الرئيسية / مقالات / متغيرات القوة في الشرق الاوسط

متغيرات القوة في الشرق الاوسط

لا تتأثر القوى الكبرى بخسائرها ، اذ انها تستوعبها من اجل الابقاء على استراتيجياتها ، ولها النفس الطويل والقدرة على تعويض كل المفقودات باكثر الخطط تكتيكا بطيئا ، ولكنها بالضرورة ستعالج كل الضرورات. وكلما يتقدم الزمن نحو الامام تزداد قدرة القوى الكبرى على ممارسة اقسى الاختراقات الاجتماعية لفرض هيمنتها . ان سقوط القوى الكبرى في التاريخ لم يأت من خلال تجارب احادية لنظام هذا الطرف او ذاك .. هذا الحزب او ذاك .. هذا الزعيم ام ذاك ، بل لأنها فقدت قوتها ، ولم تعد خططها قابلة للحياة ، بل ولم تعد امكاناتها تصل الى صناعة استراتيجيات معينة . لقد كان سقوط الاتحاد السوفييتي ، وهو في حالة سلم مثلا حيا وقريبا على اخفاق قوة كبرى في ادارة متغيراتها الصعبة في العالم ، انه لم يهزم نوويا او نالته الضربة القاضية كما سقطت قوة صغرى كالعراق في ساحة الحرب ، بل لأنه مصارع كبير ، فقد آثر ان ينسحب ويتفكك من دون ان يشعل حربا نووية شاملة .
ان القوى الكبرى ربما تلحق بها هزائم وضربات قاسية ، لكنها قادرة على ان تمتصها من اجل ان تبقى ساعية من اجل مصالحها والمخطط له لسنوات قادمة .. لقد نجحت اميركا باستيعاب هزيمتها في فيتنام ( مع 50 الف قتيل ) من اجل هدف أكبر لها في الصراع ابان الحرب الباردة ، فكان سقوط الاتحاد السوفييتي بالنسبة لها من اكبر الانتصارات .. وكان السباق التكنولوجي والاقتصادي بينها وبين اليابان قد صعد منذ عشرين سنة ، فاستوعبته لصالح السيطرة على اكبر الموارد الطبيعية .. وكيسنجر دوما يردد قولته: ان اميركا تربح حروبها بفضل الموارد التي لا تنضب ، وليس بفضل الاستراتيجيات المتقدمة . فما دام هناك هدف فلا تهم الانفاقات ولا الخسائر ، فهناك من يسد العجز ، ولكن في الآجل وليس في العاجل ، فتعمل بالمدى الطويل لا القصير .. ان اميركا لها القدرة بتحمل تكاليف الحرب على الارهاب لتنفق ما يقارب التريليون من الدولارات ، مقابل مئة مليار دولار خسرتها في كارثة 11 سبتمبر ، ولمّا تزل مندفعة باتجاه القضاء على الارهاب ، وهذا ما لم تمر به اي دولة او قوة كبرى في التاريخ ..
ان اميركا قد خسرت الحرب في العراق على المدى القصير العاجل ، ولكنها تعتقد انها منتصرة لما سيحصل على المدى الطويل الآجل . ان كل ما طبقته في العراق سيئا ورديئا ، وهو بالتأكيد يدلنا دلالات عميقة على ان استراتيجيتها في العراق والمنطقة ليست آنية ، بل انها تكون محبطة وفاشلة ومتعثرة .. ولكن الرهانات تقدر كسبها في نهاية المطاف . وهي بين هذا وذاك تشعر بأن اي شارع سياسي في هذا العالنم معها .. وان ثمة شوارع كانت تعرف الهياج وثمة قوى مضادة كانت تعارض وتنادي .. ولكنها اليوم باتت صامتة صمت ابي الهول !
السؤال : هل يمكن بعد اليوم ان يطمئن الوعي السياسي العربي الى مشروعات مثل الشرق الاوسط الجديد او الكبير ؟ هل يطمئن للصيغة المشوهة من الديمقراطية التي تنادي اميركا بها .. ؟؟ لماذا تعترف القوة الكبرى باخطائها ، من دون اي حلول جذرية لها ؟ لماذا كل هذه الخسائر وهي مصّرة على اكمال الصراع لبلوغ اهدافها ـ كما يقول الرئيس بوش ـ ؟ الم تجد الولايات المتحدة ان ثرواتها تتبدد ؟ الم تشعر بأن القوة لها حدود في حماية الثروة ؟ الا تجد الصين مثلا ساعية ليل نهار من اجل تأمين الثروة كي تغدو نّدا مستقبليا لها ؟ انها لا تخشى من ان يكون الشرق الاوسط اسلاميا او غير ذلك ، بقدر ما يهمها سيرورة مصالحها حاليا ومستقبليا .. ان اي قوة في العالم لا يهمها ان كان العراق مستنقعا آسنا او حديقة غنّاء ما دام تأثيرها موجود وفعّال لسنوات قادمة خصوصا اذا كان مصدرا اساسيا للطاقة يحتاجه كل العالم .. وهل ستكون أي منطقة في العالم آمنة ومستقرة في ظل متغيرات الهيمنة حتى تصبح في يوم من الايام جنة من الجنان ؟
ان خوفنا نحن ابناء هذه المنطقة ينبغي ان يرّكز في اتقاء متغيرات القوة وضربات التفكيك .. ان هواجسنا ينبغي ان تعمل من اجل ممانعة اي تجربة مماثلة كتلك التي يعيشها العراق. ولعل من اسوأ ما تعانيه شعوب المنطقة اجمعها ، حالة الصمت المطبق على كل شارع وزقاق مقارنة بما كان عليه الوضع ايام ثنائية الاستقطاب قبل اربعين سنة . انني لست مع حالة الصمت واليأس المطبق على مجتمعاتنا ، بل لا نقبل ان نكون كما كنا في الماضي ، نلوك الشعارات ونذبح حناجرنا ونردد هتافاتنا .. ولكن من طرف آخر ، هل يمكننا السكوت على ما يجري من العراق ؟ هل يمكننا التزام الصمت عما يجري في غزة ؟ هل يمكننا ان نبقى عاجزين عما يجري في لبنان ؟ هل لم تعد تهمنا الا التفاهات بحيث لا ندري ما يجري في الجزائر ؟ هل من صالح مجتمعاتنا قاطبة ان تغرق في اليأس والقنوط ، او ان تختار العزلة والصمت ؟ هل من الجائز ان نتقّبل كل ما تفرضه متغيرات القوة الاعظم بلا مساءلة او استفهام ؟ هل نقبل بأية مشروعات دولية او اقليمية من دون اية معارضة ولا اي مدركات بالمخاطر والسلبيات ؟ هل تنحصر المشكلة بمنطق الحلول العسكرية والميليشيات ، ام يمكن حّلها سياسيا ؟ هل نتقّبل عن غباء تحالفات تقيمها القوة الاعظم او تشهد انقسامات في مجتمعات مؤهلة للتفكك والتشظّي ؟ هل نتقّبل اثارة النعرات والحساسيات الطائفية والجهوية والعشائرية والعصبيات ؟ كلها اسئلة ينبغي التفكير فيها ونحن امام زمن قادم مشحون بالمتغيرات الصعبة !
البيان الاماراتية ، 30 يناير 2008
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا

 الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …