والشاعر عبد المجيد عبيد اغا والمؤرخ سعيد الديوه جي والاديب غانم الدباغ وغيرهم .
لقد حدثّني عن عدد كبير من اصدقائه الاوفياء ومراسلاته معهم ، وكان في مقدمتهم المطرب العراقي الشهير ناظم الغزالي فبينهما الفة ومودة ، ومن اهم المعلومات التي حكاها لي انه قابل الكاتب القومي المعروف ساطع الحصري ، يقول : فوجدته يتحدث العربية بلكنة تركية ! يقول فاستفهمت ، فاذا بالحصري من ماردين قرب ديار بكر ولم يكن من اليمن ولا من الشام !
ذكرياتي عن الرجل
1/ الصبا والشباب
اذكر ان اول مقال نشرته في حياتي كان في جريدة الهدف عام 1966 ، ولم اتجاوز الرابعة عشرة من العمر ، اذ كان الاستاذ عبد الباسط قد نشره على الصفحة الاولى .. ثم توالى نشر بعض خواطري ومقالاتي الصغيرة في جريدته ، واذكر في العام 1967 ، نشرت دراسة نقدية عن مجموعة قصص كانت قد اصدرتها احدى سيدات الموصل ، وكان نقدا لاذعا .. وفي نهاية العام 1968 ، نشرت مقالا مطولا عنوانه ( شهقات ودموع : مأتم في الغسق ) أرثي فيه والدي لمناسبة مرور ستة اشهر على رحيله .. قال لي الاستاذ عبد الباسط عندما التقيته بعد سنوات بأن ذلك المقال ابكاه مرة اخرى .. لم يمر العام 1969 حتى غابت صحيفته الهدف الاسبوعية ، وغابت برفقتها الصحيفة الموصلية الشهيرة الاخرى : فتى العرب التي كانت تسمى بـ فتى العراق في ما سبق والتي كان يصدرها الاستاذ الكبير ابراهيم الجلبي وولديه محمود وسامي .
2/ المنتدى العامر
نعم ، بعد مرور سنوات ، كان الاستاذ عبد الباسط قد انتقل من مكتبه القديم ، ليتخذ من منطقة المياسة بشارع النبي شيت مكتبا له داخل مكتبة كبيرة تعرض امهات الكتب والمجلدات بشتى حقول الاداب والتاريخ للبيع .. اما مكتبه ، فلقد غدا مجلسا يوميا لعدد من المثقفين الموصليين ، فكنت دائم التردد عليه رفقة العديد من الشخصيات اذكر منهم : المحامي غربي الحاج احمد والقاضي زهير كاظم عبود والدكتور عماد الدين خليل والاستاذ عبد الجبار محمد جرجيس والاستاذ بسام الجلبي والدكتور ابراهيم خليل احمد والخطّاط يوسف ذنون والاستاذ قصي آل فرج والضابط المتقاعد عبد الجبار الجبوري وغيرهم من شخصيات اكاديمية ورسمية .. كان الناس تقصد مجلس الاستاذ عبد الباسط لما يتمتّع به الرجل من سجايا حميدة وخصال كريمة ، وحسن اللقيا ، وحلو الحديث ، وجميل الذكريات .. كان مجلسه له متعته التي لا تقدر بأي ثمن .. كّنا نتكلم في كل الاحاديث باستثناء السياسة والسياسة العراقية بالذات .. واذكر ان الفقيد الراحل يتقصد ان يشطح مرات ليدق مسمارا هنا واسفينا هناك . كانت الناس تتقّبل الاستاذ عبد الباسط بكل حلوه وكل جرأته وكل علاقاته فهو وجه اجتماعي بارز وموسوعة من الذكريات الخصبة التي لا تنته ابدا .
3/ صاحب دروس وعبر
لقد عرفت الاستاذ عبد الباسط رجلا اديبا ، متمكنا من عربيته، سلسلا في كتابته ، مدققا في معلوماته ، موسوعة في ذكرياته ، سهلا وممتنعا في اسلوبه ، عارفا باسرار مدينته ، مؤرخا لعدد من الاحداث والشخصيات .. يعشق النكتة وحاضر البديهة شغوفا بالقراءة وذواقا في اكله .. كانت حكاياته مزيج من حدث وتوصيف رائع يجذب سامعه اليه مع تعليق ذكي او نكتة جريئة .. ولا يحرم مستمعيه من دروس تعلمها في حياته ، وكثيرا ما سمعته يتندم على ايام فاتت لم يكن الشباب يعرفون قيمتها ، بل وكان اندفاعهم الوطني سببا في احداث مشاكل لا معنى لها .. كان يروي لنا قصصا ليس من سجل حياته حسب ، بل من سجل تاريخ العراق الحافل وتجارب اهله واحزابه وقادته وعساكره .. كان يرى ان العراقيين اخطأوا كثيرا في حق انفسهم ، وفي حق رجالاتهم .. كان يثني كثيرا على متصرف الموصل القديم المرحوم سعيد قزاز ، ويعتقد انه كان من افضل الاداريين العراقيين علما بأن له تجربة مريرة معه علمته درسا لن ينساه .. وكان ذلك أيضا مع رؤساء حكومات ، امثال : مصطفى العمري وارشد العمري وغيرهما . كان يعبر عن سخطه لعهد صدام حسين بعقد مقارنات بين ماضيه وحاضره ويقفلها بمثل من الامثال او ببيت من الشعر .. وكان يقول : يريد البعض منّي ان ارفع في الصدارة على الحائط صورة القائد الضرورة ، ولكني لن افعلها أبدا .. لا والله !
4/ الكتب المحرّمة
كان ـ رحمه الله ـ يمنحني بمنتهى السرّية الكتب التي تصله سرا من الخارج بطريقته الخاصة ، فاتمتع بقراءتها ثم ارجعها اليه ايام العهد السابق ، ومنها كما اذكر : مذكرات الشاعر محمد مهدي الجواهري وكتاب جمهورية الخوف وكتاب اوكار الهزيمة وغيرها من الكتب المحرم تداولها في العراق عهد ذاك .
كان يحدثّني عن تأليفه كتابه ( تاريخ الصحافة الموصلية ) الذي كان يعدّه على مهل ، وقد أعرته بعض المواد الصحفية الموصلية القديمة .. واعادها لي وقد اعتنى بتصليح بعض اوراقها الممزقة ، فشكرته الشكر الجزيل . انني بهذه المناسبة ، اناشد اهله الكرام الاحتفاظ بمخطوطات اعماله ، وخصوصا كتابه هذا الذي تعب عليه سنوات طوال من اجل ان يرى النور يوما ، ففيه حصيلة تاريخية ثرة ووثائقية وتحليلية عن تاريخ صحافة رائعة في مدينة ام الربيعين ابان ستين سنة من القرن العشرين 1908 – 1968 .
موقّف مشّرف
لا يمكنني ان اتحدث عن ذكرياتي مع الراحل عبد الباسط يونس من دون ان اذكر وقفته المشّرفة معي في احدى السنوات التي كنت فيها استاذا في كلية الاداب بجامعة الموصل . اذكر انني تلقيت في الصباح الباكر تلفونا من والدتي ـ رحمها الله ـ تقول لي وهي باكية : عليك ان تتّصرف بسرعة ، فهناك امر بالقاء القبض عليك وترحيلك الى سجن التسفيرات حيث المجرمين والقتلة ولا ندري ما هي التهمة ؟ .. ما ان رميت سماعة التلفون حتى بتلفون من المرحوم عبد الباسط يونس يقول لي : كن شجاعا كما عهدتك ولا تهّزك مثل هذه الاراجيف التي يريدها بعض السفلة ( ) !! اختفي الان في اي مكان ، وسأذهب الى مدير الامن والمحافظ الذي اصدر الامر وهو اللواء عبد الواحد شنان آل رباط بتهمة باطلة وتافهة لفقها ضدك احد كّتاب التقارير في الجامعة .. قال لي بالحرف الواحد : سأقدم نفسي بدلك الى المسؤولين حتى اسجن مكانك او يتم الغاء الامر ! بالرغم من نزول الخبر علّي كالصاعقة ، الا انني لم انس ما حييت موقف عبد الباسط يونس الاخلاقي .. اذ كنت ادرك ما معنى ترحيلي الى سجن التسفيرات ، وفعلا كان لصديقنا المشترك الاستاذ احمد الحاج يونس دالة علي ايضا ، فاختفيت قرابة اربعة ايام في احدى البساتين البعيدة .. ولم تنفع جهود كل الوسطاء حتى خلصّني الدكتور حميد الصائغ ـ جزاه الله خيرا ـ وكانت له مكانته الحزبية في الدولة ، فتحدث مع المحافظ وهو في سيارته ـ كما قال لي المرحوم عبد الباسط ـ ، فأمر بالغاء الامر ، فاحتفى بي المرحوم عبد الباسط يونس احتفاء كبيرا .. ان موقفه لا اعتبره شخصيا بقدر ما هو موقف انساني يفعله ازاء كل من يناشده من الابرياء .
واخيرا : انه ظاهرة موصلية نادرة
يقول الاخ الاستاذ مثري العاني في مقال له عن فقيدنا : ” اما في حياته العامة فقد كان معطاءاً كريماً ساعياً نحو التزام اصدقائه والعمل على توسيع علاقاته معهم وتوطيدها وكان يسعى بكل جهده وبطيب خاطر وأريحية على توفير الكتب والمجلات والجرائد وتوصيلها اليهم ويجد في ذلك متعة لا يقل منها وقد حظي باحترام الجميع وتقديرهم واعتزازهم بمواقفه المشرفة معهم ” .
واعيد القول : نعم ، كان الاستاذ عبد الباسط ، استاذا حقيقيا ، له فكره المتنّور ، ومرونته في التفكير ، يمتلك روحا لا تبارى للمساعدة ، اذ كان يقصده طلبة الدراسات العليا من كل انحاء العراق ليستفيدوا من مكتبته ووثائقه .. كان دينامو المجتمع كما كنت اسميه ، اذ يقصده الناس من كل حدب وصوب من اجل التوسّط لحل مشكلاتهم ، وهو ان وعد اخلص ، ولم يخلف وعده لأحد اذ يتابع اي موضوع يلتزمه .. واذا خابت مساعيه يتألم جدا . رحم الله عبد الباسط يونس ، ولنا ان نقف جميعا احتراما لذكراه الطيبة ، فلقد كان لوحده ظاهرة موصلية لن تتكرر وستبقى ذكراه خالدة مع توالي الايام والسنين .
www.sayyaraljamil.com
فصلة من كتاب سيّار الجميل ، زعماء ومثقفون : ذاكرة مؤرخ
الف ياء ، 28 يناير 2008
شاهد أيضاً
نزهة عند ضفاف التايمس بصحبة نيازي وسميرة !
اضغط لتشاهد الصورة بحجم كبير في غاليري الكوفة كنت في آخر زيارة لي الى لندن …