مقدمة
دعوني استهل مقالتي هذه بما قاله الفيلسوف ابن خلدون والذي كتب في مقدمته الشهيرة قائلا : ” العرب متنافسون في الرياسة ، وقل ان يسلّم أحد منهم الامر لغيره ولوكان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته ، الا في الاقل وعلى كدر من اجل الحياء ، فيتعدد الحكام منهم والامراء ، وتختلف الايدي على الرعية ، فيفسد العمران وينقص .. ” ! وكلام الرجل واضح تمام الوضوح ولا يحتاج الى تفسير او تحليل لكل الاذكياء ، ويقصد بـ ” العمران ” المجتمع .. لقد كتب هذا ” النص ” قبل اكثر من ستة قرون ، وصاحبه مؤرخ عربي من اصل حضرمي عاش في تونس واختلف الى بلاد المغرب والاندلس ، وقد خبر الماضي وهو اشهر من ان يعّرف .. ولنا ان نتأمل في النص طويلا ونحن نسترجع ذاكرتنا المعاصرة .. فاذا كّنا نسمع بالديمقراطية مذ ولدنا وترعرعنا في القرن العشرين ، فابن خلدون لم يسمع بها ابدا ، ولكنه استدل عليها في دراسته للدول وعلاقة الحاكم بالمحكوم ، اي الراعي بالرعية .. ومن يستزيد من مقدمته سيجده في مقدمة المفكرين على هذه الارض ممن انتقد ادوات الحكم وتحدث عن حاجة المجتمعات الى جملة من القواعد التي تنظّم بها حياتها وطبيعة علاقاتها مع انظمة الحكم اولا وعلاقات المجتمع ثانيا ، وانظمة الحياة ثالثا ..
ظاهرة كبرى من اجل التقدم
حاولت ان اكتب هذا ” الاستهلال ” لموضوع كّنا ولم نزل تلوكه السنتنا ، وتستنسخه شعاراتنا ، وتستعرض من خلال مانشيتاته احزابنا ، ويكثر ترديده في خطابنا واعلامياتنا .. بل كان ولم يزل مستلب من قبل هذا الطرف او ذاك من دون التوغل في مفهوم الديمقراطية مذ بدأ يفكر فيها الفلاسفة القدماء كتعبير اخلاقي ، ومرورا بالبحث عن مضامين الشرائع ، ومعاني العدالة ، وروح القوانين وصولا الى المشاركة الاجتماعية في الحكم والنضال من اجل الحرية .. فالديمقراطية ليست لعبة سياسية ، بل انها اسلوب حياة وتفكير واصول معاملة وممارسة اخلاق ، انها ليست شريعة سماوية ولا تتضمنها أية نصوص دينية كما انها ليست قوالب ايديولوجية وشعارات براقّة .. انها ظاهرة تاريخية كبرى اوجدها الانسان على الارض ، بكل ما تحفل به من ركائز مدنية دنيوية لا علاقة لها ابدا بأي دين من الاديان ولا يمكن اعتبارها طقوسا دينية سماوية بأي شكل من الاشكال ..، وهي تمنح الحق لكل البشر بمختلف معتقداتهم ممارستها كحق مكتسب للانسان على هذه الارض . وعليه ، فلقد تفوقت على تعريفها التقليدي : حكم الشعب نفسه بنفسه ، بعد توسّع تجاربها وامتداد تطبيقاتها للعديد من مرافق الحياة العامة .
لما غدت الحياة في مجتمعاتنا تمتد من سيئ الى أسوأ ، فان ” الديمقراطية ” غدت لدى النخب الدنيوية ( لا الدينية ) ضرورة حياة او موت .. وهي بالفعل ضرورة أساسية لا يمكن ان تتقدم الحياة من دون ترسيخ هذه ” الظاهرة ” ، وجعلها واحدة من المبادئ الخلاقة التي ترتقي بالانسان الى مصاف التقدم .. ومن خلالها تسود ظواهر ايجابية اخرى في المجتمع . ولكن السؤال الذي يقض مضجع الكثيرين ممن توخزهم ضمائرهم الحية يقول : هل يمكننا ان نحضر اي نوع او تصنيف من الديمقراطية ومجتمعاتنا غير مؤهلة اصلا ليس لممارستها ، بل حتى تقبلها .. ؟؟ اي بمعنى : هل بامكاننا ان نحضر الحصان بكل جموحه من دون تحضير العربة ؟ وهل يا ترى باستطاعة مجتمعاتنا اختزال الزمن الذي مرت به المجتمعات الاخرى في العالم وهي تتمرس على مختلف الاليات وتدرك كل المفاهيم ؟ واخيرا : اذا كانت المجتمعات الاخرى في العالم قد مّرت على امتداد ثلاثة قرون بتطورات فكرية وفلسفية واقتصادية وتحولات اجتماعية ساعدتها في تطوير الظاهرة .. فما الذي يعيش في ضمائر مجتمعاتنا ؟ وما الذي تقتات عليه مجتمعاتنا ليل نهار من الافكار والترسبات ؟
مفهوم الديمقراطية وتعريفها
يشتق لفظ “الديمقراطية ” نفسه من الاغريقية القديمة ، والكلمة تتألف من مقطعين اثنين : DEMOS وتعني عامة الناس و KRATIA وتعني حكم ، فتصبح DEMOCRATIA أي حكم عامة الناس ( حكم الشعب ) . والديمقراطية اصطلاحاً ومفهوما يمكن استخدامهما بمعنى واسع وكبير جدا لوصف مجتمع حر ، او مجتمعات حرة .. وانسان حر ومواطن حر .. وهو كشكل من أشكال الحكم يختزل معناه بـ حكم الشعب لنفسه بصورة جماعية ديمقراطية ، وعادة ما يؤسس الحكم الديمقراطي من خلال حكم الأغلبية وعن طريق نظام التصويت والتمثيل النيابي . وتضمن الديمقراطية مجتمعا حرا ، ولكن اي عضو فيه مقيد بالقانون .. وتضمن الديمقراطية حياة الانسان وكرامته وسبل عيشه ، وحق الملكية الخاصة وما يقره الدستور من حريات ومسؤوليات فردية .. فضلا عن توزيع السلطات وضمان الحقوق والواجبات من اعلى رأس في البلاد الى اصغر الناس .. اما الدولة ، فلابد من فرض السيادة على البلاد عندما تكون حرة تمتلك سيادتها على ترابها . اما سلطاتها ، فينبغي ان تكون منفصلة واحدتها عن الاخرى بلا اي تداخل او تدخل .
الديمقراطية وتشكيل الارادة الجمعية
ان مفهوم الديمقراطية ـ باختصار ـ هو اسلوب عمل منظم للانسان في خياراته ومواقفه وحرياته واخلاقياته في تشكيل الارادة الجمعية .. وينبغي على الجميع احترام ( الديمقراطية ) بعد ايلائها الثقة والعمل بها .. انها ـ كما يبدو من تجاربها العربية الفاشلة ـ ليست حكرا على الليبراليين وحدهم ، بل بالامكان ان يمارسها البعض من الراديكاليبن والانقلابيين والقوميبن والاصوليين .. علما بأن الديمقراطية الحقيقية لا يمكن ان يمارسها الا الليبراليون الذين يقبلون الاخر وكانت لهم تربوياتهم في الانفتاح وقبول الاخر ، ولكن اي قوى مؤدلجة واحادية لا يمكنها ان تقبل ابدا مع الديمقراطيين ! ولقد اثبتت الاحداث ان ” الديمقراطية ” غدت اداة للمغانم الفردية والقوى الفئوية ! نعم ، لقد اصبحت شعارات الديمقراطية نهبا للقوى التي لا تؤمن بمضامينها ابدا ! لقد غدت بضاعة للسلطات من اجل تخدير الشعوب ، او استيلاد مصير المجتمعات ، وعبث المتمردين باسم حريات الناس ! لقد اصبحت الديمقراطية اداة غير نافعة تتناقلها الايادي من دون علم بها ولا فهم لها ! فضلا عن اتخاذها وسيلة للسعي نحو هويات طائفية ودينية وعرقية وحزبية وقبلية بعيدا عن الهوية العراقية الوطنية .
ماهية الديمقراطية السياسية :
والديمقراطية اصطلاحاً ومفهوما يمكن استخدامهما بمعنى واسع وكبير جدا لوصف مجتمع حر ، او مجتمعات حرة .. وانسان حر ومواطن حر .. وهو كشكل من أشكال الحكم يختزل معناه بـ حكم الشعب لنفسه بصورة جماعية ديمقراطية ، وعادة ما يؤسس الحكم الديمقراطي من خلال حكم الأغلبية وعن طريق نظام التصويت والتمثيل النيابي . وتضمن الديمقراطية مجتمعا حرا ، ولكن اي عضو فيه مقيد بالقانون .. وتضمن الديمقراطية حياة الانسان وكرامته وسبل عيشه ، وحق الملكية الخاصة وما يقره الدستور من حريات ومسؤوليات فردية .. فضلا عن توزيع السلطات وضمان الحقوق والواجبات من اعلى رأس في البلاد الى اصغر الناس .. اما الدولة ، فلابد من فرض السيادة على البلاد عندما تكون حرة تمتلك ارادتها على ترابها . اما سلطاتها ، فينبغي ان تكون منفصلة واحدتها عن الاخرى بلا اي تداخل او تدخل .
ديمقراطيتان : مباشرة ونيابية
يتبع في الانظمة الديمقراطية كل من الاسلوبين التاليين :
اولاهما الديمقراطية المباشرة: ( او كما تسمى عادة بالديمقراطية النقية ) وهي نظام تصويت الشعب على قرارات الحكومة مثل المصادقة على القوانين أو رفضها .. وقد تسمى بالمباشرة لأن الناس يمارسونها بشكل مباشر ، اي اشراكهم فعليا في سلطة صنع القرار من دون وسطاء أو نواب ينوبون عنهم ، وهي لا تنفع اليوم بفعل التطور الديمغرافي للعالم . .
وثانيهما الديمقراطية النيابية بالتمثيل غير المباشر : وهي نظام سياسي يصوت فيه أفراد الشعب على اختيار أعضاء الحكومة الذين بدورهم يتخذون القرارات التي تتفق ومصالح الناخبين ، وتسمى بالنيابية لأن الشعب لا يصوت على قرارات الحكومة بل ينتخب نواباً يقررون بالنيابة عنهم ذلك.
وتشيع أربعة تصورات حول الديمقراطية ، اذ تسود اليوم لدى العديد من المفكرين حول ظاهرة الديمقراطية ، فثمة ديمقراطية تحد من سلطة الأحزاب . ووفق هذا النظام يمنح المواطنين كل قادتهم السياسيين الحق في ممارسة الحكم وتشريع القوانين وابداع السياسات وممارسة السلطة عبر انتخابات دورية، فالمواطنين وفق هذا التصور لا يجب أن يحكموا لأنهم في معظم القضايا لا يملكون حولها فكرة واضحة .اما المفهوم التجزيئي للديمقراطية: وتكون الحكومة على شكل نظام يشّرع قوانين وينتج سياسات قريبة من آراء الناخب الوسطي .اما الديمقراطية الاستشارية فتقوم على أسباب تكون مقبولة من كافة المواطنين ..اما الديمقراطية التشاركية: فتستوجب من المواطنين المشاركة المباشرة من دون الاعتماد على النواب في وضع القوانين والسياسات.
ثلاثة انماط من الديمقراطية :
لقد علمنا التاريخ العالمي المعاصر بأن للديمقراطية نمط ليبرالي وآخر اشتراكي .
1/ الديمقراطية الليبرالية : يهتم نظامها بشكل الدولة ومؤسساتها وهو شكل نيابي ودستوري وله تقاليده في التدرج من الاصلاحي الى التطوري وحيث السلطة السياسية للحكومة مقيدة بدستور يحدد بدوره حقوق وحريات الأفراد والأقليات (وتسمى كذلك الليبرالية الدستورية). ولهذا يضع الدستور قيوداً على ممارسة إرادة الأغلبية.
أما الديمقراطية غير الليبرالية فهي التي لا يتم فيها احترام هذه الحقوق والحريات الفردية. ويجب أن نلاحظ بأن بعض الديمقراطيات الليبرالية ـ لاسباب براغماتية ـ لديها عدة صلاحيات وحلول لأوقات الطوارئ والازمات في ان تحّل نفسها وتبدأ من جديد .. وهكذا ، فهي تجعل هذه الأنظمة الليبرالية أقل ليبراليةً مؤقتاً إذا ما طُبقت تلك الصلاحيات(سواء كان من قبل الحكومة أو البرلمان أو عبر الاستفتاء).
2/ الديمقراطية الاشتراكية : وهي مشتقة من الأفكار الاشتراكية التي لم تزل تمارس ادوارها ، ومن الايديولوجية الشيوعية في إطار تقدمي وثوري وتغييري قبل ان يؤمن بأية تقاليد حتى وان كانت دستورية ! ولقد تبّنت العديد من الأحزاب الثورية الديمقراطية الاشتراكية في العالم – لأسباب أيديولوجية – وتبنت التغيير الثوري من خلال المؤسسات الرسمية او شبه الرسمية الموجودة ضمن سياسة العمل على تحقيق القفزات ضمن التغيير الثوري المفاجئ ، ثم هدأت بعضها لتأخذ اسلوب التدرج . وعلى العموم فإن السمات المميزة للديمقراطية الاشتراكية هي : تنظيم الأسواق والضمان الاجتماعي والمدارس الحكومية و خدمات صحية ممولة أو مملوكة من قبل الحكومة مع نظام ضريبي تقدمي. وعلاوة على ذلك فبسبب الانجذاب الايديولوجي تصاعد العمل بهذا النمط ، ولكن ما ان سقطت المنظومة الاشتراكية ، حتى عاد الناس الى الليبرالية .
3/ الديمقراطية المركزية : وهي نمط اخترعته انظمة الحزب الواحد ، اذ ان احاديتها في الحكم ، فرضت عليها المتاجرة باسم الديمقراطية لتسوق طغيانها واحاديتها واستبدادها باسم الديمقراطية المركزية ، اي ان يمارس اي عضو في ذلك الحزب دوره الديمقراطي المحدد ضمن خليته التي يشاركها في التنظيم ، ولا يحق له ان يتكلم ابدا او ان يعلن عن رأيه على الملأ من دون اي مركزية ! وفي الحقيقة ، ليس هناك اي ديمقراطية ما دام الرأ يالسياسي مقيّد بسلاسل اي حزب احادي او اي طبقة احادية .
واخيرا : ما الذي يعلمنا هذا الدرس اياه ؟
ان الديمقراطية ضرورة تاريخية ليس لمجتمعاتنا حسب ، بل لكل المجتمعات في الشرق الاوسط ، وعلينا ان نتدارس تجاربها ونقارن بينها وخصوصا وان تجربتها المضنية في العراق قد اخفقت نظير الاعتماد على المحاصصات والتخندقات والاستلابات الوطنية .. ان الديمقراطية بحاجة الى ان تفسّر ماهيتها لكل الناس ، وان يدرك الانسان قيمتها .. بل ان لا تكون اداة طيعة لاستغلال النفوذ او المكانة او المال ! ان الديمقراطية اليوم ، وخصوصا في تجاربها الحديثة في العالم ، وخصوصا في بريطانيا وكندا واستراليا ونيوزيلاند وفرنسا والمانيا وسويسرا .. الخ نماذج من تطبيق اجتماعي وسياسي في آن واحد . وهذا ما تحتاجه منظومتنا العربية .. ان العرب يفهمون الديمقراطية كونها صندوق انتخابي وترديد شعارات وعبثية شوارع .. انهم لا يعرفون من الديمقراطية الا بعض شكلياتها .. في حين يغيب جوهرها تماما . مطلوب من دولنا ومؤسساتها واجهزتها تأسيس وعي عميق بالديمقراطية والبدء بتحديث المناهج التربوية والتعليمية .. والرقي بالاعلام الرسمي والاهلي .. ان مجتمعاتنا بحاجة ماسة الى التأهيل على الحريات وعلى الديمقراطية فكرا وتطبيقا . فهل سيحدث ذلك ؟ نعم ، انه سيحدث ، ولكن بعد زمن طويل !
www.sayyaraljamil.com
الوسط ، 28 يناير 2008
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …