Home / محاضرات / طبيعة العلاقات الثقافية : العراق ومصر : جدلية الاقطاب

طبيعة العلاقات الثقافية : العراق ومصر : جدلية الاقطاب

المحاضرة التي القاها الدكتور سيّار الجميل
في جامعة الزقازيق بمصر
بتاريخ 15/2/1990..

إيضاحات منهجية :
ان طبيعة العلاقات الثقافية المعاصرة بين المثقفين العراقيين والمثقفين العرب ، وتداخل عناصرها، وتحليل بعض جوانبها الغنية، والمعقدة معاً ستلقي المزيد من الاضواء على التكوين العربي المعاصر، وستبقى هذه المعالجة النظرية غير مكتملة الأبعاد إذا ما عرضت بمثل هذا الاختزال ، اذ تدعو الحاجة والضرورة الملحة الى المزيد من الدراسات الموضوعية على العلامات الثقافية العربية الفارقة التي عاشتها الاجيال السابقة في القرن العشرين تاريخياً ومن خلال الأساسيات المتاحة، ومن خلال تفصيلات أو مقابلات مقارنة بين الآني والتاريخي، فالموضوع واسع الأبعاد وراسخ المضامين، وستفتح أية دراسة من هذا النوع، الباب على مصراعيه لانتواب العديد من المواضيع ضمن سياق هذه العلاقات التي لم تتم دراستها عميقا بعد ، ولكن ضمن أكثر من منهج واحد أو حقل تخصصي واحد.
أما الاستنتاجات، فهي حصيلة من الرؤى المستقبلية للعلاقات الثقافية بين البلدان العربية التي ستخدم مستقبل الثقافة العربية في القرن الحادي والعشرين ، متخذة من الأساسيات التاريخية والمضامين الثقافية، مجال انطلاق في التكوين التاريخي لمستقبل العواصم والمدن العربية التي كان لها دورها المؤثر والمشترك في تاريخ الحضارة العربية قديما وتاريخ النهضة العربية حديثا ، وفي رفد الإنسانية بشتى صنوف المنتجات الثقافية المتميزة .
تعتبر العلاقات الثقافية العراقية ـ العربية ، قضية نوعية في بلورة عناصر مشتركة في الإصلاح والتحديث والنهضة، باشتراك ثنائيات من العوامل والرجالات والامكانيات التراثية والتحديثية معاً في السيرورة والبناء، ومدى إسهام الوسائط الحديثة لدى كل من الطرفين في تعميق الوعي السياسي والمسألة القومية في القرن العشرين إذ برزت لأول مرة ، قيم معينة نتيجة لتبني سياسات اجتماعية / اقتصادية بعينها إضافة إلى شراكتهما التاريخية في المشاريع القومية والسياسية، ونضالهما المشترك ضد القوى الإمبريالية ، وما قاد إليه الفهم القومي في التطبيق على أرض الواقع من معالجات وطروحات وأفكار وأدبيات وممارسات ومجادلات، وما أفرزته الحوادث التاريخية / الوطنية لكليهما من نتاجات أدبية، ومعطيات فنية، وميول اجتماعية، وعواطف سايكولوجية مشتركة، أثرت جميعها تأثيراً بالغاً في التفكير القيادي المعاصر وذهنية الجيل الجديد باتجاه الوعي المشترك، واقترابات الثقافة، وسيرورة التقدم. وبرغم ذلك كله ، فان النتائج التاريخية لكل ذلك لم تكن ناجحة فلم يزل مأزق كل من الوعي السياسي والمشكلة القومية سياسيا يعاني من احراجات لا تحسد أمة العرب عليها ، نتيجة الانقسامات السياسية التي عانت منها هذه الامة والتي أثرت عليها تأثيرا بالغا ليس على مستوى الخطاب والممارسة السياسية ، بل حتى على مستوى التفكير والثقافة والمجتمع .. وليس الخطيئة قابعة عند القادة والمسؤولين العرب انفسهم حسب ، بل تكمن الخطيئة في هذا المجال عند المثقفين العرب قاطبة وخصوصا عند حملة الايديولوجيات القومية الذين طرحوا مشاريعهم السياسية بعيدا عن فهم الخصوصيات التاريخية والاجتماعية والثقافية لكل اقليم من اقاليم الامة ، ومعالجة المشكلات الداخلية وفهم كل طرف لظروف الطرف الاخر قبل الدعوة الساذجة الى الاندماجيات السريعة .

الالتقاءات والافتراقات بين مصر والعراق
ولعل ما تقدم من تنظير ، ستشير براهينه أدناه، وبوضوح إلى متانة الجسور من الروابط والعلاقات بين الطرفين / القطبين، وسيفصح بأمثلته ومقارباته ومقارناته عن تناغم المعادلة في المنطق العربي الثقافي ومقارباته من اجل الفهم بعيدا عن التنطع بالخطاب الموحد، وليس الذي تعلنه الشعارات السياسية والدعائية والايديولوجية الديماغوجية الماكرة ، بل ذاك الذي تلتزمه النخب المثقفة الحية حسب، علما بأن ذاك الذي أعلنه الشارع السياسي، والمشروع النهضوي، والبيوت الشعبية حول القومية العربية واسماء ومظاهر رردتها الحناجر هنا وهناك على مدى عقود طويلة من الزمن المعاصر/ بل وتغنى بهما الكبار والصغار/ ما كتبته الصحافة ما أنتجته المطابع/ ما أذاعته الخطب والإذاعات/ ما أطلقته المظاهرات في الشوارع/ ما تحدثت به الناس في المقاهي والبيوت/ ما تغنى به الشعراء والكبار من الفنانين والمطربين/ ما تربى عليه الطلبة من الأناشيد، إلخ كله قد وظف سياسيا دعائيا من اجل علاقات انظمة معينة في ظروف معينة وليس ثقافيا حيويا من اجل مجتمعات عربية معينة تسعى لبناء مصالح عليا للامة التي تجتمع على ارضها كل التنوعات والتعدديات القومية والدينية والمذهبية أبا عن جد .. ويكفينا ان نتوقف عند الاغنيات والقصائد المصرية التي حفلت بالعراق بدءا بمحمد عبد الوهاب الذي غنى ” يا شراعا ” للملك فيصل الاول وصولا لعبد الغني السيد الذي غنى ” بغداد يا بلد الرشيد ” وانتهاء بام كلثوم الذي غنت عدة اغنيات وقصائد ثورية للعراق عقب ثورة/ انقلاب 14 تموز 1958 ومن أشهرها : ” ثوار ثوار لآخر مدى ” ، و ” بغداد يا قلعة الاسود ” .
وتأسيساً على هذا الطرح، فإننا لا نقبل بالتنظير الضيق الذي ينأى عن المصالح الثقافية المشتركة، كي يربط ذلك بـ” الإقليمية” أو “الماضوية” أو بـ” الطبقية”، فقد كان الإبداع في العلاقات الثقافية بين العراقيين والاخرين من العرب قد انبثق قديماً وعريقاً، أصيلاً ونبيلاً، بمنأى عما تقدم حتى في “المعارك الأدبية” التي نمت عن روح علمية وأمينة واحترام متبادل، فلقد كان ” الإبداع” المشترك ولم يزل ، يعبر عن الآمال والأحلام النهضوية، وحظي بالقبول في الأوساط العديدة، وغدا علامة بارزة في تاريخية الثقافة العربية الحديثة ومجالاتها المتنوعة، وقد استمرت افرازات ذلك حتى في الحالات التي تباعدت فيها الحكومات خلال عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين عن روح التضامن العربي، لقد استمر التمازج الثقافي والفهم المشترك من خلال الوسائل الإعلامية والصحافة والهجرة الأدبية والسياسية. لابد لي ان اقول بأن العلاقات المصرية ـ العراقية مّرت عبر التاريخ بحالات لا تحصى من التوترات والاخفاقات نظرا لكون البلدين يمتلكان تواريخ كلاسيكية حضارية ، وكانت عيون كل منهما تجاه الاخر .. وقد لاحظت بأن التلاقح الحضاري بين الطرفين كان اثرى من الافتراقات السياسية .. لقد شهدنا حالات من تفاقم حرب باردة بين سياسات كل من العراق ومصر في القرن العشرين .. وان الضرورة التاريخية تقضي بدراسة المخفيات والمسكوت عنه في افتراقات البلدين سياسيا . واستطيع القول من خلال دراستي المتواضعة للتاريخ المقارن بين مصر والعراق ان مصرا دوما ما تتدخل في الشأن العراقي على عكس السياسة العراقية التي لم تتدّخل ابدا في الشأن المصري .. علما بأن الدور القومي الذي اضطلع به العراقيون على امتداد نصف قرن لم ينظر الى مصر كمنافس تاريخي على عكس الدور القومي المتأخر الذي البسه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لمصر جعلها تنظر الى العراق كمنافس تاريخي .. وهذا ما يمكن رصده من مقارنة ادبيات كل من البلدين الاثنين ، علما بأن العراقيين دوما ما كانوا يعتبرون مصر قلب الامة العربية على عكس الاخوة المصريين الذين يعتزون بالعراق والعراقيين ولكن لا يعتبرون العراق قلب العالم الاسلامي .. وثمة اسباب مخفية حول طبيعة هذه الافتراقات تفصح عنها التباينات الاجتماعية والمذهبية والعرقية والثقافية والتاريخية ..

ما المطلوب عمله من اجل بناء تاريخ جديد ؟
إن جيل اليوم من الشباب الساعي لافتتاح مرحلة جديدة وهو عند بدايات القرن الحادي والعشرين، عليه أن يفهم طبيعة تلك العلاقات الثقافية وعلى جانب من ترسيخ الرؤية، وتحليل المضامين، واستكناه الأبعاد، وتحقيق ما غاب ذكره ومعرفته من الأدوار والعناصر والعوامل والحركات ومختلف الإشكاليات، إذ أن العلاقات الثقافية بين العراقيين وغيرهم من بني جلدتهم العرب، ليست بآنية، بل هي انعكاس حقيقي مرئي لتاريخ مشترك طويل، وغني عريق بينهما، برغم بعض الاختلافات التي بلورتها عوامل جغرافية وبيئية، وظرفية سياسية، علماً بأن المتشابهات هي كبيرة في سيرورة تكوين كل من البلدان العربية خلال النصف الأول من القرن العشرين، إذ يحيلنا ذلك إلى : التحديثية والإصلاحية، الوطنية والقومية، الأحداث التاريخية، الأحزاب السياسية، النخب المثقفة، الصحافة والمساجلات، التربية والتعليم.. إلخ.
إن التراتبية في السياق التاريخية لتطور كل الاطراف العربية سياسياً، قد انعكس بفعالية وحركة سريعة على واقع العلاقات الثقافية بينهم، وبالرغم من الفوارق الثقافية والاجتماعية التي كانت بين العرب خلال القرن التاسع عشر، إلا أن الاقتراب بينهم قد وفره المناخ السياسي ( = الوطني / النهضوي ) للقرن العشرين، سواء أبان سنوات التخضرم الاستعماري، أو بعد خروج العرب من أزمة الاستعمار البريطاني، ثم بناء الدولة والمشروع الوطني ( = محاولات التحرر الوطني)، ثم قيام الثورات والانقلابات العديدة ومحاولات العرب الفاشلة في بناء الدولة القومية (= التغيير الاجتماعي والمنحى الاشتراكي والتحرر السياسي ثم التأسيس المعاصر وسياسة التعاون القومي المشترك ).
دعونا إذن ، نحلل بعض الجوانب الأساسية من طبيعة العلاقات الثقافية التي ربطت العراق بغيره من البلدان العربية ، وخصوصا مصر وبلاد الشام :
المكتسبات التاريخية :
في الإرث النهائي لتاريخية الطرفين ، يمكننا تحديد المكتسبات التاريخية لهما، والتي كان لها الدور المؤثر والفعال في ترابط العلاقات الثقافية ومعطياتها الحديثة وإنتاجيتها الرصينة:
1. يتوضح من خلال الاطلاع على العشرات من التحقيقات الارثية الأصيلة، والأعمال التاريخية المختصة في كلاسيكيات مصر والعراق مثلا ، سواء عند العلماء والمؤرخين من عرب ومستشرقين : أن مقارنات تاريخية كثيرة قد أجرتها الدراسات المختصة في التواريخ السياسية والحضارية/ القديمة والوسيطة بين البلدين ، وفي حقول متعددة سواء كان ذلك في أساليب الحكم، أم إعمار الدول، أم الحضارات، أم الفنون والعمارة، أم الأساليب الثقافية والأنظمة الاجتماعية، أم العمق الجغرافي / الاستراتيجي أم الانتشار الديني، أم التأثر الاقتصادي، أم في تعاقب الأحداث وتسلسلها بدقة ثم مؤثرات كل ذلك في تكوين الأمة العربية وعلى امتداد شراكة التاريخ بين القطبين.
2. يكاد يكون القرن التاسع عشر، هو أضعف مرحلة تاريخية ، ابتعدت خلالها العلاقات بين الجانبين، بل وغدت واهية لم تشهد مثلها بقية العصور التاريخية، نظراً لعزلة العراق بولاياته الثلاث، وارتباطها بعمليات الإصلاحية العثمانية، في حين كانت مصر قد بدأت على يد واليها محمد علي باشا سياسة تحديثية في جميع مرافقها وميادينها، فاقتربت منها بلاد الشام من جانب، وبلاد المغرب العربي من جانب آخر، في حين ابتعد العراق عنها قرابة قرن كامل تاريخياً ونهضوياً، ولكن اللقاء بين الاثنين، سيتجدد وعلى درجة كبيرة من التلاقح والفاعلية عند مطلع القرن العشرين وعلى امتداد عقوده الخصبة.
3. كان للأحداث التاريخية البارزة في أي طرف، مؤثرات بالغة لدى الطرف الآخر، فلقد أثر – مثلاً- فتح قناة السويس عام 1869م كثيراً على اقتصاديات العراق الذي كان يربط شرق العالم بغربه، فضعفت أدوار التجارة بأسواقها ومسالكها في العراق خلال القرن التاسع عشر، وبالرغم من ضعف العلاقات الثقافية بين أبناء البلدين، إلا أنها لم تنته، وكان للظروف القاسية التي عاشوها تحت وطأة مستعمر مشترك واحد، مارس أكثر من سياسة في التعامل مع سكان بيئتين أساسيتين في مجتمع عربي واحد، ولكنه تعامل بنفس الصيغ الاستعمارية مع مثقفي البلدين ونخبته السياسية والوطنية المشتركة في همومها وقضاياها القومية، علماً بأن الوطأة العثمانية القديمة كانت مشتركة هي الأخرى في عملياتها وترسباته التي كرست شبه قطيعة بين الطرفين، وجعلت السكان لا يعرفون ما كان يدور في حواضرهم، إنها مرحلة الانقطاع والتخلخل الثقافي.
4. أما حضارياً، فإن العلاقات التاريخية بين الاثنين لم تقتصر على جوانب سياسية ودولية، بل كانت ذات طابع حضاري له عراقته وأصالته معاً، وتكاد تكون أقدم علاقات حضارية وثقى في تاريخ البشرية القديم، ومنذ فجر الحضارة الإنسانية حتى يومنا هذا. وأبرزها : انتقال عناصر حضارية من العراق نحو مصر في بداية الألف الثالثة ق.م. وفي القرنين الخامس عشر والرابع عشر ق.م. وفي النصف الأول من القرن السابع الميلادي، تبدأ مرحلة جديدة مثلتها الوحدة العربية الإسلامية التي ازدهر فيها المجتمع العربي، واتصلت صفاته، وقويت روابطه الحضارية، وتقاربت عاداته وتقاليده وفي إطار ثقافة موحدة في الصيرورة والتكوين.
05 وكان أن غدت كل من بغداد والقاهرة من أبرز المراكز الحضارية، وعاصمتين للخلافة العربية – الإسلامية على مدى قرون عديدة، لقد استطاعت القاهرة أن تحتضن الخلافة العباسية في ظل المماليك بعد سقوط بغداد بيد المغول عام 1258م، إثر كسر الشوكة المغولية / التتارية في معركة عين جالوت، فاحتفظت مصر التوأم التاريخي لبغداد بالإرث العربي الإسلامي سواء ما اختص بشرعية الملك العربي وثقافة المجتمع العربي، وامتلكت مركزيتها الثقافية، علماً بأن كلا من العراق ومصر قد امتلكا على امتداد التاريخية العربية أكبر الدول، وأبرز النظم، وأثمن العناصر اجتمع فيهما وحولهما خلاصات العصور.

ماذا نستنتج ؟
يبين لنا كل ما تقدم ، إن الشخصية الثقافية المشتركة بين المصريين والعراقيين كان لها من الوجود التاريخي المؤثر، ما جعلها تتمكن طوال أحقاب طويلة، من التمييز والخصوصية، ورفض أي شكل من أشكال الاندماج المفروض أو الهيمنة المسيطرة من لدن أي قوى خارجية أو طارئة تحاول السيطرة على المنطقة العربية بالكامل، أنه نوع من الدفاع الثنائي المتمكن عن الهوية الثقافية المشتركة، والتي وصلت في أوقات وتواريخ معينة ومتعددة إلى درجة من القوة ما جعلها ترتفع إلى مستوى الإنتاج والإبداع والإشعاع، وتخطي الحدود الإقليمية والعربية إلى الآفاق الإنسانية ، هكذا، فرض كل من قطبي العراق ومصر وجودهما كنموذج نوعي ثقافي/ حضاري في العصور القديمة والوسيطة والحديثة.
العلاقات الثقافية : جذور الماضي:
لقد طرأت تغييرات مهمة في طبيعة العلاقات الثقافية المصرية – العراقية، إذ كان ذلك نتيجة واضحة لما حدث من تبدلات واسعة النطاق في الوضعية السياسية والبنى الثقافية لكل من البلدين، أي باختصار : منتجات كل من التحديث الذي طبق بمصر، والإصلاحية التي مورست في العراق خلال القرن التاسع عشر، فقد شهدت مصر تحولات مهمة في الأجهزة التعليمية التي استحدثها الوالي محمد علي باشا (1805-1848)، وتوسع فيه من بعد الخديوي إسماعيل (1863-1879م) إذ تجدد التعليم المدني وأخفق التعليم الديني – التقليدي الذي كان سائداً من قبل، وحلول مؤسسات جديدة على النسق الأوربي، إضافة إلى ولادة المطابع (= بولاق مثلاً) وانتشار الصحافة والكتب، وازدياد البعثات، وحدوث تغييرات اجتماعية واسعة النطاق.
أما العراق، فلم يكن مستقلاً، بل زاد ارتباطه بالباب العالي إثر تطبيق نظام الإدارة المركزية، ولكنه بدأ يعيش الحياة الإصلاحية خلال النصف الثاني من القرن الماضي، ليس من خلال الانفتاح على الغرب والأخذ بمقوماته، بل من خلال التقارب الثقافي مع بيئات عربية احتلت مكانتها في مركزية الثقافة العربية التي استقطبتها القاهرة، وكان على رأس المصلحين في العراق، واليه مدحت باشا ( 1869-1872م) وغيره، واستتبع ذلك، تغير في طبيعة العلاقات الثقافية بين البلدين، ولما كانت مصر أسبق في بناء جهازها التعليمي ومؤسساتها التحديثية، فقد كان من الطبيعي أن تتوثق المزيد من الروابط الجديدة، وخصوصاً في العلاقات الثقافية المختلفة وبأكثر من حقل معين، كان أبرزها الصحافة وعمليات النشر بالعربية، ومن المفارقات التي يمكننا التأمل فيها : ارتباط العراق حتى تأسيس كيانه الملكي عام 1921م بالعاصمة العثمانية إسطنبول التي تخرج في مدارسها وكلياتها العشرات من المثقفين والعسكريين العراقيين الذي توثقت علاقات العديد منهم وبصورة راسخة بالمثقفين والرجالات المصريين من خلال عملهم القومي أو الثقافي أو الطلابي المشترك.
هناك ظاهرة ثقافية أخرى بحاجة إلى تحقيق ودراسة وتوصيف، ذلك أن عديداً من أدباء العراق ومثقفيه (= الرعيل الأول ) قد نجح بنشر كتبه بالعربية في القاهرة خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، ولو أحصينا عدد الكتب والدواوين التي ألفها عراقيون ونشرت في القاهرة، لوجدنا أن ذلك يشكل بحد ذاته ظاهرة ثقافية ملفتة للنظر والدراسة في طبيعة العلاقات والترابط بين البلدين، ناهيك عن حجم المراسلات والمساجلات بين الأدباء العراقيين والمصريين، إضافة على ما كان يصل العراق وحواضره الثقافية من أعداد كبيرة لا يستهان بها من الصحف والمجلات والمنشورات المصرية، وقد وصلت هذه العلاقات إلى أعلى درجاتها في العقود الأولى من هذا القرن، والتي سجلت أيضاً فيها جوانب فكرية ثمينة من تبادل الآراء المختلفة، وشن معارك أدبية وثقافية كان لها دورها في تعزيز أواصر العلاقات بين الجانبين، فكيف كان ذلك؟ دعونا نتساءل؟
1- وجود الجامع الأزهر في القاهرة، والذي اعتبر أبرز مدرسة عربية / إسلامية كان لها دورها الثقافي في التعليم والتثقيف الديني وفي حفظ التراث الديني. ولكن ليس لكلّ العراقيين ، ففي العراق تقع الحوزة العلمية للشيعة الاثني عشرية التي تعتبر مركزا عالميا لاستقطاب المسلمين الشيعة للدراسة والعلم .
2-لقد قصد القاهرة، العشرات من العلماء والأدباء وطلبة العلم، وتأثرهم بأحوالها، وأخبارها، ونشاطات أجهزتها، ودور المثقفين فيها.
3- المتانة والرصانة الفكرية التي تحلت بها المجلات المصرية الاولى، كمنافذ ثقافية كان لها دورها المؤثر في الثقافة العربية الحديثة عموماً، ومن أشهرها : المقتطف والهلال والسياسة والمقطم والعصور والدهور وروز اليوسف، وغيرها.
4- دور النخبة المستنيرة من المثقفين المصريين واللبنانيين، وعودة العديد من المثقفين العرب الذين تلقوا علومهم ومعارفهم في أوروبا ( فرنسا على الأخص).

الثقافة المشتركة: من التوطيد نحو الترسيخ:
بقيت العلاقات الثقافية بين مصر والعراق تقوى وتترسخ يوماً بعد يوم على امتداد القرن العشرين، وقد شكلت ركناً أساسياً من أركان الصلات بينهما، وخصوصاً بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وتأسيس كيان العراق المعاصر، وبناء دولته الحديثة، وشهدت البلدان حركة انتقال في العلاقات الثقافية وتطورها، منها حركة العلماء والأدباء والمثقفين والأساتذة والفنانين عبر مصر والعراق، وأن شخصيات عديدة قد شغلت الرأي العام لكل من الطرفين، ويمكننا القول بأن العلاقات ارتدت ثوباً جديداً خلال النصف الأول من القرن العشرين، إذ سيتخرج في الجامعة المصرية العديد من شباب العراق ومثقفيه، أولئك الذين تلقوا علومهم ومعارفهم في أروقتها، وعلى أيدي أبرز أساتذتها ومفكريها، ولم تشهد العلاقات ركوداً مطلقاً أو نسبياً خلال النصف الثاني من هذا القرن، وحتى بعد أن بدأ العراق بالانفتاح على الغرب ومؤسساته التعليمية خلال العهدين الملكي و الجمهوري.
لقد اشتهر العديد من الأساتذة المصريين الكبار الذين وفدوا إلى العراق، واستطاعوا أن يدرسوا في كلياته ومعاهده وسأقتصر على ذكر : د. عبد الرزاق السنهوري العالم المتضلع في القوانين وصاحب الوسيط، والذي ساهم في صياغة القانون المدني العراقي، وهناك د. مصطفى كامل حسين الذي يعتبر شرحه لـ” القانون الأساسي العراقي” مرجعاً أساسياً في الحياة الدستورية للعراق، وهناك د. زكي مبارك، الكاتب والناقد الشهير الذي صاحبته ذكريات أدبية رومانسية عن العراق وكتب الكثير عن ” ليلى العراقية” التي أنتجها مخياله المرهف، وهكذا، بالنسبة إلى أسماء أخرى زخر العراق بهم، واستطاعوا أن يقدموا لأبنائه عطاء تذكرة الأجيال، ورفدوا أيضاً الحياة العلمية والأدبية بالمزيد من الأعمال والنتاجات التي يشار إليها بالبنان.
وفي الوقت نفسه، كان أدباء العراق ورجالاته، يجدون في مصر ملاذاً حسناً لهم وفي ميادينها الثقافية، حلبات عمل نشيط لإمكانياتهم وإبداعياتهم، فمنهم من استقر فيها، ومنهم من قضى في ربوعها ردحاً من الزمن، وساقتصر على ذكر ثلاثة أسماء من هؤلاء فقط، فقد استطاع الموسيقار المبدع الملا عثمان الموصلي أن يصل مصر، فيتصل به العديد من ادبائها وفنانيها منذ مطلع هذا القرن، وتتأثر الموسيقى هناك بإبداعاته إذ يتتلمذ على يديه البعض من الموسيقيين الكبار اذ أخذ عنه الموسيقار المشهور سيد درويش ، كما ويصدر صحيفة أسبوعية بمصر ويعود إلى العراق بعد رحلته تلك. وهناك الشاعر عبد المحسن الكاظمي الذي هجر العراق واستقر بمصر، ويعدونه فيها من الشعراء العرب الكبار، وقد استفاد فائدة كبيرة من وجوده بمصر، واطلع على حركتها الفكرية ومعالم نهضتها فقال :
أأترك مصراً أم أقيم بجوهــا وما جوها إلا جوى يتـدفــع
تعدت صروف الدهر مصر وأهلها ولازال في أرجائها البشر يسطع
نعم أهل مصر أنتم خيـر أمـة وما الخير إلا منكم يتفــرع
أما الشاعر جميل صدقي الزهاوي الذي زار مصر وكانت شهرته قد طارت فيها، إذ لقبه المصريون بالشاعر الفيلسوف، وقد احتفوا به احتفاء كبيراً، كما وأثار جملة من أفكاره وآرائه في الأوساط المثقفة هناك، وخصوصاً في المجالس التي كانت تعقدها الكاتبة الشهيرة مي ، كما وفتحت الصحف والمجلات المصرية صفحاتها أمامه.
لم يكن الجانب المصري أقل حماساً من العراق في استقبال البعوث والمثقفين العراقيين، فقد احتضنت على مدى زمني طويل نخب عديدة من الانتلجينسيا العربية تلك النخب التي شاركت بفعالية في البناء النهضوي العربي الحديث، وحدثت العديد من السجالات الفكرية والأدبية قادها كبار المثقفين العراقيين والمصريين، والتي أثرت ترسيخ العلاقة بين الطرفين، إن المعارك الأدبية والاختلافات الفكرية ظاهرة صحية في مسيرة النهضة، فالاختلافات هي غير الخلافات، وفي ذلك تصويب وجرأة وتحرر وتنوير، ومن الأسماء التي يمكن ذكرها: جميل صدقي الزهاوي، وعباس محمود العقاد، وشبلي الشميل، وانستاس ماري الكرملي، وإسماعيل صبري ومحمد فريد وجدي وأحمد الصاوي محمد وغيرهم.
ومن يتتبع الصحف والمجلات المصرية الرصينة، سيجد مادة علمية وأدبية وفكرية، كتبها العشرات من الكتاب والشعراء العراقيين على مدى عقود طويلة من السنين، ومن تلك المجلات : المقتطف والمقطم والسياسة والعصور والرسالة وغيرها.
أما من الأسماء، فيمكنني التوقف عند أبرزها، ومنها : جميل صدقي الزهاوي ورزوق عيسى وعلي الجميل وسيد أحمد الصافي النجفي وأنور شاؤول وكاظم الدجيلي وعبد المحسن الكاظمي ومحمد بهجة الأثري ومهدي القزاز وجواد علي ومنيبة الكيلاني وإبراهيم الوائلي، وبدر شاكر السياب وغيرهم كثير.

الثقافة الإعلامية : من التواصل نحو التفاعل:
لعبت الوسائل الإعلامية والفنية دورها البالغ في تزويد البلدين بالتقارب الحقيقي والتفاعل الحيوي برغم تباعد الديار والحروب الاذاعية الباردة التي كانت تشّنها صوت العرب بشكل خاص ، وتوالت البعثات الفنية بين البلدين، وساهمت السينما المصرية على امتداد تاريخها الحافل، ومن ثم الأفلام التلفزيونية في تركيب علاقات جديدة ومن نوع خاص، وانشداد عراقي – مستحدث للتفكير الاجتماعي المصري بعد دخوله الشارع والبيت العراقيين، ناهيك عن دور الأغنية المصرية وتأثيرها الوجداني والثقافي في ضمير الشعب العراقي، ولم يزل العديد من الشيوخ الكبار يحتفظون بمأثورات غنائية – مصرية لأساطين الغناء المصري الحديث، وهي تسجيلات أو اسطوانات فريدة من نوعها ونادرة في وجودها لم تتواجد حتى في مصر نفسها. ولقد زار العراق العديد من الفنانين المصريين الكبار، ومنهم أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب ومحمد عبد المطلب وفريد الاطرش وغيرهم ..
إن وسائل الاتصال القوية قد أثرت بفعالية في تنشيط حركة التعاون والتبادل والترابط والتعاطف في الميادين الثقافية ، وربما كانت هذه الظاهرة، لها عنايتها، قبل كل شيء، بالمجتمع الثقافي من خلال النخبة المثقفة (= رعيل الانتلجينسيا) في مطلع القرن، ومن ثم عند الفئات المثقفة والواعية في العقود التالية منه، فأثرت تاثيرها البالغ الذي انعكس على المجتمع بأكمله، وقد تجلى ذلك بأربعة وسائل إعلامية مؤثرة، وهي :
01 الصحافة والأدبيات : (= الأخبار/ المطالعات/ التقارير/ الأشعار / القصص).
02 السينما والروايات: (= الروايات الأدبية/ والتاريخية والواقعية/ تراجيدي/ كوميدي).
03 الراديو والكاسيت: (= الغناء/ الخطب السياسية/ الأحاديث/ التعليقات).
04 التلفزيون والفيديو : (= المسلسلات/ الأفلام/ الغناء/ المسرحيات الكوميدية).
كان للوسائل أعلاه دورها المؤثر في ترسيخ علاقات ثقافية من نوع جديد، فقد عمت آثار الانتاج الفني المصري ( وخصوصا السينمائي ) في الذاكرة العراقية، والاحتفاظ بأساليب جديدة حفزت بعض تراكيبها في المشاعر، وترددت بعض الأغنيات في الشوارع، ولاكتها الألسنة على مدى سنين طويلة، إن الموازنة الثقافية بين البلدين لم تنشأ مؤخراً فهي ليست طارئة، وإنما عاشت في الضمائر المشتركة عند الطرفين: طرف كان ولم يزل يغني لـ” بلد الرشيد” وطرف حفرت حياة “وادي النيل” ذاكرته، ولم تكن هذه الرؤية منسقة أو مراقبة إنما تفصح دوماً عن تلقائية يؤديها تكوين ثقافي متوازن وموحد في تعبيره، برغم وجود ثمة اختلافات في التقاليد وأنماط التفكير، وأثر المصادر والمناهج نتيجة لاختلاف البيئة والبناء الثقافي والسياسي والاقتصادي.
إضافة إلى اختلاف البناء التاريخية (= النظم والتحديث)، وقد يشترك المجتمع هنا وهناك في بعض أعرافه ومظاهره من دون أن يكون هناك بالضرورة، سابق معرفة واتصال نظراً لمعلولات مشتركة عند كل من الطرفين، فلقد دخلت مثلاً بعض المفردات والتراكيب اللهجوية المصرية في اللسان العراقي عن لاوعي نتيجة لما أفصحنا عنه أعلاه.
الذاكرة التاريخية المؤثرة :
إن نظرة تحليلية لتاريخية مصر والعراق المعاصرة، تبين لنا، الاقتراب بينهما قد يصل إلى حد التماس في مسائل عديدة، منها : التركيب السياسي والخطاب السياسي وهما المعبران عن الواقع الاجتماعي والانتماء التاريخية لكليهما، من دون أن نجد اتجاهات متعاكسة في السيرورة التاريخية إلا قليلاً. انتهت الحرب العالمية الأولى، وبرزت على العالم خارطة سياسية عربية جديدة في ظل الهيمنة الاجنبية ، وكانت مصر قد وقعت تحت حكم السيطرة البريطانية قبل العراق، ولكن مصيره الملكي، سيتحدد في مؤتمر القاهرة الذي انعقد يوم 9 آذار / مارس 1921م برئاسة السير ونستون جرجل وزير المستعمرات البريطانية.
تكاد الانتفاضات الوطنية في البلدين، تلتقيان وتبتعدان زمانياً، نتيجة مؤثرات سياسية مشتركة، وروح ثقافية ووطنية موحدة، بحيث أن الشراكة التاريخية كانت مكسباً قائماً بذاته لديهما منذ عدة قرون، كتلك التي برزت بشكل ناصع على عهد السلطان صلاح الدين وريادته الحربية ضد الهيمنة الافرنجية الصليبية ، وكم وجدنا أيضاً من تقارب أو تشابه النمط الليبرالي الذي استخدمه كل من مثقفي البلدين وساستهما، سواء كان ذلك في الحياة الحزبية أو النيابية والتي انتهت، بفعل عدم تحقيقها للآمال القومية، ولئن جاز لنا القول أن ننبه إلى بعض الأسباب التي كانت تؤدي إلى خلافات وتباعدات غير معقولة سياسياً، ومشاحنات تضر بالمصالح العربية، فإن ذلك يبقى محصوراً عند فئات معينة لا تعبر أبداً عن الرأي العام وعن الواقع الثقافي، والذاكرة المشتركة والعاطفة العربية. ودائما ما يكون مبعث تلك التباعدات والخلافات تنافر القطبين على الاستقطاب التاريخي ، وشعور كل طرف من الطرفين أنه الاعرق تاريخيا ، وأنه الاقدر على الريادة العربية في مجالات النهضة والسياسة والثقافة ، وخوف كل طرف ان لا يحصّل الطرف الاخر على مكانة معينة في المستقبل . وثمة من يرقب هذه الحالة وخصوصا بعد كل الذي أصاب العراق من كوارث عند نهايات القرن العشرين .
إن كل الاجتهادات التي برزت في جو وطني له شراكته التاريخية في الكفاح والنضال ضد المستعمر، ومعارضة الساسة الذين تعاونوا مع الانكليز، أدت إلى ولادة ثقافة جديدة عند الاثنين، كان طابعها هو الرفض، كان البلدان يستبقان الأحداث التاريخية التي كان يعبر عنها الشارع السياسي تعبيراً حقيقياً حتى بعد انتصار الثورة على النظامين الملكيين فيهما، وان بعض المؤرخين يدّعي بأن أحداث ثورة 1919 المصرية قد أثّرت في انفجار ثورة العشرين العراقية بالرغم من اني لا اعتقد ذلك ابدا . ولقد أثرت حركة عام 1941م في العراق في أفكار الضباط الشباب بمصر، فضلا عن تأثير صوت الاذاعي العراقي القومي يونس بحري من اذاعة ( حي العرب ) من برلين ايام الحرب الثانية ، فكان انبثاق انقلاب / ثورة 1952م كما كتب ذلك بعض الضباط الاحرار في مصر ، اذ كانت حركتهم بمثابة ” تواصل ثوري حركي للتجربة الأولى “، وقد تأثر العراقيون بانقلاب / ثورة 1952 ، بل وكان لجمال عبد الناصر وسياسته العلنية دورها المؤثر في العراق ، فكان اندلاع انقلاب / ثورة 1958م ببغداد، وكانت تلك المرحلة ، ساخنة بالأحداث السياسية/ الدراماتيكية.
دعونا نتوقف قليلاً عند جانب عملي من بناء العلاقات العراقية – المصرية، ففي سنة 1942م، وقبل تأسيس جامعة الدول العربية، قام لفيف من سياسي القاهرة ومثقفيها بتأسيس ناد لتنمية العلاقات، وتقوية الروابط بين الأقطار العربية، أسموه نادي الاتحاد العربي، بالقاهرة، ولما نقل تحسين العسكري وزير العراق المفوض بالقاهرة إلى وزارة الداخلية ببغداد، جمع لفيفاً من رجالات العراق ومثقفيه، وأسسوا فرعاً لنادي الاتحاد العربي بالقاهرة سنة 1943، وانعقد الاجتماع السنوي للنادي الأم في 26/2/1943م، بالقاهرة، وترأس الهيئة العامة فؤاد أباظة باشا، وشارك العراق بوفد ترأسه إبراهيم الواعظ، وقد احتفى المصريون بالوفد العراقي احتفاء كبيراً، وكان منهم كبار المثقفين : د. عبد الوهاب عزام ونظلي الحكيم، ود. حسني أحمد، ونجيب برادة، وعبد الستار الباسل، وأسعد داغر وغيرهم، وقد قدم رئيس الوفد العراقي إلى الملك فاروق وتحدث معه عن العراق، ويقول الأستاذ إبراهيم الواعظ في مذكراته:” وقد وجدت جلالة الفاروق يعرف عن العراق وشؤون العراق أكثر من العراقيين”، ويقول في مكان آخر:” وعندما غادرت الأراضي المصرية شكرت المصريين على الحفاوة التي لقيتها من جميع الطبقات” .
مصر والعراق : الدور القومي
اتخذت النهضة القومية الثانية في تاريخ العرب المعاصر خلال الثلاثينيات والأربعينيات من هذا القرن، أبعاداً ثقافية مستحدثة، وواجهات سياسية جديدة، أخذت على عاتقها، إنجاز مهام قومية، وتخفيف الحواجز الأقليمية التي وقفت حجر عثرة في انتقال الأفكار والثقافة والأنشطة المعرفية والنتاجات الأدبية بين الأقطار العربية، وخصوصاً بلدان المشرق العربي، التي كانت تنوء من ضغوطات واسعة النطاق في شتى المرافق، وصلت إلى أوجها خلال مدخلات الحرب العالمية الثانية، فنتج أثر ذلك عملاً قومياً لافتاً للنظر، وولدت حالة طافحة من المشاعر القومية، إذ تأدلجت الثقافية قومياً في كل من البلدين من أجل تحقيق الأماني العربية.
لقد كانت جامعة الدول العربية ، هي المحصلة النهائية التي برزت اثر جهود قومية في قلب القاهرة، عام 1945م وقف على رأسها كل من القادة والمسؤولين العراقيين والمصريين ، وبرغم الخلافات التي حصلت حول مسائل عدة بين الطرفين ، ولا أريد تحديد من كان يذكيها دوما ضد المشروع الذي كان قد اقترحه وسعى من اجله نوري باشا السعيد ولفيف من العراقيين ، الا ان العراقيين لبوا المطالب المصرية السياسية . كان نوري السعيد وكل طاقمه من العراقيين يطمحون الى تأسيس اتحاد كونفدرالي بين الدول العربية المستقلة ، ولكن الاخوة من الساسة المصريين رفضوا المشروع العراقي واتفق معهم كل الدول العربية الست : السعودية والاردن ولبنان واليمن وسوريا ، اذ اقترحوا بديلا ممثلا بمؤسسة جامعة للدول العربية باركها الانكليز مما جعل العراق يوافق مرغما على جامعة بدل اتحاد ..
ومنذ قيامها وطوال مرحلة النهوض القومي المؤدلج التي تلت الحرب العالمية الثانية، عملت الجامعة بوصفها أداة ميدانية للتعاون الثقافي العربي وصولاً إلى صيغة ( وحدوية ) – ثقافية عربية ، ولكنها لم تنجح ابدا ، وكان باستطاعتها تجاوز الأبعاد السياسية ذات التقاطعات والتناقضات، وقد حققت جامعة الدول العربية نجاحاً محدودا جدا على الصعيد الثقافي، وكان لكل من بغداد والقاهرة، الدور المؤثر في عقد اتفاقية التعاون الثقافي العربية سنة 1945م، وعقد المؤتمرات الثقافية : الأول والثاني والثالث للفترة 1947-1957م، فضلاً عن المؤتمر الأول لوزراء المعارف العرب سنة 1953م، والمعاهدات الثقافية الثنائية التي استمدت غاياتها ومناهجها من روح ميثاق جامعة الدول العربية. وكان لعدد من المسؤولين المثقفين العراقيين أدوارهم المؤثرة في تلك التطورات ، وستقف على رأسها جهود كل من : نوري السعيد وتوفيق السويدي وفاضل الجمالي ، وسيكون لهذا الاخير أكثر من مشروع استراتيجي من اجل الجامعة العربية ، ولكن ستوضع أمامه المزيد من المشاكل والعقبات من اجل افشاله . لقد حدثني الاستاذ فاضل الجمالي ( عندما كنت التقي به في تونس لمرات عدة ) عن ذلك كله بالتفصيل قائلا بأن دور العراق سينتهي استراتيجيا من خلال نظام الجامعة العربية بعد 1958 ، وسيغدو غير ذي تأثير على مستوى وضع الاستراتيجية العربية في موضعها الصحيح من خلال تقديمه للمشورة والمقترحات الفعالة من اجل خدمة العرب أجمعين من جميع النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية، وسيصبح دوره منصتا لغيره او معترضا وسينحسر تأثيره على المستوى الرسمي العربي .

من أجل تفكير عراقي جديد لمستقبل العلاقات مع العرب :
نستنتج ، بأن العمل الثقافي العربي كان متقدماً جداً على العمل السياسي العربي في كافة الظروف، سواء تلك التي تعكس حالات الخلل والاضطراب في طبيعة العلاقات العربية، أو تلك التي تعكس حالات التضامن والوفاق، وستبقى العلاقات الثقافية في جميع الأحوال مظلة حقيقية للعمل الثنائي أو الرباعي أو الجماعي العربي، كونها تخفف من حدة التوترات السياسية، وأنها أبرز وسيلة لتحقيق الفهم المشترك والتخطيط لصياغة مستقبل الأجيال العربية القادمة، فالعلاقات الثقافية، تفتح الآفاق الجديدة على رحبها للوصول إلى مستوى نوعي موحد يناغي الأماني الأصيلة وأهداف ابناء ( الامة ) كافة وتطلعاتهم. إنها ترسخ الوعي المشترك الذي يعد قاعدة أساسية للعمل السياسي المنظم والمبرمج، من دون أن تكون تلك القاعدة حكراً على طرف واحد دون آخر، بل تشارك في بنائها والاستفادة منها مختلف الأجهزة الثقافية والبيئات العربية المشتركة: أكاديمياً وإعلامياً وفنياً وصحافياً. واتخاذ مواقف صميمية إزاء قضايا آنية ومستقبلية تخدم المصالح العربية في حاضرنا وعند أجيالنا القادمة .
إن هذا كله ينقلنا إلى طرح بعض الرؤى من أجل التفكير في طبيعة العلاقات من جديد بين العراقيين وبين اخوانهم العرب وما سيترتب على العلاقات الجديدة في ظل ما خيم من أزمات وانقسامات عقب حرب الخليج الثانية ومأساة الحصار على الشعب العراقي عند نهايات القرن العشرين .. ولابد من التساؤل عن ثمة آفاق مستقبلية مشتركة في علاقات من نوع جديد تبنيها المصالح المشتركة لا الشعارات الخاوية ، وتؤسسها المفاهيم والافكار العليا بديلا عن الادعاءات المزيفة .. ناهيكم عن فهم الاجيال القادمة لطبيعة العلاقات السياسية والثقافية التي لم تكن متأصلة بين الاطراف التي يمكن وصفهم اليوم بالفرقاء وليس بالشركاء ، ذلك لأن الاجيال القادمة ستقف ليس عند العلامات الفارقة في العلاقات العربية ، بل انها ستقف بلا ريب على كل تاريخيتها سواء كانت زاخرة بالروابط وسبل التعاون، ومجال تجربة حقيقية، أو كانت مضطربة العلاقات وسيئة الاهداف ومليئة بالنوايا المضادة . ولكن على ضوء ما استجد في عالم اليوم من الوسائل والأدوات المتطورة التي ربما ستخدم الأجيال القادمة طبيعة العلاقات في أكثر من جانب حيوي له عملياته المكثفة من المناهج والعناصر والآليات.. فماذا نقول ؟
حصيلة العلاقات: المكتسبات واستشراف المستقبل
نجد من وراء ذلك كله، إن العلاقات الثقافية بين مصر والعراق، هي قضية ذي خصوصية مكتسبة، وأنها تساعد أكثر من طرف عربي ليس في بناء علاقات متساوقة او مضطربة مثلها، ولكن في الاستفادة من تجربتها التاريخية وملاحظة حالات المد والجزر فضلا عن قياس مدى المصالح والمكتسبات التي حصلها هذا على حساب ذاك حتى في ايام الظروف العصيبة .. وان تجربة العلاقات التاريخية بين الطرفين غنية العناصر، وبارزة الشخصية، ولم يزل البعض من الكتاب والساسة العراقيين يعتقدون اعتقادا جازما بأن الأعداء حتى يومنا هذا يقيمون الحواجز ويكرسون التجزئة من خلال وسائلهم وأدواتهم الثقافية، كما ويضيفون بأن ابرز منطلقاتهم قد كمنت في فصل وتشديد الفصل بين وادي النيل ووادي الرافدين حتى في تسمياتهم، وإطلاق الأحكام والنتائج من خلال فهم سطحي غير عميق الجذور، ومن دون فحص لمقومات التلاقي والهوية المشتركة للمركزية التاريخية/ الحضارية في تاريخنا العربي الموحد على امتداد أحقاب طويلة من السنين.
ولقد اثبتت التجارب التاريخية وستثبت للاجيال القادمة بأن وعيا جديدا قد اضيف الى هذه المسألة الخطيرة التي لا يمكن قياسها من خلال الهواجس والظنون او لا يمكن تسويغها من خلال العواطف القومية أوالوجدانيات السياسية ، ولا يمكن دراستها من خلال مبررات سياسية مثالية او مبررات للعلاقات الشخصية .. انها مسألة تاريخية في عصر لا يمكن فهمه الا من خلال المصالح المشتركة .
إن الحصيلة من المكتسبات النهائية، هي إجمالية العلاقات الثقافية المتمثلة بالأساليب والوعي والمناهج والمفاهيم التي يعتبر تقاربها وتواصلها، حالة من الاستمرار حتى يومنا هذا، بالرغم من اختلاف بعض المواصفات البيئوية والجغرافية والاقتصادية والسلوكية التي طبعت كل من المجتمعين ، والتي أفرزت بعض المتغيرات الذائبة لا محالة بفعل استخدام الوسائل الحديثة المشتركة في الاتصالات الثقافية، وتفاعل الأنماط العربية المستحدثة في التعايش والتفكير والتعاون، وسيكون الغد المأمول للأجيال العربية القادمة وثيق العلاقات والصلات، وسيرتهن كل ذلك باستمرار سياسة التعاون وترسيخ الوعي بالتضامن، وسيحتاج ذلك كله إلى ممارسات وتطبيقات مشتركة على مستوى العلاقات الثقافية، فهي التي تسعى إلى بناء مستقبل عربي منشود له مركزيته القوية، وشخصيته الريادية، وعطاءاته المتميزة في إغناء التطورات الإنسانية.
إن الآفاق المستقبلية، تنطلق إذن، من طبيعة العلاقات الثقافية ومحصلتها المشروعة المدعمة بالمنجزات والإبداعات والمكتسبات الجديدة ونحن في بدايات القرن الحادي والعشرين . فما هي رؤيتنا التاريخية لذلك في ضوء رسم تلك الآفاق؟
علينا بادئ ذي بدء، أن نحدد إطار العلاقات الثقافية، بين مصر و العراق من طرف، وبين مصر/ العراق وبقية البلدان العربية على ضوء المعطيات التاريخية من أجل رسم رؤى وملامح مستقبلية جديدة تستقيم ومعرفة طبيعة الحاضر وإشكالياته والتوقعات بصورة المستقبل ومشاكله وتعقيداته، وهنا ينفع التعبير بواقعية وتجرد وحياد تام عن الآمال والطموحات التي تعتبر ضمانات أساسية لتحقيق الأهداف الكبرى، وإن الأخذ بمستلزمات تلك العلاقة، مطلوب ترسيخها، من أجل رفد حقول التعاون الأخرى، ثم هناك القواعد النقدية والمناهج العقلانية في بحث أية صيغة ثقافية منفردة أم مشتركة، وتوسيع مداها، كي تتفاعل ويتربى عليها الجميع، هناك أيضاً، الاشتراك في مشاريع بحثية ومختبرية وسريرية وأدبية مختلفة لأغراض البحث العلمي واللغوي والموسوعي، بغرض الاستفادة من الخبرات المتاحة، كما ولا ضير أن اشتركت أجهزة ومؤسسات أكاديمية أو مكتبية أو إعلامية أو ثقافية، بإجراءات تعاونية في إطار العلاقات والكفاءات والعناصر والخدمات… إلخ.
والمعروف أن تركيز مصر والعراق خلال الفترات المتأخرة كان ضمن سياقات متباينة، وبالرغم من مكانة العلاقات الثقافية والتاريخية بينهما، إلا أن التأكيد عليها حاجة ملحة وضرورية، فهي لم تنقطع يوماً حتى خلال عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين التي شهدت الأوضاع السياسية حال من عدم التوافق بين البلدين، إلا أن الاتصال الثقافي ينبغي الا يخضع لقرارات سياسية أو يفقد حرارته بمجرد صياغات دولية ، فليس من المعقول أبدا ان ترتهن الثقافة وعلاقاتها بين العرب لمجرد الاختلاف في السياسات والانظمة العربية . وان الجماهير والنخب المثقفة لابد ان يكون لها تواصلها حتى وان كانت الانظمة السياسية العربية تعيش في قلب الأزمة، بل ولابد ان تساهم النخب المثقفة في إنتاج حالة قوية ليس من التعاطف والشعارات بين هذا الطرف او ذاك ، او قياسها كواقع مأزوم وفرته الأغاني الوطنية والأناشيد القومية ، وكتابات الصحافة، والخطب السياسية، وهي معطيات أنتجتها وأبدعت فيها مواهب وقرائح وأليات طرف ضد الطرف الاخر ، والتدخل في شؤونه الداخلية ضمن مسوغات القومية العربية .

الطريق نحو المستقبل
ان شعب العراق بحاجة ماسة اليوم الى ان يقف معه كل اخوته العرب والتضامن مع آلامه ومآسيه .. وان تحترم ارادة العراقيين في تحررهم من الطغيان وان تكون لهم حريتهم وارادتهم التي يؤلفها كل طيفهم الاجتماعي فضلا عن الاعتناء بثقافتهم ، وهي ثقافة عريقة واصيلة .
تتوفر على ساحتنا العربية مؤشرات عديدة، توضح طبيعة الاتجاه نحو المستقبل، وسيعطي الثقل لدول منطقة الترابط الجغرافي المحوري (= بغداد/ القاهرة) ، وهي منطقة ذات تكوينات بشرية هائلة، ورصيد من التاريخية المشتركة، وذلك هو جوهر العلاقات الثقافية بين الطرفين، إن سياسة التنسيق ومؤشراتها الايجابية، تعني عودة حقيقية إلى التفاعلات واستمرارها، والتحسس بالمسؤولية التاريخية تجاهها، سعياً وراء المزيد من الفهم المشترك والعقلاني للقضايا المثارة على أرض الواقع، وهذا ما يطالب به الفكر هنا وهناك من تعميق الصلات العربية، وتطبيق الآراء والأفكار والمقترحات تطبيقاً حياً، والخروج بنتائج واستنتاجات، هي في الحقيقة، مجموعة الرؤى والمقترحات التي ترسم طريق المستقبل.
إن التقاء النخب المفكرة والفئات المثقفة العربية، من أجل قيادة علميات ثقافية في التفاعل الميسر والديمقراطي المؤثر، إضافة إلى التبادل الثقافي الشامل، إنما يساعد بتمكن ميسور من تشكيل نوع من المشاركة الحقيقة في بناء مصالح جديدة لا تبتعد ابدا عن كل ذاك الذي الفه تاريخنا الحضاري والثقافي الخصب ، ثم تعالج حالات الانفصام في الشخصية العربية التي أضرتها سموم العلاقات السياسية ، ومن ثم بلورة تصور استراتيجي فاعل في رسم أبعاد العلاقات الثقافية على المستوى الجماعي، وذلك بتجاوز النخبوية والفئوية والتفكير الاقليمي الضيق والتنطع بمن هو افضل من الاخر او من هو اعرق من الاخر او من هو اصلح من الاخر .. إن هذا كله، يمثل ضرورة وعلاجا في التعاون والتواصل، فيجب أن تحظى بعناية من قبل المعنيين وكخطوة جادة في ترسيخ الثقافة العربية، وسعياً مقدساً لما يطرحه العقل المدبر والمفكر معاً في بناء المستقبل المنشود.
جدلية التفاعل والآفاق المستقبلية:
لقد بقيت العلاقات الثقافية العربية ضعيفة جداً وخصوصاً خلال العقود الأخيرة وهو أمر حد بطبيعة الحال، من إمكانية ايجاد أي صيغ للتعاون المشترك او حتى التضامن في من اجل المصالح العليا ، كما ولم يتجاوز البعض الفجوات النفسية والاجتماعية بين العرب في وطنهم الكبير، وخبا التبادل الثقافي الذي كان ساري المفعول خلال النصف الأول من القرن العشرين خبواً كبيراً، وغلبت الإعلاميات على الثقافيات بفعل مأسسة الأجهزة الثقافية والإعلامية وقطريتها وخضوعها للتوجهات السلطوية . ناهيك عن اختلاف النظم التربوية والتعليمية العربية بين قطر وآخر، وقد زادت شكاوى المثقفين العرب أينما كانوا من جوانب عديدة، فالعزلة الثقافية التي تعيشها الأقطار العربية قد أدت إلى قوقعة وتقليدية وجمود، والاكتفاء بالسائد والمتوفر من دون تفاعل الثقافة العربية تاريخياً، وإن أحوال اليوم ستنعكس لا محالة على الأجيال الجديدة، وستكبر المسافات النفسية والاجتماعية يوماً بعد آخر إذا لم تتوفر علاقات ثقافية جديدة لها تفاعلها الخلاق وتواصلها المتين، علاقات ثنائية أو رباعية أو جماعية توفر المستقبل المنشود ، ولابد للعرب ان يستفيدوا من تجارب الامم الاخرى كالتجربة الاوربية من اجل نشدان بناء مصالح اوربية ، او كالتجربة الاسيوية (= الآسيان ) من اجل تكوين مستقبل مصالح في شرقي آسيا ، وغيرها من التجارب .
إن تطوراً عولميا هائلاً تشهده اليوم وسائل الاتصال الحديثة والمستخدمة لأغراض متنوعة ومجالات مختلفة في الإعلاميات والثقافيات والأكاديميات والاقتصادات ، وإن وسائلاً كهذه يجب أن ترقى إلى الاستخدام الأمثل بين البلدان العربية، وبأساليب متطورة، وآليات مباشرة وغير مباشرة، بهدف تلقي الأجيال الجديدة كل الأمور بطرق أسهل مما كانت عليه الأجيال السابقة، ويمكننا القول، أننا نمتلك تاريخاً ثقافياً مشتركاً في بيئاتنا العربية عمره تسعة عقود زمنية، وعلى امتداد القرن العشرين، وشارك في صنع ذلك التاريخ وبناء حلقاته، ثلاثة أجيال، كان لكل جيل أدواته ووسائله، ومواصفاته وطابعه، كما وشغل كل جيل أيضاً ثلاثة عقود زمنية، وقد بنيت جميعها على الأسس النهضوية التي شادها الرعيل الأول من المثقفين خلال القرن التاسع عشر، ويمكننا أن نرسم أدناه البنية التاريخية للعلاقات الثقافية التي تواصلت بها الأجيال الثلاثة على مدى تسعين سنة من القرن العشرين.

الوسائل والأدوات السمات والصفات العقود الزمنية الجيل
جمعيات/ كتب/ صحافة الاستقلالية الوطنية 1/2/3 الأول
مجلات/ راديو/ سينما الشعارات القومية 4/5/6 الثاني
مؤتمرات/ تلفزيون/ فيديو التصلبات الماضوية 7/8/9 الثالث

يتبين لنا من خلال دراسة مختلف الأدبيات المختصة والمباشرة بموضوع العلاقات الثقافية، وفرز طبيعتها البنيوية، أن هناك تطوراً واضحاً في السمات المبدئية التي أخذت يوماً بعد آخر تناشد العقل لا الوجدان لبلورة المصالح العربية باتجاه مستقبلها بعد معرفة واقعها وتناقضاتها، في حين أن ضعفاً كبيراً لحق بجيل اليوم من الشباب المثقفين نتيجة لضعف الوسائل والأدوات وقلة التبادل الثقافي، إذ كانت أجيال الأمس أكثر رسوخاً في علاقاتها الثقافية مما هي عليه اليوم، فكيف نعالج ذلك؟
1. إنتقال البرامج الثقافية والإعلامية (= صحفية / إذاعية/ تلفزيونية) بين مصر و العراق والأقطار العربية الأخرى وبنسبة مرتفعة، وتفاعل أكثر، وتوطيد سبلها وأساليبها في مختلف الجوانب.
2.التعاون الأكاديمي بين جامعات البلدين ومؤسساتها العلمية من خلال تقديم المنح الدراسية، وسنوات التفرغ العلمية/ البحثية، وفي جميع التخصصات، ثم التوسع المشروط في دراسة الجوانب المشتركة في المناهج التعليمية والبحثية والميدانية من أجل إقامة توازن معرفي متطور متكافئ.
3.الاستفادة المشتركة من الكفاءات والخبرات والمؤهلات العلمية والأدبية واللغوية في الميادين الأكاديمية والثقافية، من خلال تنظيم الإعارات والندوات العلمية والملتقيات الثقافية للأساتذة والمفكرين والمثقفين لكل من الجانبين.
4.التعاون الثقافي ( الرسمي والخاص) في إطار النشر والنشر المشترك لمعظم النتاجات العلمية والأدبية واللغوية والفكرية، ثم تيسير حركة تبادل المطبوعات من كتب وجرائد ومجلات لكل من البلدين من أجل إغناء الحركة الفكرية والبناء الحضاري المشترك.
5.عقد الاتفاقيات الثقافية في المجالات المختصة بالبرامج التربوية والفنية والإعلامية والمعلوماتية، وبناء نموذج ثنائي أو أكثر من التعاون العربي المتوازن، وعلى أسس علمية ثابتة باتجاه التحديث والعصرية.
6.تعزيز الأعمال الثقافية والفكرية والتراجمية النخبوية والجماعية المشتركة، أي العمل الكبير المتفاعل كمشروعات موسوعية وانسكلوبيدية وفهرسية، تسعى إلى بناء نموذج علمي / عربي مشترك له رصانته بالنسبة للثقافة العربية والعالمية، كأن يقدم بلغات مختلفة.
7.الإشراف الأكاديمي المشترك على بعض الرسائل والأطروحات الجامعية، ومعادلة الشهادات، وتبادل الخبرات في المراكز البحثية، وتشجيع حركة التأليف والترجمة والنشر، وتحقيق المخطوطات ونشرها، وتبادل المعارض والمأثورات.
8.فسح المجال ثقافياً للمرأة، لفهم أوضاعها الاجتماعية والنفسية وأزماتها ومشاكلها وإبراز حقوق المرأة بشكل متجانس في كل من البلدين، من أجل تنشيط حركة التفاعل النسوي العربي، معالجة الأوضاع الاجتماعية المشتركة.
9.تنشيط التواصل الطلابي، تثقيف الشباب باستخدام جميع الوسائل المتاحة، بتنظيم الرحلات واللقاءات وإجراء الفعاليات الثقافية والفنية والرياضية المشتركة.
10.العناية بالدراسات المستقبلية العربية في كل من العواصم العربية المؤثرة ، لمعالجة المشاكل الثقافية المختلفة، وتطوير المفاهيم الاجتماعية، واستخدام الوسائل المتطورة في التطبيقات، ورسم معالم المستقبل وآفاقه.
11.تأسيس شبكة استراتيجية للمعلومات بين الدول العربية، كمصدر قوي ومهم من مصادر التكامل الثقافي والمعلوماتي العربي، وأهم قوة يمكن الاستفادة منها ، وإنها حاجة ملحة في تطوير العلاقات الثقافية بينهما ورسم أبعاد الآفاق المستقبلية.
إن معاصرتنا اليوم هي بأمس الحاجة إلى جدلية تفاعل خلاق لترسيخ العلاقات الثقافية بين اجزاء الامة واحترام خصوصياتها الثقافية بالدرجة الاولى، لرسم الآفاق المستقبلية للأجيال القادمة، وازعم ان مضامين هذا الكتاب تطرح بعض الأفكار والمعالجات من أجل الارتفاع بمستوى تلك العلاقات، وفسح المجال أمام المثقفين في كل البلدان او الاقطار او الاجزاء والقسمات والبيئات العربية للاستفادة وتعزيز وجهات النظر، والتقييم، والإبداع، إلخ. وتنحصر مقترحات هذه الورقة بالنقاط التالية :
1.تطويرالبرامج الثقافية والإعلامية
2.تطويرالتعاون الأكاديمي والمجمعي والثقافي والإعلامي.
3.تطويرالكفاءات والخبرات والمؤهلات.
4.تطويرالنشر والنشر المشترك.
4.تطويرالاتفاقيات الثقافية.
6.تطوير الأعمال النخبوية والجماعية المشتركة (= المؤتمرات/ الندوات/ الملتقيات).
7.اصلاح الإشراف الأكاديمي المشترك.
8.معالجات مشتركة لمشاكل المرأة ووظائفها وأدوارها الثقافية.
9.التواصل الطلابي وتثقيف الشباب.
10.تأسيس الدراسات المستقبلية – العربية المشتركة.
11.تأسيس شبكة استراتيجية للمعلومات العربية.

Check Also

انقسام العالم الإسلامي والتصدعات الاجتماعية في الشرق الاوسط… 2007 جواز مرور صعب

مختصر مترجم للمحاضرة التي القاها الاستاذ الدكتور سّيار الجميل في منتدى دراسات المستقبل المنعقد في …