الثورات العربيّة التي اجتاحت حياتنا منذ سنتين بالضبط، ولم تزل فاعليتها على أشدّها، هي حقيقة تاريخيّة لا يمكن أن ينكرها أحد إلا من تهدّد مصالحه، أو تصطدم بشعاراته التي تربّى عليها، أو من لم يستوعب الظاهرة لقصر رؤيته، أو ضيق أفقه، أو خوفه من الإسلاميين.. فتراه يتّهم الثورات بتهم شتّى، وكأنه يتهّم أفراداً معينين، من دون وعي بعظمة الأحداث التاريخية المتشكّلة على الأرض لجماهير هادرة سلمياً بتظاهراتهم وسقف مطالبهم.إن العرب اليوم يمرّون بتحوّلات تاريخيّة خطيرة، لا تقارن بأحداث ساذجة، ولا بانقلابات عسكرية، ولا بسلسلة مؤامرات أميركيّة كما يتهّمها البعض، علماً بأن الثورات قد طالبت بالتحوّلات الديمقراطيّة بعد إسقاط الأنظمة الفاسدة.
إن الثورات العربية قد أكدّت لحمة المجتمعات العربية بانتقال حالة الثورة من بلد إلى آخر، فضلا عن توّحد المشاعر والوجدان في عموم الأرض العربيّة.. إن من يقف ضد الثورات العربيّة إما غير مستوعب لحركة التاريخ البطيئة وعمق قوتها الشديدة، أو لكونه ينجذب عاطفيّا لمن يقف ضدّها من الكيانات الطائفيّة والهامشية، من دون أن يعرف أن مجتمعاتنا العربية اليوم تعيش مخاضاً صعباً مع تفاعل تيار ثوري يجتاح حياتنا كلها، فالثورات العربية اليوم تعبير شعبي حقيقي ضد الاستبداد والظلم والجوع والقمع والفساد.. والكل يدرك أن الثورات الجماهيرية على امتداد التاريخ لا تشعلها مؤامرة دوليّة أو إقليمية، ولم تصنعها دائرة مخابرات أو ينفذها مخطّط جهاز خارجي.. فمتى تفتح الناس عقولها من أجل فهم الأحداث التاريخيّة وكيفيّة صناعة الشعوب التاريخ؟
لقد جنت أفكار وشعارات القرن العشرين على أجيالنا كاملة، فلم يزل هناك من هو متشبع بها، ولم يزل هناك من هو متشبّث بما قاله هذا الدكتاتور أو ذاك المستبد أو الطاغية..إن الثورات العربية قد انطلقت من تونس وامتدت بسرعة في النسيج العربي، حتى وصلت إلى سوريا بعد مصر وليبيا واليمن وغيرها من المجتمعات، وهي تثبت أن مجتمعاتنا لم تزل ترتبط بعضها ببعض في نسيج ثقافي وفكري، وأن التعبير عن الرفض أتى بأشكال وصور متنوعّة، كما عبّر كل مجتمع عن ثورته بالطريقة التي أرادها..المشكلة التي يعيشها التفكير العربي اليوم، هي أنه يتخيّل أن الثورات هي مجرد متغيّرات سريعة يريدون جني ثمارها في يوم وليلة، من دون أن يدركوا أن الثورات الحقيقيّة دامت سنوات طوالاً حتى استقرّت وانطلقت لتحقيق أهدافها، المتمثلة أساسا بالديمقراطيّة وتحقيق العدالة والكرامة والتقدم..
ربما تنتكس الثورات وربما تسرق ثمار الثورات، ولكن مراحل الثورات لا تقتصر على حالة واحدة، فهي سلسلة أحداث يتفوق فيها عادة من يؤمن بالتغيير الحقيقي والتاريخي، مهما كانت طبيعة ذلك التغيير، سياسّياً أم اقتصاديّاً أم ثقافياً..إننا نؤمن بالثورات العربية لأنها تعبير عن نهاية مرحلة تاريخية صعبة، حكم فيها المستبدون أوطاننا لستين سنة مضت، وأذلوا فيها مجتمعاتنا، وبددوا خلالها مواردنا وثرواتنا، بل وكذبوا على شعوبنا كذبات كبرى وساهموا في قمع إرادة الناس، وعملوا على تخريب الضمائر وتدمير الثقافة، بحيث زرعوا كل الزيف وقتلوا روح الأوطان..
