” اريد ان اجعل من وطني العراق جنائن معلقة يراها كل العالم ! ”
فيصل الثاني – رحمه الله –
التقيت بها في يوم دافىء من ايام 1979 وكانت قد بلغت من الكبر عتيا .. لم يزل في نظراتها ثمة اختراق للابصار .. ولم تزل ذاكرتها حية متوقدة وكأنها تعيش الحدث لتوه وتتذكر كل الناس الذي عاشت بينهم منذ قبيل الحرب العالمية الثانية .. لم اكن اسعى للتعرف بها ، فلم اكن اعرفها او قد سمعت بها ، بل قادتني الصدفة العادية اليها ، اذ كنت قد تعرّفت في واحد من اندية ادنبرة العاصمة الاسكتلندية الجميلة على كل من المسز ساره كلنت وزوجها دوكلاص كلنت وكلاهما قد عاشا في العراق لاكثر من عشر سنوات وفي مدينة البصرة بالذات ، اذ كان دوغلاص يعمل مديرا لشركة نفط البصرة وكانت له علاقاته الواسعة بالمجتمع البغدادي وببعض الاسر والعوائل ، بل وكانت عقيلته السيدة كلنت قد وثّقت علاقتها بالقصر الملكي كما اطلعتني في مرات عدة على رسائل وصور فوتوغرافية نادرة لها مع الملك فيصل الثاني في الخمسينيات من القرن العشرين ، واهدتني بعض تلك الصور التي لم ازل محتفظا بها .. اتصّلت في يوم من الايام المسز كلنت بي وقالت : ما رأيك تزورنا عصر يوم السبت .. فوافقت على دعوتها وشكرتها .. وكان بيتها بعيدا في الارياف الاسكتلندية الجميلة .. عند ذلك المساء المخملي الجميل وعلى ربوة خضراء يمر فيها طريق ريفي قديم وعند سفح يجري جدول ماء رقراق ينحدر من جبال قريبة وامامي من بعيد كثافة اشجار غابات خضراء داكنة ، اوقفت سيارتي الفولكس واكن البيتلز البيضاء وطرقت الباب ، فاذا بالمستر كلنت يستقبلني ويدخلني لأجد في بيتهم لفيف من اصدقائهم وكلهم بنفس اعمارهم التي كانت قد تجاوزت السبعين والثمانين .. وكنت لوحدي لم اصل بعد الثلاثين من العمر . تعّرفت بالموجودين بعد ان قدمّوني اليهم واحدا واحدا .. ولاحظت عجوزا تجلس من دون حراك على كرسي متحرك .. قالوا وانا اتقّدم لمصافحتها انها المس روزاليندا راميريس مربية صاحب الجلالة الراحل فيصل الثاني ، وكانت مفاجأة بالنسبة لي أعدّتها لي صديقتها المسز كلنت فسررت بهذه المصادفة العجيبة التي قد لا تتوفر لغيري وانا احد طلبة علم التاريخ العراقيين .. فاتخذت مكانا الى جانب المس روزاليندا لاتبادل الحديث معها ، ووجدت انها كانت متلهفة ايضا للحديث معي عن العراق الذي عاشت فيه ردحا من الزمن . لم التق بها الا مرتين حدثتني فيهما عن فيصل الثاني وعن خاله الامير عبد الاله – رحمهما الله – وعن العراق الملكي ابان الاربعينيات .
روزاليند .. من هي ؟
حدثتّني المس روزاليند عن حياتها باختزال وكنت اسرع لاكتب ما تقول ، فلقد ولدت روزاليند راميريس في العام 1912، وافتقدت عطف الاب عند افتراق ابويها عن بعضهما ، وتزوجت امها ثانية من مواطن من تشيلي. وامضت روزاليند جزءا من طفولتها برفقة امها في اميركا اللاتينية. وعندما بلغت الفتاة الثانية عشرة عادوا وارسلوها الى انكلترا التي وجدت في ذلك فقدانا للحنان والاهتمام ، ونظرا لاختلافها الشديد مع امها ، فلقد افترقت معها الى الابد . وتبناها وهي مراهقة ، القس كينيت ورنير، الذي اصبح بعد ذلك اسقف ادنبرة ، واحبتها زوجته مرجريت حبا جمّا . ورافقتهما روزاليند الى البلاد العربية ، فلقد عمل الزوجان ورنير لفترة من الزمن في فلسطين التي كانت في ظل الادارة البريطانية، وطافت روزاليند الشرق الاوسط وامضت سنة في التطواف في المنطقة. وفي العام 1932 ، وحينما كانت في الاردن ، تعرفت الشابة الانكليزية على الامير طلال بن عبدالله ولي عهد الاردن ووالد الملك الراحل الحسين . وترك هذا اللقاء اثره في حياة روزاليند .. وبعد عشر سنوات، حينما تلقت دعوة لتكون مربية لقريب الامير طلال ذي السنوات الست، ملك العراق فيصل الثاني. وفعلا ، اصبحت منذ تلك اللحظة مربية فيصل الثاني وصديقته الوحيدة . قالت لي بالحرف الواحد : لقد كنت اتلهف له صبيا لأنه كان يعاني نفس ما كنت قد عانيته في صغري ، فهو مثلي قد فقد منذ طفولته عطف الابوة وفقد عند مطلع نشأته حنان الامومة لرحيل والدته الملكة عاليه !! وكانت تردف وهي تصفه لي وكأنها معه قائلة : كان هادىء الطبع ، قليل الاكل ، عفيف النفس .. كان يعشق الصمت ويصغي لمن يصف له العراق القديم ويريد ان يجعل من العراق بلدا اخضرا وكله اشجار تزدان بالاضواء ! لقد كان هذا جوابه على سؤال سألته اياه – كما تقول – لقد تعّلق بي وكأنه يرى في مربيته امّا له ! وغادرت روزاليند بغداد بعد الحرب العالمية الثانية، ولكنها ابقت علاقاتها مع العائلة المالكة في العراق. وقد سمعت بأن روزاليند قد توفيت في العام 1999 . ولم يكن ابن الملك غازي تلميذها الوحيد، وانما أيضا ولدا دوق جلوستير شقيق الملك جورج السادس وعم ملكة بريطانيا الحالية اليزابيث الثانية. ولم تتزوج مسز راميريس ورحلت دون ان يكون لها ابناء.
حكايات الارشيف / السجل التاريخي
يقول أرشيف هذه المرأة انها عملت في القصر الملكي العراقي للفترة 1943 – 1946. وهي فترة قالت لي انها غير كافية جعلتها تتعلق بحب ذلك الصبي الملك الحزين وتعلمه الكثير وتلتقط معه اجمل صور ذكرياتها معه بكاميرتها القديمة التي لم تزل تحتفظ بها حتى الان في منزلها – كما قالت – .. انها لم تزل تتذكر ألعاب ذلك الملك الصغير وافلامه السينمائية المفضلة وكانت بالاسود والابيض ومراقبتها له ابان الفعاليات الرسمية التي قدر له أن يشارك فيها ، وتتذكر الازمات التي يمر بها اذ تجتاحه بين فترة واخرى نوبات الربو الذي يؤذيه جدا خصوصا عندما تتوعك سماء بغداد ويحل الغبار ضيفا ثقيلا على سماء بغداد اياما عدة . تستطرد وتقول بكلماتها التي ترصها رصا وهي تنظر اليّ وكأنني نزلت عليها من بلاد العجائب والغرائب : قد لا تدري انني احتفظ بثمة رسائل جميلة كتبها صاحب الجلالة فيصل الثاني لي بانكليزيته الرائعة في سنوات عدة من الخمسينيات وتعّلق قائلة بأنه كان يجيد الانكليزية اكثر من العربية !! .. ولا يمكنك تخّيل حالتي ومشاعري التي خنقتني كوابيس ما حدث في فجر 14 يوليو 1958 ، عندما تناهت الى سمعي انباء مصرع فيصل الثاني في صباح ذلك اليوم الصعب .. لقد كدت اجن وانا اتابع احداث ذلك اليوم من اذاعة لندن البي بي سي ، وهو اليوم الذي قتل فيه ذلك الملك الوديع الذي لم يتجاوز 23 سنة من العمر !!
اطرقت روزاليند قليلا ، وكأنها كانت تفكّر في امر مهم ، ثم التفت وقالت لي : اتدري ما قاله لي فيصل الثاني في احد الايام ؟ قلت لها : ماذا قال ؟ قالت : قال : اريد ان اجعل من وطني العراق جنائن معلقة يراها كل العالم ! وهنا انتبهت ، فقلت لها : ولكن لم يستطع ان يحقق امنيته اذ لفّه القدر البائس ، ليأخذ العراق طريقا من نوع آخر في مسيرة تاريخه ! وكان ان قامت مجموعة عسكرية اسمت نفسها بالضباط الاحرار بانقلاب عسكري اعقبه حدوث زخم ثوري في الشارع يوم 14 تموز / يوليو 1958 وقتل الضباط ملكهم وابادوا جميع افراد الاسرة العراقية المالكة وطالوا حتى جدّته لأمه الملكة نفيسة وهي امرأة عجوز مع جميع خدمهم .. ففي 14 تموز 1958 حينما سيطرت مجموعة من ضباط الزعيم عبد الكريم قاسم على قصر الرحاب ، وهبطت للطابق الاسفل العائلة الملكية على راسها الملك فيصل الثاني الذي كان له من العمر 23 عاما وخاله الوصي عبدالاله، الى جانب خدم البيت،وتقدمت نحوهم مجموعة الضباط واطلقت النار العشوائي عليهم دون انذار. كانت الحركة قد قام بها ضباط تزعمهم الزعيم الركن عبد الكريم قاسم ولم يرحم ” الضباط الاحرار” النساء والاطفال، وسحلت الجموع بفرح غامر في شوارع بغداد جثة الامير عبدالاله بعد ان ربطتها في مؤخرة سيارة،.ولكنهم لم يمسوا جثة الملك الشاب، واكتفوا بمواراتها التراب بسرية. وبهذا اسدل الستار على حكم الهاشميين في العراق ، واصبح عبد الكريم قاسم اول زعيم للجمهورية العراقية، ويبدا مسلسل الانقلابات، واراقة الدماء. ولم يرحم ” الضباط الاحرار” النساء ولاالاطفال، وسحلت الجموع بفرح في شوارع بغداد جثة عبدالاله بعد ان ربطتها في مؤخرة سيارة،.ولكنهم لم يمسوا جثة الملك الشاب، واكتفوا بمواراتها التراب بسرية.
انطباعات تاريخية مهمة
حدثتني في اكثر من لقاء معها بأن فيصل الثاني لم يكن كبقية من كان في عمره ، كان يرسم على وجهه ابتسامات حزينة .. ولم يتكلم الا اذا سئل ولم تعجبه الثرثرة ابدا .. تعّلم الا يكون لوحده ابدا ، فمنذ طفولته تعّود ان يحيطه الكبار ، وقد عرفت ان خالته الاميرة عابدية بدأت ترعاه بعد وفاة امّه التي كانت له سندا وبموتها فقد الملك الطفل فيصل الثاني كل فرحه ولكنه كان انسانا عجيبا في كظم حزنه .. كان يعجبه احتساء الشاي بالحليب ويعجبة استقبال الشباب العراقي من الفتوة .. ويرحب دوما بجولات في شوارع بغداد اذ كان يرغب ان يكون في سيارة مكشوفة ليحي شعبه الذي يصفق له كلما يراه .. كان يعشق الصور الفوتوغرافية ومراقبة الافلام السينمائية .. كان يحب الرسم وبدأت هوايته منذ سن مبكرة كان يتكلم مع مربيته ومعلمته بالانكليزية التي نجحت في غرس جملة كبيرة من التعابير والمصطلحات النادرة والثمينة في ذهنيته وعلمته كيفية النطق بها منذ صغره حتى يمكنه في المستقبل ان يتميز بها على ملوك الاض وزعمائها .. ولكن القدر لم يمهله لينفع العراق بمثل هذا الملك الذي لم يبدو انه لم يخلق للعراق ابدا ! وتتحدث روزاليند لي عن خاله الوصي الامير عبد الاله ، فتقول عنه بأنه كان يعتني بفيصل وكأنه ولده ومحبته للملكة عالية لا يمكن ان توصف . كان عبد الاله منطويا على ذاته ويخشى صرامة والدته الملكة نفيسة ، وكان يهتم بجيش العراق اهتماما فوق العادة .
مضت الايام ورحلت عن بريطانيا في العام 1983، وكنت أسأل المسز كلينت عن المس روزاليند في كل زيارة لي الى لندن ، فكانت تحدّثني انها بخير حتى انقطعت عني اخبار المسز كلينت والمس روزاليند منذ اكثر من عشر سنوات .. وبعد سنوات طوال سمعت بأن روزاليند قد رحلت في العام 1990 ، ولا اعرف ماذا حّل باشيائها واوراقها العزيزة ، فان هناك مقتنيات اثرية وتاريخية مهمة جدا تفيد تاريخ العائلة الهاشمية التي حكمت العراق 37 سنة من القرن العشرين ، ومنها رسائل وصور ورسوم بيد فيصل .. ولم اعرف ماذا حل بالمسز كلينت وزوجها ! وانا واثق بأن بريطانيا كانت ذكية جدا في توظيف سيّدات راقيات جدا في العديد من مستعمراتها ، وانا واثق من ارتباطاتهن بالسياسة العليا لبريطانيا كجزء من واجباتهن الحقيقية .
ـ عن كتاب للمؤلف سيار الجميل : ذاكرة مؤرخ .
نشرت في اكثر من مكان في العام 2004 .
الرئيسية / النقد السياسي والتاريخي / روزاليند راميريس..المربية الانكليزية لفيصل الثاني ملك العراق ..قصة ملك طفل حزين وجد عندها الحنان والدفئ قبل ان يقتله شعبه !!
شاهد أيضاً
على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)
ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …