انبرى البعض يناقش هذا ” الموضوع ” ، فظهرت أمامي نقائض تفكير لا يمكنها أن تستوي عند أناس يعيشون هذا العصر .. فهم ما زالوا يحملون ترسبات ما تربوا عليه قبل خمسين سنة .. بل وقد تأثروا بالموجات السياسية الساخنة التي تعم منطقتنا ، وهم يحملونها بالرغم من كونهم يعيشون وراء البحار .. بل ووجدت أن التفكير في ظواهر كبرى يقيسونه سياسيا كما لو كانوا يطوفون على أمواج الأحداث اليومية ! وجدتهم يتعصبون .. فكل حضارات البشرية خواء إلا حضارتنا ، وإنها حية ترزق وغير متوقفة عن النمو ! قلت لهم : حضارة عالم اليوم تكنولوجية ومعلوماتية ومعرفية وهي ظاهرة نظم ومؤسسات متطورة ! قالوا : إنها لا تلاؤمنا .. قلت لهم : طيب لا تستخدموا معطياتها وارجعوا إلى أوطانكم إذن .. ما الذي تفعلونه هنا ؟ قالوا : نحن جئنا هنا لنبشر لننتشر ونجعل الأرض جزءا منا ونغّير البشر . قلت : وكم ستطول مهمتكم ؟ قالوا في غضون 10- 20 سنة فقط ..
التفت إليهم احد العقلاء ، فقال يا صحبي إنكم تتكلمون سياسة وضيفنا الكريم يتكلم حضارة .. سكتوا ، ثم هب احدهم وقال : لماذا وصفت حضاراتنا الإسلامية بالحضارة العربية الإسلامية ؟ قلت : هذه ليست مشكلة ، فالتسميات متعددة ، ولكن كل معطياتها ومنجزاتها وتراثها .. كتب بالعربية سواء كان صناعها عربا أم كانوا من غير العرب !
قال احدهم : وكيف ستفتقد الجاليات هويتها ـ كما ذكرت ـ ، فنحن سنكبر في هذا العالم ونسيطر عليه .. قلت له : نتمنى أن نكبر في هذا العالم بعلومنا وإبداعنا وفنوننا ، ولكن ليس لنا الحق في السيطرة على الآخرين . قال : لماذا ؟ قلت له : اسمع إننا سنرحل ويأتي جيل من بعدنا مزدوج الهوية والانتماء هنا في ارض الشتات .. وبعد اقل من ستين سنة ، سيأتي أحفادنا وقد افتقدوا كل انتماءاتهم القديمة إلا ما يعلق في أذهانهم من ذكريات الآباء والأجداد كما هو حال عرب أمريكا الجنوبية الذين هاجروا إليها في القرن التاسع عشر .. أيّدني أحدهم ، ولكن عارضني أكثر من واحد بحجة أن العالم أصبح صغيرا ، وان المستقبل لنا ، وأننا نغزو الغرب في عقر داره ، وان الغربيين سيتلاشون ويضمحلون !!!
أطرقت قليلا إلى ما يسود من تفكير راهن اليوم في حياتنا العربية والإسلامية .. قلت لهم قبل أن اختتم الجلسة : لا تتوقعوا أبدا أن العالم سيصبح بين أيديكم حتى ولو استخدمتم أحسن الأساليب ، فكيف بأبشعها ! وان حضارة العالم التكنولوجية اليوم لا يمكنها أن تتراجع على حساب ما تفكرون به ! وان من يريد أن ينسجم مع العالم ، فلا يهيمن عليه، بل ينفتح على الشعوب لا أن ينغلق لوحده بأزيائه وتقاليده .. وان من يريد أن يبني له حضارة في الدنيا ، فليرجع من حيث أتى .. يرجع إلى بلاده ليخدمها ليل نهار .. وليصلح مشاكله الداخلية الكبيرة قبل أن يصدر شعاراته إلى العالم .. العالم سوف لا يلتفت إلى أناس خاملين لا يعملون ولا يعرفون ماذا يريدون ! نحن اليوم بأمس الحاجة إلى بناء الإنسان في مجتمعاتنا ، وان نؤمن بأن الأيام تتداول بين الناس .. على دولنا ومجتمعاتنا مهام عدة في إصلاح نظمها وتربويات أبنائها وتحديث حضارتها وتنمية تفكيرها .. إنها مدعوة إلى تحسين ظروف الإنسان وأساليب عيشه وكرامته وتحصيل حقوقه قبل أن تتخيلوا أنكم ستسيطرون على العالم .. إذا كنتم تؤمنون بقصة الحضارة ، فاعلموا أن أمما وشعوبا على الأرض .. كلها تسعى من اجل تحقيق رؤية ابن خلدون في الذي اسماه ” العمران البشري” . فهل اتسّع أفق تفكيركم قليلا وقرأتم عمق ما يريده الرجل رحمه الله ؟ أشكركم جدا ، فلقد تعلمت على مدى الساعتين الشيء الكثير .
نشرت في البيان الاماراتية ، 7 اكتوبر 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com