نص مختصر محاضرة المؤرخ العراقي
الاستاذ الدكتور سيّار الجميل
في الملتقى الفكري لمعرض الشارقة الدولي الثاني والعشرين للكتاب
مساء يوم الاثنين 8 ديسمبر 2003
الاخوة الاعزاء والاخوات الفاضلات
اسعدتم مساء والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. بداية اتقّدم بجزيل الشكر والتقدير الى راعي هذا الملتقى الفكري لاستضافته لي محاضرا ومشاركا اعماله .. متمنيا ان يؤدي هذا الملتقى اهدافه النبيلة في حياتنا العربية المعاصرة .. واسمحوا لي ان اعالج موضوع الموضوعي والذاتي ازاء ظاهرة العولمة في المشهد العربي الراهن .. متمنيا ان اثير جملة من الاسئلة والاشكاليات ومن اجل فتح الباب لحوارات نحن بأمّس الحاجة اليها خصوصا ونحن امام ظاهرة كبرى تشمل كل هذا العالم ..
مدخل من اجل فهم الظاهرة
عندنا نحن العرب نقص كبير في فهم ليس المفاهيم والمصطلحات بل حتى نقص مريب في فهم النظريات والانساق والظواهر .. ومنذ زمن طويل مضى تم التنبيه الى هذه الحالة من دون ان يهتم احد بها ابدا ، فالخلط لم يزل مستمرا بين المفاهيم التي وّلدها الغرب وما ينتج من الافكار الخاطئة عنها ، فقد تكون العولمة مثلا قابلة للصحة في مكان وبيئة معينة ، ولكن ليس بالضرورة ان تكون مثلها في بيئات اخرى ! وليس من المعقول ابدا ان يمضي اكثر من عشر سنوات على ولادة الظاهرة مع ازدياد حجم منشوراتها ولم يتركز معناها ابدا في دنيانا العربية . وعادة ما تتم اسقاطات ترسبات القرن العشرين على كل مستحدثات اليوم ! وكثيرا ما تتأثر المشاعر العربية بالمواقف السياسية من دون اي تفكير بالمتغيرات الكبرى التي حدثت في العشر سنوات الاخيرة من القرن العشرين والتي تعد منجزاتها اكبر بكثير من كل منجزات البشرية عبر الاف السنين – حسب مقولة وليم ماركيز التي ارددها دوما – .
تفكيك المصطلح
لم يكن لهذا المفهوم اي وجود في المعاجم والقواميس العالمية حتى مطلع التسعينات من القرن العشرين المنصرم، وهو لم يزل حتى الان مشتتاً بين مفردتين اثنتين : العولمة Mondialisation بحــسب التعبير الذي كتبت له الغلبة والانتشار في الفرنســـية وفي العديد من اللغات الأوروبية اللاتينية الأصل. والعولمة ايضا Globalisation هي اعظم كاخطر ظاهرة من ظواهر هذا العصر ، والمستلهم اصلا من مصطلح Global ( اي : العالم الكوني ) . واقصد به : الارتباط بعالم اكبر او كلي ( = كوني ) أي المعروف بـ Universal . لقد قام الاخ سمير امين بنحت مصطلح ” العولمة ” على الظاهرة كلها ، في حين اطلق اسماعيل صبري عبد الله مصطلح ” الكوكبة ” بديلا عن العولمة ، ثم قمت باطلاق مصطلح ” الكوننة ” ، وكان كل من منا قد حاد عن المعنى الحقيقي للظاهرة ولكن كان اتفاقنا اساسا على مصطلح ( العولمة ) بدليل اتخاذنا للاخير مصطلحا ثابتا . وعليه ، لابد من القول بأن العلم الذي يبحث اليوم في هذه الظاهرة التاريخية الكبرى هو المسمى Glob logy ( اي : علم العولمة ) . نحن ازاء ثلاثة مصطلحات (: العولمة / الكوننة/ الكوكبة) يعبر كل واحد منها عن مضمون معين نظرا لاختلاف اشتقاقه عن الاخر ، فكيف يمكننا فهم ذلك اساسا من اجل التثبت من صحة ما نتداوله عربيا ؟ خصوصا وان الثقافة العربية اليوم تعيش فوضى المعاني واغتراب المثقفين والباحثين والكتاب عن الاستدلال لما يتداولونه من مصطلحات وتعابير لا حصر لها ، يولدّها ويشتقّها اناس مبدعون في غيبوبة شبه كاملة لادوار المجامع اللغوية والعلمية العربية ونظرا لحاجة الثقافة العربية لاستيعاب المزيد ، فيتداولها الجمع الاعظم تداولا سيئا للغاية ، وبغير المعاني الحقيقية التي يتم استخدامها في العالم اجمع .
العولمة : مصدر اشتقاقها اللغوي وثبات المصطلح
دعونا نتفحص معنى ” العالم ” ( بفتح اللام ) وهو : الخلق كله في اللغة العربية ، وقيل : هو ما احتواه بطن الفلك . والعالم : جمعها عوالم ( بكسر اللام ) وفي التنزيل الكريم : ” الحمد لله رب العالمين ” . وعليه ، فان مصطلح ” العالم ” بالعربية هو اوسع من مصطلح ” World ” بالانكليزية. ويختلف مصطلح ” العالم ” عن مصطلح ” الكون ” Universe فالكون في اللغة العربية : مصدر كان التامة . يقال : كان يكون كونا اي وجد واستقر. وعليه ، فالعولمة هي الاقرب الى الـ Globalisation بالانكليزية او الى الـ Mondialisation بالفرنسية من الكوننة او ذاك المصطلح الغريب ( = الكوكبة ) الذي لا يمت الى الاصل بكل من الانكليزية او الفرنسية بشيىء . لقد استقر مصطلح ” العولمة ” في ثقافتنا نظرا لاقترابه الشديد من المصطلحين الشائعين في الانكليزية والفرنسية . ولكن يا للاسف تخلط الذهنية العربية ( العولمة ) بمصطلح آخر هو ( العالم ) وكثيرا ما نجد اليوم عند الكثير من الكتاب والمؤلفين والمفكرين والخطباء ورجال الدين وحتى المختصين : خلط بين ظواهر التواريخ العالمية بظاهرة العولمة نظرا لكونهم لا يفرقون بين المصطلحين أو انهم يعتبرونها مشتقة شكلا تاريخيا وهي جناية فكرية بحق الظاهرة وتفسيرها العلمي والاصطلاحي ! فالعولمة قد تقبل التعريف بأنها نزوع العالم المعاصر الى ان يصير واحداً بعد مائة سنة من اليوم ولكن لا تقبل ان يسحبها من ليس مالكا لزمامها كي يجد مشروعية قديمة لها في اعماق التاريخ !
