لقد غرق العراق بالتعصّبات وهي ظاهرة مفجعة نخشى ان تجرّه الى ويلات وكوارث بسبب تفجّر ذلك المسكوت عنه منذ ازمان ، ولعّل التراشق اللفظي يوقد جمرا وبشرا .. وخصوصا في مجتمع مثل العراق تكثر فيه الانقسامات وتزداد فيه النعرات وتتفجر فيه العواطف والاوجاع ! ولم يزل المجتمع في مجمله غارق بالتخلف والاوهام والمعتقدات السقيمة .. ولا يمكن ان تنفع أي علاجات فكرية او توافقات سياسية ابدا في مثل هذه المرحلة الصعبة .. بل ينفعها السعي العملي لتقريب وجهات النظر وزرع الكلمة الطيبة من اجل انحسار الكراهية واستعادة الثقة والتخلص من كل بقايا التاريخ البالية .
انني واثق بأن الانقسامات الموجودة اليوم في العراق هي سبب البلاء وهي التي ستبقي المحتل وهي التي ستنخر في جسد العراق حتى تمزّقه اربا اربا .. واذا كان البعض من الطائفيين والمتعصبين او حتى من بعض المتوجعين والمتألمين – كما اسمع من خلال ظهورهم على الشاشات التلفزيونية – يقول بأن الحل يكمن بالتقسيم ( أي : بتقسيم العراق ) ، فهو لا يدري بأن ذلك سيقود بالضرورة الى نتيجتين كارثيتين :
اولاهما ان ليس هناك بلاد عراقية ستبقى حتى ان انقسمت وتفتتت اذ ستصبح اوصالا تعبث بها دول الجوار .
وثانيهما ستحارب الاجزاء بعضها بعضا لأن العراقيين في اغلبهم لا يؤمنون بتقسيم العراق ابدا ، أي بمعنى : اشتعال حرب داخلية ستهلك الحرث والنسل .
وعليه اقول ، بأن لكل طرف عراقي من الاطراف الثلاثة الكبرى التي ساهم الجميع في صنعها ووجدت الولايات المتحدة الامريكية فرصتها لتبلورها وتطرحها هكذا بصورتها المقيتة على العالم .. لكل طرف من الاطراف الثلاثة ليست مشكلة معينة بل مشكلات لا حصر لها فضلا عن اخطاء ترتكب من هذا الطرف او ذاك ليس بحق العراق نفسه ، فالعراق يمتهن ويجّرح ويقتل يوميا بدم بارد من دون أي شعور بالذنب منذ خمسين سنة ، ولكن ارتكاب كل طرف جناية بحق الطرف الاخر ، انني ارقب ملامح ممثّل هذا الطرف او ذاك على الشاشات والفضائيات كم تمتقع الوجوه ، وكم يصيب هذا ذاك وكأنه يطعنه بخنجر مسموم في الصميم . ناهيكم عما يرتكب من اخطاء وجنايات بحق الاطراف الصغيرة التي يمتلئ العراق بها .
ان كل طرف من الاطراف الثلاثة قد ساهم في زرع الكراهية والاحقاد في المجتمع العراقي من خلال حروب باردة عبر الاذاعات والتلفزيونات والصحف والمواقع الالكترونية ويقود هذه الحملة منذ الايام الاولى لسقوط النظام السابق حفنة من الدعاة السياسيين ورجال الدين والكتبة الجدد والاعلاميين والمراسلين .. الذين التحقت بهم عوام مليونية من جماهير العراقيين .. جماهير مليونية هنا ومناطقية هناك .. مدينية هنا وغوغائية هناك .. جماهير لا تمتلك الوعي ولا النظام ولا أي تفكير ولا أي احساس وطني .. همّها الوحيد ان تبصم امام حزب او قائد او كتلة او هيئة او جماعة .. الخ
وكما شهدنا في الايام الاولى لسقوط النظام السابق تلك الجماهير تسرق وتسلب وتنهب بمباركة من ساسة وقادة واعلاميين وجيوش محتلين بحجة انسحاقاتهم فسمح منذ اللحظات التاريخية الاولى تسجيل أي انواع او ضروب من السلوكيات المنحرفة والرذائل لصناعة الفوضى فكانت ان امتدت من دون ان يوقفها احد لتصبح تقاليد مبررة .. وهذا يذكرني باليوم الذي سقطت فيه الملكية بالعراق عندما دعا عبد السلام عارف – رحمه الله – من الاذاعة الجماهير لاستباحة قصر الرحاب علنا فكان ما كان على امتداد ساعات عصيبة .. وكادت الامور تفلت لولا حظر التجول الذي اذاعه عبد الكريم قاسم – رحمه الله – وانتهاء الفصل الدامي من ذلك الحدث التاريخي .
ان صناعة الفوضى في العراق اليوم كان من ورائها ساسة جدد لم يفقهوا معنى الديمقراطية ابدا ، ولم يفقهوا معنى الوطنية ابدا ، ولم يدركوا مخاطر الانفلات ابدا ، ولم يتعلموا من تجارب التاريخ ابدا ، ولم يكن لديهم الا التعّصب وزرع روح الفتنة في المجتمع الذي لم يكن مستعدا ابدا لمثل هكذا خطاب ولمثل هكذا سياسات ولمثل هكذا ديمقراطية .. لقد كّنا نأمل ان يجري في العراق ما كان قد جرى في تجارب اخرى خصوصا وان البلاد غدت بلا مؤسسات وبلا نظام حكم وبلا امن وبلا اعلام وبلا خدمات .. كان لابد من تأسيس قطيعة مع الماضي ليمارس المجتمع دورا جديدا ضمن ضوابط حقيقية .. كان لابد من ترسيخ مبادئ ضمن انعقاد أي جمعية وطنية او أي مؤتمر وطني .. مبادئ وطنية ومدنية تقف سّدا منيعا امام اية انقسامات او تشرذمات ينادي بها كل طرف على حساب الطرف الاخر .. كان على الجميع ان يدركوا بأن ثمة وطن اسمه العراق يتقدم اية انتماءات اخرى . كان على القادة العراقيين الجدد ان يتفقوا على كلمة واحدة ازاء المحتل من دون ان يلعب هذا المحتل باكثر من كره في ملعب هو العراق !
ما احوج العراقيين اليوم الى ترسيخ العقل بديلا عن كل المرجعيات ؟؟ ما احوج العراقيين اليوم الى مرسوم يشبه الى حد كبير مرسوم نانت الفرنسي الذي خّلص الفرنسيين من الانقسامات المذهبية في القرن السادس عشر .. ؟؟ ما احوجنا الى من يّلم الشمل على مبادئ وطنية يرضى عنها الجميع ؟ ما احوج حياتنا الى النقاهة والصفاء ؟ ما احوج العراقيين الى ان يغيّروا ما بأنفسهم وتفكيرهم ؟ انا ادرك ادراكا عميقا بأن ما اقوله لا يعدو ان يكون مجرد احلام ، ولكن لا بديل امام العراقيين الا ان يرسموا لهم طريقا واحدا في الحياة من خلال مرسوم مدني ينأى بنفسه عن كل مرجعيات التاريخ وكل سدنة الدين وكل بقايا العهود الاثيمة السابقة ! انني واثق تمام الثقة بأن العراقيين لا يحاربون امريكا اليوم بقدر ما يحاربون بعضهم بعضا .. وما كانوا يحاربون بعضهم بعضا لولا الطائفية التي كانت ولم تزل خازوقا اخترق بنيتهم وفعل وما زال يفعل بهم ما يشاء .. مرسوم شبيه بمرسوم نانت ينبغي ان يقدمونه على كل طقوسهم ويخلق منهم بشرا سويا .. كنت اتمنى ان ينبثق هذا من خلال مؤتمر تأسيسي وطني يبرز من خلاله زعماء جدد للعراق يؤمنون بالعراق بمعزل عن دينهم او مذهبهم او عرقهم او طائفتهم او جهويتهم .. وثقوا انه الحل التاريخي لكل مشكلات العراق .. اذ سيبقى العراق ينحدر غريقا نحو اسفل سافلين ان لم تنقذه ارادة جديدة تنبثق من وراء الاستار .. فمتى يتحقق الحلم ؟ ربما بعد ايام وربما بعد عشرات السنين !
الجريدة ، 17 مارس 2006
شاهد أيضاً
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …