الرئيسية / محاضرات / ثقافتنا : تكوينات الماضي وعولمة المستقبل.. نعم أم لا .. من أجل تفكيــر عربي جديد ؟

ثقافتنا : تكوينات الماضي وعولمة المستقبل.. نعم أم لا .. من أجل تفكيــر عربي جديد ؟

نص المحاضرة التي ألقاها الدكتور سّيار الجميل
في المعهد العالمي للفكر الإسلامي / عّمان ـ الأردن أمسية
يوم الخميس الموافق 2/7/ 1998.

سيداتي سادتي
اسعدتم مساء والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. اشكر المعهد العالمي للفكر الاسلامي على دعوته لي لالقاء هذه ” المحاضرة ، واشكر كل هذا الجمع الكريم الذي جاء ليسمعني في هذه الامسية .. متمنيا ان نستفيد معا من جملة الافكار والاراء التي ساطرحها وبعض الحقائق التي ساعالجها .. خصوصا وان بعض ما تتضمنه هذه ” المحاضرة ” سيثير ردود فعل عدة .. واتمنى ان يكون حوارنا له جديته وفاعليته ..
أولا : قيمة ثقافتنا
يعد هذا ” الموضوع ” من ابرز المواضيع الحيوية واعمقها في حياتنا المعاصرة من اجل فهم ، او محاولة فهم المصير الذي سيحيق بنا وبأجيالنا القادمة في المستقبل ، سيما وان العرب والمسلمين أجمعين يمتلكون موروثا ثقيلا من ثقافة الماضي .. أستطيع أن اجزم بالقول أن ليس هناك أي أمة على وجه الأرض تمتلك تاريخا زاخرا لثقافة أصيلة وواسعة كالتي يمتلكها العرب ومن شاركهم فيها من المسلمين ! ثقافة قيمية من طراز خاص تتنوع فيها المعاني وتتعدد فيها المباني ، وتتسامى فيها الأعمال والأفعال ، وتتخلق وتتواصل من خلالها الأجيال ، وتكتنز في مضانها النصوص ورائع المفاهيم ومأثور الأقوال ، وكانت ادبياتها الموروثة ولم تزل بحاجة للمزيد من البحوث والدراسات والتدقيقات المقارنة والتحقيقات والنقد والتحليلات .. وعلى أيدي أبنائها من العلماء العاملين المحصلين على درجات الكفاءة والمعرفة النقدية الحقيقية إذ كفاها اغترابا على أيدي غيرنا من الدارسين الغربيين والمستشرقين والمستعربين والمراقبين الذين استفادوا كثيرا منها على امتداد عصر نهضتهم الحديثة ، وكانت أحد ابرز مكونات العلم الحديث كما يذكرون ذلك هم أنفسهم في كتبهم ومقالاتهم التي نشروها بلغاتهم الحية في السنوات الاخير .
وعلى الرغم من أن ثقافتنا العربية الإسلامية التي يمتد عمرها لازمان عميقة في التاريخ ، وقد تواصلت بكل حيويتها وفعاليتها من خلال منتجاتها على أيدي أجيال عديدة ، إلا أنها لم تبق منحصرة في مكان محدد واحد ، بل توزعتها : مراكز حواضر وقسمات ومحطات بيئات متنوعة على امتداد حواضر العالم الإسلامي وأنها ما كانت تسمى بـ “ثقافة” في كلياتها ، بل جرت تسميات عدة لمجزوءاتها وحقولها المتنوعة ، وكان كل مجزوء منها قد حفل بنصيب واسع جدا من التراكمات الخصبة والتباينات المنتجة والتخصصات الدقيقة التي يعجز المرء قياس حجومها على نحو محدد ودقيق !! وقد نجحت الآليات الحديثة والحواسيب الإلكترونية المتطورة من خلال البعض القليل جدا من الدارسين والعلماء تأسيس بعض التجارب والدراسات المعاصرة التوّصل إلى نتائج غاية في الروعة والدهشة ، وسيبقى الباب مفتوحا أمام الأجيال القادمة لاستنباط واستكشاف ما قد غاب فهمه واستيعابه والتوصل إليه عند الأجيال السابقة ، خصوصا إذا ما خضعت مواريثنا الثقافية بمختلف حقولها وتصانيفها وميادينها وشخوصها الذين ألفوا أعلامها وطبقاتها ونخباتها .. لجملة من قواعد المعلومات والبرامج البحثية ضمن آليات المناهج الحديثة المتطورة .

ثانيا: مفهوم ثقافتنا
السؤال الآن : كيف يمكنني تحديد مفهوم ثقافتنا من خلال مضامينها وبعيدا عن مصطلحها الذي شبعنا كثيرا من سماعه ؟
أقول : على الرغم من اختلاف معنى الثقافة دلالة ومصطلحا بين عدد كبير من الدارسين والعلماء والباحثين والمفكرين والمستشرقين .. واقصد به : معناها العربي والإسلامي بعيدا عن المعنى المحدد والدقيق لمصطلح ” الثقافة ” بشكل عام كالذي نجده واضحا تمام الوضوح في اغلب المعاجم الأجنبية ودوائر المعارف والانسكلوبيديات العالمية ، إلا أن هناك ثمة خصوصية للمعنى العربي والإسلامي نظرا لما تعكسه المضامين الزاخرة في موروثها القديم الذي يتفرد به العرب المسلمون مقارنة بغيرهم من الأمم التي تتصف ثقافاتها بالانقطاع أو الانكماش والتضاؤل أو الحداثة والعمر القصير .. ناهيكم عن شحوب منتجاتها ونضوب معطياتها في التاريخ إزاء الثقافة العربية الإسلامية التي لم تزل حتى يومنا هذا تتعامل مع تواريخها بكل ترسباته سواء في جذوره أم في بقاياه !
أعود لكي احدد محاولتي في إعطاء ثمة معنى لمفهوم ” ثقافتنا ” مضمونا ، ففي ذلك ضمان يسهل استيعابه من خلال توضيحه ليس إلا :
ثقافتنا في الماضي والتاريخ وبرغم تواصلها في الحاضر من خلال بقاء بعض ثوابتها ومرتكزاتها القوية سواء كانت الروحية القيمية او اللغوية المهاراتية او بعض أعرافها الاجتماعية وظواهرها التقليدية .. الخ إلا أن ثمة انقطاع قد حدث على امتداد الأجيال الماضية عن بعض مظاهرها وأشكالها وأساليبها وصورها وبنيوياتها ، وقد دخلتها عناصر شتى وبدائل كثيرة وخصوصا في القرنين المتأخرين : التاسع عشر والعشرين ، وذلك نظرا لهجمـة ( أو : تفاعل ) عوامل عدة داخلية وخارجية .. ولما كانت أحوال ثقافتنا قد ضعفت كثيرا في القرون الثلاثـــــة ( السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر ) وهو العصر الذي أطلقت عليه اسم ” السكونية ” نظرا لصفة الضعف والتردي التي حاقت بمضامينه وسمة ” المسكونية ” التي شكلت مظاهره ، فقد غدت ثقافتنا مسكونة بمجموعة معقدة من الأعراف والشكليات والآليات والمخيالات الجماعية التي ابتعد فيها العرب والمسلمون عن المضامين الحيوية والأساسية في ثقافتهم وانقطعوا عن التفاعل اليومي معها ، فغابت المهارات والإبداعات والمنتجات والأفكار والرؤى والتجارب والانفتاحيات والممارسات .
ولم تعد المضامين الثقافية العربية الإسلامية ذات نفع وأهمية نظرا لما ساد فيها من التقاليد المتيبسة والميتة التي يمارسها الجامدون والمتخلفون من شرّاح ومقلدين ومتصوفة ومريدين وناظمي شعر متسولين مكّدين وقرّاء ومداحين او اولئك الخاصة من اشباه الفقهاء من ( العلماء ) والنقباء والاعيان ووعاظ السلاطين وغيرهم من الادباء الفارغين والشعراء الببغاويين ، واغتربت اللغة العربية عن أصحابها الذين كثرت عامياتهم ولهجاتهم ومحلياتهم وامالاتهم واحالاتهم وغريب القول .. وانكمشت الحياة الاجتماعية على ثقافة هشة عند الرجال وعادات سجينة عند النساء المحاصرات في البيوت وتمزقت الاجيال عبر احقاب التاريخ بسبب من كثرة الويلات والكوارث والطواعين والمعضلات في اغلب الأقاليم والبيئات .. فغدت الثقافة العربية ـ الاسلامية مسكونة بالرعب والاشباح ! وذهب قوم من المسلمين لتأسيس تقاليد ( ثقافية ) في حياتهم الاجتماعية باسم الطهارة الإسلامية ، لكي يلطموا الخدود ويشقوا الصدور ويضربوا الرؤوس والظهور ، لا لأي سبب إلا لارضاء التعاطف الوجداني الجمعي ، أو للتكفير عن ذنب يعتقد انه ارتكب .. وما هذه ” الحالة” إلا نزعة (قيمية) سايكلوجية أساسا وسوسيولوجية أبعادا تقام لافراغ شحنات الناس من كبت يكبلها وانسحاقات تؤرقها وواقع تاريخي يحاصرها من أجل تطهير النفوس والصدور بعمليات رمزية قيمية .
لقد غدت ثقافة العرب المسلمين إبان ذلك العصر السكوني ثقافة هشة هزيلة غير مبدعة ولا منتجة ولا معبرة .. فقد اهتمت بالتزويقات والأشكال لا بالمعاني والمضامين ، وغدت مظهرية الطابع تكيل المديح للأفراد والشخوص والزعماء والاعلام على نحو أجوف وفارغ ليس فيه إلا كلمات التعظيم والتفخيم والمواربة والتنطع والتطويل والتبجيل .. وكثر الإنشاء والإطناب والتكرار والتواكل والاسترخاء .. الخ من التوصيفات التي تتبدى نماذجها واضحة تمام الوضوح في الأدبيات والكتابات والأشعار والوصايا والفرمانات والوقفيات والرسائل والمساجلات والمخاطبات.
ان هذا ” العصر ” السكوني الذي نتحدث عنه الذي دام قرابة ثلاثمائة سنة ( أو يزيد ) قد انتج عصرنا هذا الذي نعيش نحن في خضمه اليوم الذي بدأ مع مطالع القرن التاسع عشر حتى الآن والذي سيعيش ثلاثمائة سنة هو الآخر ، إذ انه سينتهي مقفلا حقبته مع نهايات القرن القادم .. لقد مضت قرابة مائتي سنة على حياة مشروعنا النهضوي العربي والإسلامي في إطار العصر التاريخي الأخير ، صادفت ثقافتنا فيه شتى صنوف البدائل الصعبة والتحديات المريرة الداخلية والخارجية . وما زالت أجيالنا المعاصرة تعاني شتى أنواع النقائض الصارخة والأزمات الخانقة وفي مقدمتها : أزمة الثقافة وأزمة الوعي وأزمة التربية وأزمة التفكير وأزمة التعليم وأزمة اللغة وأزمة الأعلام وأزمة السياسة وأزمة الحرية وازمة الدولة وازمة المجتمع وأزمة التاريخ .. الخ ناهيكم عن بقاء معضلات جد خطيرة في عموم العالم الإسلامي عموما وعالمنا العربي خصوصا ، تشكل بحد ذاتها : جملة من الظواهر العقيمة التي تعد بمثابة كوابح أمام التقدم والرقي والتجديد والتسامي الحضاري ، ومنها : الأمية المستشرية عند الملايين من الناس ، والجهل المطبق لدى ملايين آخرين ، والمثاقفة السيئة المارقة والسارية في عقول الملايين من الأجيال الجديدة ، والتقاليد والأعراف الاجتماعية البالية في الحواضر ( المدينية ) أو الأرياف ( = القروية ) أو البوادي ( = القبلية ) .. الخ وكلها ظواهر لا تقرها السنن ولا الأديان ولا الشرائع والقوانين الصالحة والخيرة ولكن ـ مع الأسف ـ وجدت لها بيئات صالحة جدا كي تستشري فيها تلك الظواهر وتتفاقم فيها تلك التقاليد والاعراف.
لقد ساهم في إنمائها وابقائها عاملان أساسيان ، أولهما : الأنظمة والدول والقوى الاستعمارية المعادية لمصالح العرب والمسلمين وفي مقدمتهم : إسرائيل ومن وراء إسرائيل . وثانيهما : الأنظمة والأحزاب والقوى السياسية الداخلية في عدد كبير من دول العالم الإسلامي ( والعربي بشكل خاص ) التي يهمها جدا الإبقاء على حالات التخلف والتأخر في مجتمعات تلك الدول .
ثالثا: تحقيب ثقافتنا
وقبل أن ابدأ بتحليل ونقد أوضاعنا الثقافية المعاصرة واستخلاص بعض النتائج والرؤى والمعاني ، أود أن احدد على مسامعكم باختزال شديد : تقسيماتي لتحقيب الثقافة العربية والمعرفة الإسلامية من خلال نظرية ” المجايلة التاريخية ” في فلسفة التكوين التاريخي 00 وقد احالني إلى ذلك ما قدمته في أعلاه من توصيف مختصر لكل من العصرين التاريخيين الأخيرين 00 دعوني أيها السادة الأفاضل أن اعرض عليكم هذه ” التقسيمات ” التي تساعدنا جدا في فهم ثقافتنا العربية ومعرفتنا الإسلامية بين الماضي والحاضر انطلاقا نحو افاق المستقبل ، أقول :
ثمة وحدات كلية وجزئية في الأزمان الثقافية والمعرفية العربية والإسلامية .. تمتد بعض مضامينها لما قبل ولادة الإسلام الحنيف ، ثم ما تعاظم منها من بعدها ، ويمكنني تحديدها بالنقاط التالية :
1) إن عمر الوحدة الكلية يساوي ( 300) سنة أي ما يوازي عصر تاريخي كامل . فإذا ما علمنا بأن عمر الوحدة الجزئية يساوي (30) سنة أي ما يوازي جيل ثقافي كامل .. فان كل عصر تاريخي يحتوي على عشرة أجيال كاملة .
2) إن كل جيل من الأجيال العربية والإسلامية يستلهم تكوينه من الجيل الذي يسبقه .. وبدوره يقوم بدور المكون للجيل الذي يعقبه . ولما كانت كل وحدة جزئية تنتج وحدة جزئية أخرى ، فسوف يكون كل عصر من العصور الكبرى منتجا للعصر الذي يليه ، أي بمعنى : كل وحدة كلية تنتج بدورها وحدة كلية .
3) ازعم إنني نجحت في تحقيب خمسة عصور تاريخية كبرى في حياة الثقافة العربية والمعرفة الإسلامية ، بدءا بولادة رسولنا الأعظم محمد ( ص ) وانتهاء بنهاية القرن القادم . والعصور الخمسة ، هي :
1/ عصر الجمع والتدوين والصناعة.
2/عصر الفلسفة والعقل والإبداع .
3/ عصر الإنشاء والتأليف والموسوعية .
4/ عصر السكونية والشروحات والترديد والتقليد 5/ عصر الإصلاحات والنهضة الحديثة .
4) بطبيعة الحال ، لا يمكننا القول أن ثقافتنا في التاريخ قد ولدت من فراغ .. أو أنها ولدت في سنة معينة أو تاريخ معين . فالشعر العربي ظاهرة ثقافية عريقة عند العرب ، وهو قديم جدا إذ عاش المرقش الأكبر قبل الإسلام بقرابة نصف عصر كامل.. وانه لم يلد من فراغ ثقافي ! فمن المؤكد أن الشعر العربي كان ممتدا في عصر كامل من قبله ! وان لغة العرب عريقة جدا وكانت لها ولابنائها العرب مكانة أساسية في ثقافتهم كما كانت العربية ولم تزل إحدى ابرز الوسائل في حياة الثقافة والمعرفة الإسلامية .. ناهيكم عن قيمتها المقدسة من خلال القرآن الكريم .
5) وعليه ، فان هناك قرابة عصرين تاريخيين كاملين يعدان : المسافة الزمنية بين ولادة السيد المسيـح ( ع) وولادة الرسول محمد ( ص ) تمتد في عروقها الجذور الثقافية المؤسسة للحياة الاجتماعية والسياسية العربية والإسلامية التي امتدت عبر العصور التاريخية الخمسة .. ولكنها ، لم تقتصر على بيئاتها الأولى في أنحاء من شبه الجزيرة العربية ، بل امتدت من خلال الإسلام إلى أصقاع جغرافية بعيدة في البر وعبر البحار كي تؤلف صورة العالم الإسلامي الجغرافية الكبرىالتي نشهدها اليوم في خارطة الارض .
6) لقد تنوع كل عصر تاريخي بازمانه الثقافية وعلومه المعرفية وادبياته الفنية ومنتجاته الإبداعية أو الاتباعية .. فضلا عن تعددية بيئاته الاجتماعية وتنوع عاداتها وتقاليدها بين أزمان ثقافية وأخرى . ويمكننا رصد ذلك بمنتهى الدقة من خلال تعاقب الأجيال وتلوناتها في كل عصر من العصور .. ناهيكم عما هو حادث ومنتج من الأعمال والنصوص والأقوال والمأثورات والأمجاد والمفاخر والبطولات والتصنيفات والكشوفات والمتون والمناهج والفلسفات والطرائق والمعلومات ..الخ التي نقف عندها متأملين متحققين ومنصفين ومتعلمين في مجاميع السير والتراجم والطبقات والمجموعات والكتابات والتصانيف والأشعار والمقامات والتفاسير واللوائح والرسائل والمساجلات والترجمات .. الخ فضلا عما رفدته ثقافتنا العربية والاسلامية من تناقل الروايات في الذاكرة الجماعية من المرويات والمحكيات والشفاهيات والقصص والملاحم والقصائد والبطولات والانساب والسير والذكريات .
7) وعليه ، يمكننا القول بأن ثقافتنا في الماضي لم توازيها البتة أية ثقافة أخرى في التاريخ لا في غناها ، ولا في أصالتها ، ولا في نظامها ، ولا في كنوزها ، ولا في تواصلها ، ولا في ازمانها ، ولا في رجالها ، ولا في نسائها ، ولا في مكتشفاتها ، ولا في خصب تكويناتها ، ولا في عمق جذورها ، ولا في مركزيتها ، ولا في تعدديتها ، ولا في تنوعاتها ، ولا في امتداداتها وانتقالاتها ، ولا في نمو حواضرها ، ولا في قوة ذاكرتها ، ولا في مجانساتها وتوازناتها ، ولا في تقاليدها واعراف اجتماعياتها ، ولا في استمرار تعابيرها وسعة مرادفات لغتها ، ولا في نسيج بنيوياتها وانساقها ، ولا في مدى تجسير علاقاتها بين سلطتها وبين السلطويات الأخرى ، ولا في روحيتها العالية وانفتاحياتها على العالمين ، ولا في تراكيبها الهرمية التي تبدأ برؤوسها أصحاب المكانة العليا وتنتهي بقواعدها الأدنى من الناس ، ولا بقوة مصادرها وقدسية منابعها ، ولا بروعة فولكلورياتها وجماليات خطوطها ورسومها وعمرانها وفنونها …ذالخ من التوصيفات . ولكن ؟
ماذا يمكنني قوله أو التذكير به بعد كل هذا الغنى الثقافي العربي والمعرفي الاسلامي المتميز عبر التاريخ مقارنة بغيره من الثقافات الاخرى عند شعوب وامم اخرى ؟
أقول : لعل كل هذا ” الغنى ” الثقافي والفكري والمعرفي المتميز في تواريخ اجيال المجتمع العربي وبقية المجتمعات الاسلامية .. لا يوازيه الا ” الفقر ” السياسي والايديولوجي والسلطوي المدقع في تواريخ الدول والاسر والسلالات والحكومات المستبدة عند دول العرب وبقية الدول الاسلامية بنماذجها المتنوعة ! وان هذه البنية المستبدة قد اضرت بانقساماتها وصراعاتها وطبيعة سيطرتها مجتمعاتنا كاملة عبر التاريخ .. وبالتالي اثرت تأثيرا بالغا على ذلك الغنى الثقافي بتقييد الحريات ( الفكرية والسياسية خصوصا ) واغلاق ابواب الاجتهاد واضطهاد العقل ومحاصرة المعرفة وتطور الانسان على امتداد الاجيال .. ولم تزل نفس سمات الماضي حية ترزق بعنادها وانغلاقها وسطوتها ورهبتها ضمن موروث الهيئة ( أو : الهيئات ) السياسية والسلطوية العربية والاسلامية الحاكمة ازاء البنية (أو: البنى) الاجتماعية وبكل مفاصلها الثقافية ونخبها الفكرية ورجالاتها العلمية والادبية والفنية .. ولم تزل السياسة عند العرب والمسلمين قبل الخبز ! ولم تزل الايديولوجية عندهم قبل المعرفة !
رابعا : معاصرة ثقافتنا
ثقافتنا اليوم ؟! نعم ، ولكن عن أي ثقافة نتحدث ؟ وخصوصا عند نهايات قرن سيقفل نفسه باحتدام كبير لدى شعوب العالم كله في العام المقبل .. أي ثقافة نعني ضمن مشروعنا النهضوي والحضاري الذي لم نزل نعيش مرحلته الساخنة التي تعج بمختلف البدائل والتناقضات ؟ أي ثقافة نحلل ونقارن ونستجلي ونحن بمواجهة عصر جديد قادم سيحمل علينا وعلى مختلف الشعوب والأمم في عالم الجنوب تحديات صعبة جدا ؟ وأي مصير ستواجهه أجيالنا القادمة ونحن العرب ومعنا شعوب العالم الإسلامي : نتخطى خطوات مرتبكة متعثرة ومترنحة ذات اليمين وذات الشمال ؟ وهل استفادت اجيالنا في القرنين الأخيرين في تكوين ثقافتها ومعارفها وتطوير حياتها ومجتمعاتها من دروس تجاربها السياسية المريرة وصدماتها الحضارية القوية إزاء الآخرين من أبناء عالم الشمال ؟ أين نحن من المعادلة الصعبة التي لم نزل حتى اليوم غير مدركين لابعادها بين الماضي الزاهر والآتي القاهر ؟
كلها وغيرها كثير من الأسئلة التي لابد من افتراضها دوما لإثارة اكثر من محاولة في البحث وإيجاد إجابات حقيقية ومشروعات حيوية ضمن اجتهادات علمية وقيمية ، ومعالجات معرفية .. من اجل منهج إعادة التفكير والمنطق مرات ومرات في المسألة الثقافية عند العرب والمسلمين كونها : الأداة الأساسية في المشروع النهضوي العربي والحضاري الإسلامي .
دعوني أسجل بعض ” الظواهر ” التي لم تزل تسري في شريان ثقافتنا حتى اليوم ، او التي ازدادت وتفاقمت بشكل مذهل في عموم بيئاتنا وعروق حواضرنا وعواصمنا التي قاست مجتمعاتنا فيها من شتى صنوف التحديات والاهوال .. واطمح ان يتنبه المرء إليها :
1. لقد أضرت السياسات في العالمين العربي والإسلامي على امتداد قرن كامل من الاستفاقة ( وعمليات الاستحداثات لا التحديثات ) ليس من خلال إنزال الثقافة من عليائها .. بل استخدام آليات فجة ووسائل إعلامية ودعائية وشعاراتية أقل ما يمكن وصفها بـ ” الكاذبة ” ، حينما قالوا بوجوب نقل الثقافة من الصالونات إلى الشوارع ! ومن النخب إلى الجماهير ! ومن القديم الى الحديث ! ومن الانغلاق الى التحرر !! ومن القوالب الى التفتح ! فماذا حدث ؟ انقطاع الصالونات والمجالس والبيوتات والاعلام من المثقفين والعلماء والادباء ..عن إنتاج ثقافة عليا ومن نوع خاص كالذي كانت عليه عند النخب إبان فترة ما بين الحربين العظميين ، وانكماش واضمحلال في ( الثقافة ) الدنيا للجماهير التي غدت مشروعا مستلبا للأنظمة السياسية واعلامياتها ودعاياتها وشعاراتها على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين ، وفشلت فشلا ذريعا في تحقيق الحدود الدنيا للأهداف الأساسية في تطوير المجتمعات والاجيال الجديدة .
2. الخلل والاضطراب الذي تتصف به الأجهزة التربوية والمؤسسات التعليمية التي تعد جميعها من ابرز الدعامات والمرتكزات القوية في البناء الثقافي والمؤسسات المعرفية .. مما سبب تداعيات في المستويات الثقافية لدى الأجيال المعاصرة بشكل كبير . ولعل أهم ما يمكننا رؤيته في قياس تلك ” المستويات ” : هزال في بناء الثقافة العامة والمكتسبات المعرفية / ضعف فاضح في الشخصية إذ تميل دوما إلى الدوغمائية / ثنائية المواقف وازدواجيتها / الوازع المضطرب من التناقضات في قياس الأمور والأشياء / الضعف العام والمروع في البناء اللغوي على المستوى التحريري والشفهي … الخ / تخلخل الابداعات وعدم رعاية الكفاءات في العلوم والاداب والفنون .
3. وسأعتبرها نقطة مهمة جدا لاقف عندها قليلا ، تلكم هي ” المعضلة اللغوية ” وخصوصا استخدام عربيتنا من قبل أبنائها الحقيقيين ، إذ يندر ما نجد المثقف يجيد استعمال لغته تحريريا كتابيا وشفويا ارتجاليا على نحو سليم وجميل وواضح .. وبعيدا عن التقعر والتشدد والتقولب والتفصح ( بأسلوب الواعظين )، فان العجب يأخذ الراصد والناقد والمتتبع وهو يستمع إلى مثقفين عرب كبار من كتّاب وفحول شعراء وأساتذة وعلماء .. أو رؤساء دول وحكومات ومؤسسات وجامعات ..الخ في مؤتمرات وخطب وتصريحات وملتقيات وهم جميعا وغيرهم كثير من الذين لا يجيدون التكلم السليم بعربية مبسطة سليمة ، وكلهم لا ينفكوا عن استخدام عامياتهم ولهجوياتهم ورطانتهم ومفرداتهم .. علما بأن اللغة وحسن جودتها في التعبير من ابرز الركائز التي يتميز المثقف الحقيقي بها .
4. ودعوني أتوقف عند نقطة مهمة اعتبرها مهمة جدا ، وخصوصا في ثقافتنا العربية التي تعيش اليوم في طور من الغرابة والاغتراب داخليا وخارجيا .. وهي تمرّ في اكثر من مشكلة ومأزق .. فلقد تربى العرب منذ قرون طويلة على نزعة هي التي ميزتهم كاصحاب ثقافة عريقة بين ثقافات الأمم ، فإذا كانت الفلسفة نزعة متميزة في ثقافة الإغريق ، وان الحكمة والسحر نزعة متخصصة في ثقافة الهنود ، وكان المسرح نزعة عريقة في ثقافة الرومان ، وكان القص نزعة قديمة في ثقافة الفرس .. فان الشعر في صناعته وموسيقاه ، كان ولم يزل نزعة عريقة لا جدال فيها تميز ثقافة العرب الاقدمين والمحدثين .. فقد عاش المرقش الأكبر قبل الإسلام بعشرات السنين ولم يزل العرب يعشقون الشعر بكل ما يميزه عندهم من : العاطفة والخيال والكلمة والموسيقى ، ولم يكتف بذلك حسب ، بل اعتبر الغناء والتطريب عنصرا أساسيا للســماع ( والتطريب مقتصر على العرب فقط ) بكل ما يحمله من شجون وتأوه وارتخاء . وإذا كان الشعر والغناء والتطريب العربي ينفع جدا في العصور السالفة ، فعصرنا اليوم لا يحتمل أبدا أن يضيع الإنسان وقته كله في السماعيات الشعرية والتطريبية !! الا بما ينفعه منه في قضاياه الاساسية باثارة احاسيسه ووجدانه 00فماذا نرى حول ذلك اليوم من مبالغات واستلابات ؟؟
نرى اليوم كم تزدحم ثقافتنا العربية المعاصرة بالشعراء وأشباه الشعراء والفنانين والمطربين والمغنيين والقوالين والمصفقين والمتأوهين والمختصين والمهتمين بهؤلاء جميعا نساء ورجالا من الأساتذة والكتاب والنقاد والصحافيين وصولا الى المسؤولين السياسيين من القادة والزعماء والرؤساء .. وكلهم يقتاتون على أفكار ومشاعر واحاسيس أبناء الأمة ويتناقلون الاخبار الفنية وينشرون الصفحات الادبية.. ويطبعون دواوين (القصائد النثرية ) ! ويقيمون المهرجانات الشعرية والادبية وكلهم يزدحمون في حياتنا العامة والمثقفة تحت واجهــة ” الثقافة العربية ” .. ولنا أن نتصور كم يتلف العرب أوقاتهم بعيدا عن الثقافة الحقيقية في المعرفة باتجاهات خصبة أخرى وهم ما زالوا في غمرة ليس من الغواية النفسية والمستهلكات المادية والمعنوية حسب كما هو الحال لدى مجتمعات أخرى ، بل من التراجع والارتخاء أمام المكتسبات المعرفية والتحديات المستقبلية التي تواجه أجيالنا القادمة ! اقول هذا ، وانا انقد نفسي ، فلست بعيدا عن هذا وذاك ، اذ انني اعشق الشعر واتذوقه واهوى التطريب وسماعه .. كأي عربي في هذا الوجود !
5. ثمة نزعة أخرى تتحكم في وجودنا المعاصر ، تلكم هي ” السياسة ” التي غزت ثقافتنا بحكم المجريات السياسية التي عاش العرب والمسلمون في غمارها بعيدا عن حاجات ” المجتمع” وضروراته وقد بقي بعيدا عن الثقافة الحقيقية .. لقد كان كل شيء في حياتنا الحديثة والمعاصرة وقد غمرته السياسة . لقد قال لي أحد أصدقائي السودانيين في أحد الأيام من سنة 1977 عندما كنا ندرس سويا في بريطانيا ، بأن السودانيين يأكلون السياسة اكثر مما يأكلون الخبز ! وربما انطبق هذا ” التشبيه ” على اغلب قسمات بلداننا العربية والإسلامية ، كما نرى ذلك اليوم بكل وضوح . الكل ساسة والكل يتشدق بــ ” السياسة ” ( العسكر والطلبة والتجار والعمال والعلماء والمعلمين والمشايخ وخطباء الجوامع والصناع والسماسرة ورؤساء العشائر واصحاب المهن .. الخ) والكل يتحزب لـ ” السياسة ” على حساب مجالات أخرى كالثقافة والمجتمع والعلم والاقتصاد ..00 بل ودخلت “السياسة ” في كل حقل وحيز ومجال ! ووصل الأمر إلى حد التصادم والتقاتل والاحتراب والقتل وإراقة الدماء . لماذا ؟ لأن كل شىء لبس لبوسا سياسيا عند العرب المعاصرين ، حتى القيم والاخلاقيات والمبادئ كالوطنية والقومية والعربية والدين والتاريخ والعلم والتدريس والتفكير والعمل والمهن الخ كما كان الحال عند العرب الاقدمين !
إنني أرى ” السياسة ” كـ ” الشعر ” في ثقافتنا العربية المعاصرة خصوصا إنها قديمة جدا في تاريخنا العريق ، ولعل اغلب ما جرى في تاريخنا الإسلامي ( بعيدا عن ذاك الذي انتجته القوى الاجتماعية المتحضرة )من احترابات ومشاكل وانقسامات وانشطارات وتشظيات وتناقضات الملل والنحل وادانة العلماء والفلاسفة باسم التهافتات ، والتكفيريات باسم التسنين والمذهبيات ، والتشيعات باسم المغالاة والرفضيات .. كان لاسباب سياسية بالدرجة الأولى وثمة طموح ورغبة وانشداد لا مثيل له في السعي لامتلاك السلطة ( أي سلطة ـ وخصوصا السياسية ـ ) أو الانفراد بها والتحكم بالمصائر من خلالها . وعليه ، فقد غلبت ” السياسة ” على ثقافتنا التي لا مجال لأن يتحرك الناس فيها إلا من خلال ما تكتسبه من صنوف الأيديولوجيات والعقائديات مع الأسف 0 ولا أدرى بعد هذه ” التحولات ” التي غدا عليها العالم اليوم : كيف ستواجه ثقافتنا المعاصرة ( في عالمينا العربي والاسلامي ) مستقبلها ومصيرها ولمّا تزل حتى يومنا هذا متبلدة في الخنادق السياسية والأيديولوجية والسلطوية .. بعيدا عن الحياة المعرفية والنقدية وإشاعة القيم التربوية والاخلاقية والمنطقية والديمقراطية من أجل تحقيق الأهداف الاجتماعية ؟
6. ولا ادري كيف أفسر حالات الهوس الجماعي المهول التي تصيب مجتمعاتنا العربية والإسلامية كلها إزاء حالة معينة أو اكثر .. والانشداد العاطفي والدعاية الواسعة والإعلاميات الكاذبة التي لها بطبيعة الحال اكثر من مرجعية معينة ومصدر معين ، ومن أبرز من يشيعها : السلطات المتنوعة ( السياسية والاجتماعية) والعدد الغفير من المثقفين الذين تتحكم بهم عواطفهم قبل عقولهم ! إنني اقف مندهشا جدا ولم أجد أي تفسير مثلا أمام هوس نفسي وسياسي، جماعي وإعلامي عام لوفاة شاعر عربي أو مطرب عربي بحيث لا يقارن الأمر نفسه أو ما يشابهه إزاء حدث مصيري لبلد عربي او اسلامي من نوع آخر اكثر قيمة واكبر أهمية يموت فيه كل يوم العشرات والمئات من الناس! وهؤلاء الناس لهم قيمتهم ايضا في هذا الوجود ففيهم من المبدعين والصناع والقادة والعلماء الماهرين ! لم استطع تفسير ذلك الهوس الجماعي المهول في ثقافتنا وهو عاطفي بطبيعة الحال إزاء حالات الانقسام والرعب والتكفير والقتل والتفجيرات والاعدامات .. وهي تعبيرات عن حالات من الانفصام والتفككات التي أصابت مجتمعاتنا العربية والإسلامية وغدت بعضها تتشكل على نفسها في قيم وعادات وتقاليد ثقافوية فجة أصابت الأنفس باعماق الصميم ، وذلك في اغلب البيئات المهمة التي تمتلك ثقلا حضاريا .
ان المشكلة تكمن في تفسير الأغلبية لما هو حاصل فعلا والذي يأخذ له طابع الهوس الجمعي لا الوعي الجمعي أو الإدراك المتبادل برمي كل أسباب ومسببات هكذا مشاكل ومعضلات على الاستعمار وأعوان الاستعمار من العملاء والخونة والرجعية والمؤثرات الامبريالية الخارجية … الخ من المصطلحات التي استخدمت كثيرا وتربت ـ مع الأسف ـ أجيال القرن العشرين عليها . لقد ذهبت قوافل من الضحايا نتيجة هوس ثقافوي سايكلوجي جماعي واسع النطاق في عالمنا العربي والإسلامي بحجة التخوين والتكفير في ابرز ركيزتين اثنتين قويتين ، هما : الوطنية والدين ! علما بأن الجيل الجديد لا يرغب اليوم فعلا بالحرب والنضال ضد الاعداء الا بالشعارات ! وان الصهيونية العالمية تدرك ادراكا حقيقيا نقاط الضعف هذه عند العرب والمسلمين بمنتهى الدقة .
7. وللتناقضات والثنائيات والازدواجيات مجالها الخصب في ثقافتنا المعاصرة والتي أنتجت المزيد من التداعيات والتواكليات ودخول المجتمعات العربية والإسلامية برمتها في متاهة الكسل التاريخي الذي اخذ يغلف تكويناتنا النفسية والاجتماعية والثقافية .. وداخل رواق زحمة التناقضات وعدم الاستجابة للتحديات التي لازمت العرب والمسلمين على امتداد قرنين كاملين . ولا أغالي أن استشهد ببعض الأمثلة والنماذج والقرائن التي تدلل على ذلك كله والتي قلما نجدها في ثقافات أمم أخرى حسمت عندها مثل هكذا مفاهيم . إن المظاهر والشعارات والافتتان بما ليس له واقع وحقيقة ، وازدواجية المعايير ، وتوفيقية الأمور ( لا توسطيتها واعتدالها من اجل تكاملها ) مهما كانت درجتها في الصغر قد أضّرت كثيرا بالواقع المعني ، ثم انعدام التحسس بالزمن وقيمته العليا بعيدا عن التفكير وتنميته عند الناس أجمعين من اجل تحديث الثقافة والحياة .
ان ركاما هائلا من التناقضات والانقسامات المتوالدة في تفكير العرب المعاصرين وممارساتهم السياسية والاجتماعيــــة .. ( وحتى الدينية والعقائدية ) التي تبعدهم يوما بعد آخر عن التكامل والوضوح في الرؤية وعن العقلانية ، إذ لا يمكننا تصور من يبقى يدين هذا العصر بالجاهلية والتكفيرية وهو يستخدم منتجاته ومخترعاته وآخر ما توصل إليه العلم الحديث ! وانني لا يمكنني ان اتصور كيف يستطيع أي شاعر عربي يكتب قصيدة عربية في قضية نضالية في شقة مخملية تقع في قلب عاصمة ( استعمارية ) !! ( مع الاعتذار للصديق الشاعر نزار قباني ) كما ولا يمكننا تصور من يبقى حتى يومنا هذا يدين الاستعمار والليبرالية والمجتمعات الغربية والإمبريالية وهو لا يقطن إلا في دوله ولا يعيش إلا وسط مجتمعاته ولا يتمتع إلا على أراضيه .. وهو بين هذا وذاك ما زال يلعن الغرب والاستعمار والإمبريالية باسم الشيوعية العالمية مرة ، وباسم المرجعية الإسلامية مرة أخرى !! واغلب الأجيال العربية المثقفة الجديدة تربت على كراهية الغرب وسياساته التي اضرت فعلا بالمصالح الوطنية والقومية العربية في القرن العشرين وكانت وراء تأسيس الكيان الصهيوني في فلسطين .. ولكن هذه الأجيال لا تنفك أبدا عن استخدام معطيات الغرب ومنتجات حضارته وثقافته ، ويتطلع القسم الأعظم من الشباب العربي والمسلم إلى الهجرة نحو الغرب الاستعماري ! وحتى على مستوى الزعماء والقياديين السياسيين أو مستوى الدعاة والوعاظ الإسلاميين نجدهم يقفوا الساعات الطوال ليلعنوا القيم الحضارية المادية الغربية باسم الحفاظ على قيم الهوية الوطنية ومبادئ العقيدة الإسلامية .. ولكنهم لم ولن يستطيعوا البتة العيش أو البقاء للحظات أو ثوان دون آخر المبتكرات المادية الغربية لما توفره لهم من الراحة التامة في البيوت والقصور والمعابد والسفرات على متون الطائرات أيام الشتاء والصيف في البلاد الباردة أو الاستوائية القائضة ناهيكم عما توفره لهم من وسائل الأمن والدعاية والإعلاميات والإلكترونيات والمواصلات .. الخ في حين يشترك هؤلاء جميعا بالوقوف جميعا ضد قيم الحرية والمدنية والديمقراطية في العالمين العربي والاسلامي ! ناهيكم عن اولئك الذين يتحدثون باسم الثقافة القومية ، وقد غدت ثقافة العرب المعاصرة على ايديهم ثقافة ميليشيات وانقسامات متناحرة ليس كما الفناه من النزوعات والسياسات القطرية ، بل كما نألفه اليوم من التناحرات والتشظيات المؤلمة داخل القطر الواحد !
خامسا : مستقبل ثقافتنا
ثمة مشكلات عويصة تواجه ثقافتنا العربية اليوم في مضي العالم سريعا لاقتحام القرن الحادي والعشرين ،وما ينتج عن ذلك من متغيرات واسعة المدى والخطوات لم يستطع العرب ومعهم عدة شعوب ومجتمعات سواء في العالم الإسلامي أو في غيره من العوالم الأخرى من استيعابها .. ليس من خلال اللحاق بها حسب ، بل من خلال الوعي بمدركاتها ومدياتها وقوتها .. نتيجة ما تعانيه ثقافة العرب وبقية عالم ثقافات الجنوب من المشكلات على مستوى المعضلات لا على مستوى الأزمات ! سيدخل العرب القرن الجديد وهم يحملون ثقافة انقسامية مفككة غير متماسكة وموحدة البتة 00 تزدحم فيها التناقضات والمتضادات والمثالب والسلبيات .. وتغلب على منتجاتها : الأدبيات التراثية والصناعات الإنشائية والخطابات الوعظية والاستنساخات التقليدية والعموميات الاستعراضية والكتابات الشعرية الباهتة والطقوس النثرية التناصية …الخ وكلها لا نفع لها البتة مع البنيويات الفكرية والفلسفات المعرفية والابداعات الثقافية الجديدة عند بدايات القرن الجديد الذي ستنفرد المعلوماتية فيه من خلال النسيج الثقافي لدى كل المجتمعات وقد غدت سمة العصر القادم .
معنى ذلك ، فان الثقافة المستقبلية هي المعرفية التي تضطلع بها المنتجات الفكرية والمعجمية واللغوية والموسوعية والبرمجية والإعلامية .. والتي تقف من ورائها : نخبات من المثقفين المعرفيين ( = المعرفتاليا ) التي تتميز بقوتها وتأثيرها من خلال عنصرين أساسيين اثنين ، أولهما : التفكير المهاراتي ( = البرغماتي )الجديد المتلاقي مع طبيعة العصر ، وثانيهما : الثقافة الموسوعية المنفتحة على اللغة والمفاهيم العولمية وبناء المستقبل .. وان كلا من الركيزتين لابد أن تتوفرا عند اغلب المثقفين الجدد الذين يفترض ان يتخلصوا من رواسب ما نشأوا عليه في القرن العشرين ومن مواريث ما اعتادوا التقليد عليه منذ أزمان ..ومن الرضى بالواقع للانتفاض عليه وتغييره ، فضلا عن التوصل إلى قيمة المدركات الجديدة وخطورتها ..
أي باختصار : الشعور بمسؤولية الأجيال العربية المعاصرة إزاء الأجيال العربية القادمة التي ستتوالد أمامها مشكلات ومعضلات لا حصر لها ، وربما كانت هذه جميعها بمثابة مسببات حقيقية لانقراض جملة من المقومات والقيم والمعاني الثقافية والاجتماعية العربية التي توارثها الآباء والأجداد على امتداد الأجيال في التاريخ .
كل ذلك ، سيسبب لا محالة مستقبلا : وصول النخب العربية المثقفة وفي مقدمتها : المبدعون العرب إلى درجة متدنية من الإحباط النفسي والتقهقر الثقافي ، وخصوصا في ظل المتغيرات السريعة للعالم اليوم والتي تترافق جنبا إلى جنب حالات المترديات العربية السياسية والاجتماعية والاقتصادية 0
ثمة علل ومسببات داخلية وخارجية قوية جدا لابد من تشخيصها عند تمفصل القرنين العشرين والحادي والعشرين كانت ولم تزل تخلق فوضى قيميه وفكرية على مستوى الذات والموضوع عند العرب بشكل خاص وعند المسلمين بشكل عام مؤداها : إشكاليات الوعي بالتقدم وطبيعة فلسفته وفهم الزمن وسيرورته في الحاضر والمستقبل ، ثم كيفية معالجة المشاكل السياسية والمعضلات الاجتماعية والاقتصادية التي ستخلقها الظروف القادمة على مستوى التكوينات التربوية والمعايير الفكرية والتداخلات القيمية والاخلاقية بين المألوف من المورثات وبين المنهمر من المستحدثات .. وعدم القدرة في الفصل لبلورة مواقف واجتهادات وأفكار وفلسفات وركائز ورؤى جديدة تعد بمثابة تأسيسات للمعاملات مع صيغ المستقبلات القادمة التي هي بأمس الحاجة إلى المهارات والتفاعلات بعيدا عن الإنشائيات والوعظيات والمخاطبات (بصيغة: مع أو ضد ).. وليس من السهولة ـ كما أعتقد ـ أن يتم خلاص العرب بالذات من ركام المثالب والمورثات الخاطئة من النواحي الاجتماعية والثقافية والتربوية التي زادوا من الفتهم لها على مستوى خطايا الصناعة الخطابية ـ الوعظية والإنشائية ـ الأدبية والتربية ـ الانقسامية والاعلامية ـ الكاذبة بعيدا جدا عن المنتجات المعرفية ـ الفكرية والعملياتية ـ العلمية والبراغماتية ـ المهاراتية والبيداغوجية الموحدة .. الخ
إنني أجد ـ وربما كنت مخطئا ـ إن العرب كلما تقدم بهم الزمن في القرن العشرين ، كلما اغترب تفكيرهم عن حياة العصر وهمشوا تاريخهم الحافز ليزيدوا من ثقل تعلقهم بتاريخهم العبء .. وواضحة هي الفروقات الساطعة بقرائنها بين ما كان عليه تفكير العرب وهم يستقبلون قرنا جديدا قبل حوالي مائة سنة .. وبين ما غدا عليه تفكير العرب اليوم وهم يستقبلون القرن القادم ؟ ولعل كل التحديات الثقيلة التي كانت مسيطرة على العرب قبل مائة سنة قد وجدت استجابات حقيقية ونضالية باهرة من لدنهم من اجل كبح جماحها .. وكانت تحديات قوية وبالغة الخطورة مقارنة بما يصادفه العرب اليوم من تحديات ليس باستطاعتهم فهم اشكالياتها ومعضلاتها .. فكيف باستطاعتهم إيجاد استجابات الحد الأدنى بالاصطدام بها ؟؟ علما بأن ما حصل عليه العرب من مكتسبات تاريخية في القرن العشرين كانت كافية من اجل تأهيلهم ليس لأحداث استجابات لمجموعة من التحديات الصعبة ، بل لجعلهم في قلب دائرة العصر ومركزيته التاريخية ! وهذا ما لم يحصل ـ مع الأسف ـ لا عند الجيلين العربيين السابقين ولا عند الجيل الحالي الذي سيتخضرم بين قرنين وهو يعيش اليوم حياته في أقسى الحالات !
إن معاناة الجيل الجديد الذي سيستقبل القرن الحادي والعشرين ، معاناة مركبة ليس من السهولة أبدا إيجاد حلولا سحرية لها كما يتوهم أبناء اليوم من الكتاب والمفكرين والمثقفين العرب .. وهذا جزء من التكوين التربوي والعلمي الخاطئ الذي تربوا عليه ، ناهيكم عن الإعلام المزيف الداخلي والخارجي الذي ألفوه في حياتهم المزدحمة بفوضى السياسات المقنعة بالمثاليات وفي ظل الانهماكات والتحزبات والايديولوجيات .. وفي فضاء عارم من يوتوبيات المطلقات بعيدا عن التفكير النسبي للأمور .. وفي غابة من كثافة التناقضات والانقسامات التي لا تعرف غير الثنائيات بعيدا عن فرص الحوارات الحقيقية والديمقراطيات والتعدديات وتكافؤ الفرص والمؤهلات والدفاع عن الاحسن دوما .. وفي اغرب ما عرفه العرب في تاريخهم من الاستهلاكيات ليس المادية والمعيشية والتشيؤات ، بل استهلاك الكلمات والمصطلحات والاطنابات وإنشاء الكلمات والأشعار وتلوك النصوص والشعارات بدءا بالخطب الوعظية وانتهاء بقصيدة النثر . وخروج الجميع بمجموعة هائلة من التوليفات يستعرضون بها العضلات كونهم يمتلكون الرصيد الأعظم من الإيجابيات التي تحقق لهم ( التقدم ) على مستوى الموضوع والذات ، دون علمهم بما هم عليه من المتوهمات بالنسبة للتفكير أو الزمن أو الحياة !
إن العرب عند نهايات القرن العشرين وقد توفرت أمامهم العديد من الفرص والإمكانات الحديثة كالمستقبلات الإعلامية والثقافية الخارجية ناهيكم عن شراسة الصدمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية والخارجية التي تضعهم فعلا في موقع التفكير الواقعي الجاد للأمور على مستوى القيادات والأفراد والنخب والجماعات وحتى المجتمعات والشعوب من أجل هندسة التفكير أو ( على الأقل ) : إعادة التفكير بما هو حاصل أو ما سيحصل لهم على امتداد الثلاثين سنة القادمة .. وعلى العرب ألا يعولوا على الزمن القصير في حدوث التقدم والتطور والتحديث الذي هو بحاجة ماسة إلى عاملين أساسيين : أولهما : الزمن الطويل القابل لإحداث عدة متغيرات فيه من خلال التجارب المدنية الحديثة ، وكل متغير له عدة تجارب ، وكل تجربة لها زمنها 00 وثانيهما : تنوع العوامل المساعدة في إحداث المتغيرات سياسية كانت أم اجتماعية أم اقتصادية أم ثقافية ..
وعليه ، فلا يمكن أن تبقى ذهنية العرب في الخمسينيات والستينيات هي المسيطرة على التفكير العربي حتى يومنا هذا ، والتي تقول بأن الانقلابات العسكرية والثورات السياسية هي المبررات الأساسية لصناعة التقدم والنهضة ! تلك ” الذهنية المركبة ” التي آمنت بأن مجرد إحداث تغيير سياسي من خلال الشارع أو العسكر أو الكسبة الكادحين البروليتاريين .. فستنقلب الأمور وتحرق المراحل في لحظة تاريخية واحدة من : التخلف والجهل والمرض والاستعمار والتبعية إلى التقدم والرفاهية والعدالة والاستقلال والعظمة .. الخ . بمعنى : أن وهما ضاريا كان ولم يزل يسيطر على الذهنية العربية ينعدم فيه القياس والمنطق للزمن وبناء القوة وهندسة المصالح وتحقيق الأهداف المصيرية على مهل شديد .. إن كل ما ازدحمت به الذهنية العربية المعاصرة لم يوصل أبدا لتحقيق الحد الأدنى من تلك القوة والمصالح والأهداف الضرورية والمصيرية مما أضّر كثيرا بمستوياتهم في إطار المشروع النهضوي العربي الحديث .
إن الجيل العربي الجديد من الشباب سيغدو مؤهلا وقادرا على العطاء وتولي زمام المسؤولية في الثلاثين سنة الأولى من القرن القادم إذا ما توفرت له الرعاية والإمكانات والتكوين البرغماتي/ المهاراتي القوي . وانه سيختلف لا محالة في تفكيره وثقافته ومنتجاته عن أجيال القرن العشرين ؛ وستتعرض الثقافة العربية لمجموعة كبيرة من المتغيرات إزاء تحديات العصر والتصادمات في ظل التدفق الهائل للمعرفة والمعلومات مع قوة شبكة الاتصالات والتلاقي مع بقية الثقافات . ويبدو واضحا أن نوعا جديدا من الزعامات والقيادات السياسية العربية ستفرض نفسها في الميدان ، وتأخذ زمام المبادرة مع بدايات القرن الحادي والعشرين .. وان اغلب من يمثل هذا ” النوع” هم من جيل الشباب الذي ينتظر مغادرة ” النوع” السابق من الزعامات والقيادات السياسية العربية مواقعهم ، خصوصا أولئك الذين حكموا أو تبوؤا المسؤولية قرابة الثلاثين سنة الأخيرة من القرن العشرين .. وهذا ينسحب أيضا على بقية المواقع والهياكل والمؤسسات والأجهزة والمرافق والقواعد.. مقاربة للمصالح المشتركة والمنافع المتداولة على حساب السياسات المختلفة والحدود الثابتة ، وان ضرورات العرب في القرن القادم ازاء التحديات القوية المتنوعة ستجعلهم ـ دون شك ـ يخطون خطوات حقيقية على هذا الطريق التي ستوصلهم في النهاية الى الحلم المصيري المنشود الذي عاش في الضمائر والعقول عشرات السنين على امتداد القرن العشرين .
إن من الواجب والضرورة القصوى : التأكيد على أهمية التفكير بمستقبل الجيل القادم من خلال تنمية تفكير أبنائه وتطوير عقلياتهم وأذهانهم ليكونوا قادرين ومؤهلين على تحمل مسؤولياتهم ليس في الحفاظ على القيم النبيلة والأصيلة حسب ، بل لتأسيس توازنات اجتماعية وثقافية بالدرجة الأولى بين المألوفات والمستقبلات في ضوء المتغيرات السريعة التي بدأت تجتاح العالم كله عند نهايات القرن العشرين وباستمرارها المتفوق فوق العادي نحو القرن القادم . ومن المسائل التي يتوجب الانتباه إليها ، تلك المنتجات التي ستولّدها المتغيرات الجديدة وستشهدها الساحة العربية ، ومنها : انكماش القرار السياسي للزعماء والطواقم القيادية والعسكريتاريا والدكتاتوريات أمام القرار الجماعي والمعرفي للنخب والمستويات والتعدديات في مؤسسات المجتمع المدني الديمقراطي العربي .. وذلك كله هو بمثابة : تحصيل حاصل لا محالة للقسم الاكبر من القسمات العربية ، بفعل التطورات السياسية والفكرية والثقافية والاجتماعية والإعلامية في عموم العالم العربي .. وهي تطورات ستخلقها عوامل خارجية وداخلية نتيجة ما يجتاح العالم من المتغيرات وقوة البدائل المتاحة التي ستجرف كل الجامدين والمتخندقين والمتمترسين والمتساكنين والمثاليين والطوباويين والخياليين والمتواكلين والرخويين والتقليديين والشعاراتيين والانقساميين والسلطويين والمزيفين والروتينيين والتكفيريين والرومانسيين والانشائيين ووعاظ السلاطين .. الخ ذلك لأن الجيل القادم سيقع تحت وطأة عاملين قويين أساسيين : أولهما ، حجم المتغيرات العولمية الخارجية الثقيلة النافعة والضارة كتحديات يعجز كل الذين ذكرناهم عن صدها أو إيقافها أو التعامل معها على درجة من القوة والمقدرة والإحكام والتوازن والكفاءة . وثانيهما ، ثقل المشكلات والأزمات والمعضلات الداخلية القادمة : الديمغرافية والأرض والماء والغذاء والحدود 00 وأزمات السكن والعيش والعمل والعلاقات بين الأفراد والمرأة والطلبة وتربية النشء والتعليم والنشر والرقابة والحدود والإعلام والتدريس في المدارس والجامعات .. الخ فما بالك بالواقع ومستشرياته وبالتفكير بكافة الامور المطروحة او التي ستطرح وبالذهنية القادمة والحاجة الماسة الى مجموعات من التشريعات والقوانين وفقه المعاملات وتنمية مؤسسات المجتمع التعاونية مع ما هو في الواقع ومع ما هو في اطار المستقبلات .. مع ثمة موسوعة ضخمة من الاجتهادات والاقتراحات والبدائل لمختلف الحاجات .. مع السعي الحثيث لرفض أوتقبل الأشياء وتكييف الحياة بالمحددات والنسبيات بعيدا عن التوفيقيات والمطلقات .. علما بأن ما سيطرأ على حياتنا في المستقبل القريب ( لا البعيد ) لم يكن له أي وجود في القرن العشرين ! وان الحاجة ماسة للتربويات العربية الرصينة الجديدة ازاء الثقافة العولمية المتغلغلة وتأثيراتها وتداعياتها ، فضلا عن ايجاد حلول ومعالجات لمخاطر :السياحة والجنس والزيجات والطلاقات وفوضىالعلاقات القيمية والانغماس في التشيؤات المادية واستخدام المستحدثات الجينية والطبية والفسيولوجية .. الخ وكلها وغيرها من القضايا الحيوية التي تهاجم المجتمعات الاسلامية قاطبة وغيرها من المجتمعات والتفكير في تلك ” القضايا ” وبتأثيراتها كل يوم ، والتي تتوالد عنها مشكلات اكبر لا تجد أبدا من يعالجها بنفس القوة والقدرة والمساحة والكفاءة . ان الفرص والاجهزة والوسائل العربية المتاحة اليوم قادرة على استيعاب كل منتجات العولمة ، اذا ما استغلت استغلالا طبيعيا وذكيا وعلميا بارعا ، ولكن هذا لا يحدث ـ مع الأسف ـ لانشغال اغلب ما وفرته الحياة والامكانات العربية بالملهيات العقيمة والادبيات المؤدلجة والأحاديث السقيمة والمنصوصات الانشائية والوعظيات الساذجة! ولابد لي وانا أقترب من النهاية أن احدد بعض الرؤى التي أزعم انها تنفع كثيرا في بلورة فهم عربي مستقبلي للتاريخ والثقافة من جانب وللازمنة والعولمة من جانب اخر :
1. اعادة التفكير ببناء المستقبل بواسطة اليات منهج ثقافة واقعية ترتبط باصالتها الى الحد الذي يمكنها من رعاية توجهات العصر وبفعاليات عالية المستوى وذهنيات محللة وليست مركبة ، ومنفتحة وليست منغلقة .. وباستطاعة التفكير الجديد ان يلغي بعض ما يدور العرب في خضمه اليوم ، كي يستحدث ميادين وحقول ثقافية ومعرفية واعلامية جديدة ، وسيكون للعرب دورهم المضيىء في تحديث ثقافتهم المعاصرة وتطويرها جدا .
2. تحديد قوة المستقبلات الثقافية والاعلامية عربيا بواسطة تطوير الاليات والوسائل والادوات والمناهج والبرامج .. بالاعتماد على القوى العربية الجديدة ، اذ يكفي القوى العربية القديمة مزاولتها المسؤولية على امتداد 30ـ 40 سنة ، اذ لابد ان تغادر ميادينها كي تتسلمه كفاءات الجيل الجديد من اجل فتح صفحات تاريخية جديدة لها القدرة في التعامل مع المستقبلات العولمية القادمة .
3. ان القوى العربية الجديدة القادمة لابد ان تتنفس وان تعمل وان تتفاعل وان تنتج في مناخات حرة وديمقراطية في جميع الميادين بدءا بالقواعد والمدارس والبيوت انتقالا الى الاجهزة والمرافق والمؤسسات وصولا الى السلطات العليا 00 وان تلك ” المناخات ” لا يوفرها الا البناء الديمقراطي 0 وان هذا ” الاخير ” لا يعمل بشعارات وعناوين ومضامين حسب ، انه بحاجة ماسة الى انسان ديمقراطي حر !
4. ولايمكن للبنى والانساق الاجتماعية والثقافية العربية ( والاسلامية ايضا ) من العمل والاستمرار في الحياة المألوفة بمختلف تعاليمها وقوانينها التي مضى عليها عشرات السنين ، فلابد من استحداث تشريعات وقوانين جديدة تتفق فيها مجالات الحياة الجديدة مع روح العصر اولا ، وواقع الحياة ثانيا .. وبالامكان الاستفادة من مبدأ ( المصالح المرسلة ) وثمة قاعدة في الفقه الاسلامي تقول بأن ” تغير الاحكام بتغير الازمان ” .. وهنا يستطيع كل من الدولة والمجتمع العربيين التحرك داخليا لمواجهة مصاعب المستقبل .
واخيرا ، أود القول بأن ما تقدم في اعلاه هو مجموعة من الافكار والمقترحات التي تتضمنها:إجابات أجدها أساسية وضرورية لسؤال ما دام يفرض نفسه علينا مناديا : ما العمل؟

شاهد أيضاً

انقسام العالم الإسلامي والتصدعات الاجتماعية في الشرق الاوسط… 2007 جواز مرور صعب

مختصر مترجم للمحاضرة التي القاها الاستاذ الدكتور سّيار الجميل في منتدى دراسات المستقبل المنعقد في …