علينا أن نؤمن بأن الاستبداد ذهب من دون رجعة، فالحياة اليوم وكما ينبغي أن تكون لدى الجيل الجديد، متسّقة مع طبيعة ما حصل في العالم، وأن العرب لا بدّ أن يشاركوا هذا العالم في كل الميادين، بعيدا عن مومياوات القرن العشرين وبعيدا عن كل ماضويات التاريخ.. وإذا تخوّف البعض من الإسلاميين ووصولهم إلى الحكم عقب انفجار الثورات، فأقول إنهم لم يأتوا من خلال انقلابات عسكريّة، بل جاءوا بواسطة انتخابات، وإنهم إما سيتعلمون كيف يحكمون ويجددون أنفسهم سياسياً وفكرياً، من خلال الديمقراطية ومشروعات التقدّم والحرية والمدنية والاندماج مع روح العصر ، أو إنهم سيسقطون كما سقط غيرهم، ذلك أن الزمن سينتج جيلا يتطلّع إلى المستقبل بديلا عن الماضي ، وان علاج واقعنا اليوم لا يأتي من الماضي ابدا ، بل يأتي من حياة هذا العصر الحديث .
لعل أقسى ثورة عربيّة اليوم هي الثورة السوريّة، التي لم تزل تتوهّج في قلوب الناس الأوفياء الذين أثبتوا لكل العالم عظمتهم وإصرارهم على تحقيق الديمقراطيّة والعدالة مهما كانت الأثمان، وأن النظام السوري بمعاملته شعبه بالطريقة المتوحّشة التي اتبعها ، قد أفقد شرعيته وحقه في الحياة والتاريخ. ولقد ثبت للعالم أن الاحتدام الطائفي اليوم قد أفرغ الناس من أية مبادئ سياسيّة شريفة، وكشفت الثورات العربيّة عن طبائع سيكولوجية غريبة كانت مختفية وهي تعمل في الخفاء، ضد القيم العربيّة التي حملها البعض زيفا وبهتانا في القرن العشرين، فهم من الأعداء اللدودين لمجتمعاتهم ولكلّ الناس فيها .. انهم يقفون ضدّ الثورات العربيّة كونهم يستمدّون مواقفهم من عدائهم لأي مشروع عربي نهضوي في التقدّم ، يقف حيال مشروعهم في الانقسام والتجزئة واثارة الفتن والصراعات !
إن الثورات العربيّة قد قربّت المسافات السياسيّة بين أوطاننا وأهالينا، وأزالت نهائيا حالة الإحباط واليأس التي عاشها العرب قبل الثورات، كما أخرجت الناس من رداء الخوف والهيام الإيديولوجي وعبادة الفرد، الذي لبسوه لأكثر من ستيّن سنة.. لقد صنع العرب إرادتهم لأوّل مرة في مرورهم بمخاض تحوّلات تاريخيّة صعبة توقعّنا حدوثها منذ العام 2002. لقد نشرت مقالا في “البيان” الزاهرة يوم 2 سبتمبر 2009 ، أي قبل اندلاع الثورات بقرابة سنة ، قلت فيه: “..
” حياة تسلطية من قبل الدولة والمجتمع متمثلة باحتكار السلطة والثروة والحكمة وصنع القرار، وبالتالي نفي المشاركة وإرادة الشعب واختياراته، وترجيح أهل الثقة على أهل الخبرة وتفضيل المؤيدين والمنافقين والمصفقين على المفكرين والمستقلين بالرأي والموقف، ومن ثم فإن تطبيق هذه المبادئ في مجتمعاتنا، يحتاج إلى ثورات سياسية وفكرية وتربوية ونهضة ثقافية حقيقية، تغير العقول الحاكمة والمحكومة، وتنبع من قلب حركة المجتمع، ومن مراجعة الذات ونقدها، وإعادة النظر في مفاهيمها وطموحاتها في ضوء التحديات التي تواجهها عند مفتتح زمن جديد” (انتهى النص).
وهذا الذي تحقق بعد الانفجار قبل سنتين بالضبط.. وسنبقى ننتظر ما ستفرزه التحولات التاريخية، ممثلة بالثورات العربية.
نشرت في البيان الاماراتية ، 25 ديسمبر / كانون الاول 2012 ،
http://www.albayan.ae/opinions/articles/2012-12-25-1.1790885
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
وعلى صفحة د. سيار الجميل على الفيسبوك
شاهد أيضاً
القصبة بعيدا عن القرصنة !
عدت من تونس مؤخراً بعد سفرة علمية، فوجدتها مبتهجة جداً بمرور سنة على اندلاع ثورتها …