ظاهرة العولمة : متى يدركها التفكير العربي المعاصر ؟
وخلال هذه السنوات الخمس الأخيرة ، ضجت الثقافة العربية المعاصرة بكتابات وندوات ومؤتمرات وملتقيات لا حصر لها عن ” العولمة ” : تفسيرات وشروحات وانشائيات ومساهمات واطروحات واسهابات ونقولات واستلابات وادعاءات انتهاء بالشتائم المقذعة عند اولادنا بالمدارس ووصل الامر في احدى الصحف ان يقول كاتب معروف بأن العولمة يونانية ورومانية ومصيرها مصير يوليوس قيصر ! ونقرأ في مكان آخر لكاتب ذائع الصيت بأن المسلمين هم من اوائل العولميين في التاريخ .. وان رسول الاسلام هو الذي خلق اول عولمة في التاريخ ! ويهب آخرون ليقولوا بأن الاسلام نفسه عولميا .. ونشاهد على احدى الفضائيات حوارا عن العولمة ، فيصفها الاول بنظرية استعمارية وليست بظاهرة كبرى ويصر على وجهة نظره وكأنه صاحبها !! والمصيبة ان من يكتب مثل هذه الكتب والمقالات لا يكلف نفسه المزيد من القراءات والفحوصات للعناية ليس بالمصطلحات والتعابير المخطوؤة فقط ، بل المضامين والمعاني والمعرفة .. ومشكلتنا العربية ان هناك من يسمع او يقرأ ويسكت ليس لأنه لا يعرف او لا يدرك او لا يفقه .. بل يعتقد بأن الموضوع ما دام جديدا ومستحدثا ، فهو لا يتعدى وجهات النظر وليس حقائق للامور يراد تشويهها .. واعتقد وربما كنت مخطئا بأن ليس هناك الا ارضاء عواطف الناس وامزجتهم السياسية والدينية على حساب المعرفة والفكر والمنهج وطبيعة العصر. ثمة مشكلة حقيقية اخرى ، فالقليل القليل من يرصد وينقد ويحاور ويناقش في المصطلحات والمعلومات الدقيقة والمفاهيم العليا ، اذ ازدادت التعبيرات والمسردات والنقولات والانشائيات والمنشورات ووجهات النظر والمكررات السياسية في الفضائيات والصحافة وحتى الحوليات التي تدعي نفسها ( اكاديمية محكمة )على علاتها .. وبات القراء والمهتمون العرب في تيه يمتلأ بالكتابات الفضفاضة والعقيمة التي تضرهم ولا تنفعهم أبدا ! ولقد تبلور كل ذلك من خلال الخلط المبهم بين المعرفي والايديولوجي .
لا تلصقوا ظواهر الغرب بالاسلام !
مناقشة افكار الاسلام والعولمة : دحض لهذه المزاوجة الوهمية
هنا لابد لي ان ارجع الى تحديد معنى هذه الظاهرة التاريخية التي لم تزل ملتبسة في تفكيرنا العربي المعاصر ودعوني احدد قائلا :
1/ ان مصطلح ” العولمة ” هو واحد وجديد اذ ليس من الذكاء ابدا ان نضيف من عندياتنا صفات له كما يحلو لنا ان نضيف فمرة نقول بالعولمة الاسلامية ومرة اخرى بالعولمة الحضارية ومرة بالعولمة المتوحشة ومرة بالعولمة الامريكية .. او الامركة المعولمة وهلم جرا ، ربما يضيف الصفة من يعمل في صميم ظاهرتها ولكن مجتمعاتنا لم تزل تقف عند هوامشها وحوافيها !
2/ ونسأل : لماذا لم يستخدم مصطلح ” العولمة ” قبل عشر سنوات مثلا مثلما يستخدم اليوم ؟ ولماذا نلصقه اليوم بكل ما نجده مناسبا لتسويق أي بضاعة . ربما يتم تسويق أي منتج عولمي معاصر اليوم ، ولكن ليس من حقنا ابدا ان نصبغ ديننا الحنيف في كل مرحلة تاريخية من مراحلنا الصعبة المعاصرة بصبغتها .. فما علاقة الاسلام بالعولمة ؟
3/ ليكن معروفا ان ليس هناك اية صلة للاسلام بظاهرة العولمة !! ولكن سيدخل الاسلام المعاصر في القرن الواحد والعشرين بطبيعة الحال في علاقة جدلية ربما متناقضة وربما متناسقة وربما متصارعة ومتصادمة مع هذه الظاهرة . وعليه ، فليس هناك اية علاقة لما جرى قديما وحديثا من ايام امتداد تاريخنا وحتى اليوم.
4/ ان العولمة تختلف جملة وتفصيلا عن ” العالمية ، فاذا كانت كل ظواهر التاريخ الكبرى منذ عصر فجر السلالات وحتى قبل عشر سنوات فقط ، هي عالمية محضة ، فان ظاهرة العولمة كونية بالضرورة ، ومنها : ثورة الكومبيوتر والمعلومات والانترنيت والفضائيات والفوريومات والديجيتاليات والتكتلات عبر القارات وثورة الجينوم والكونيات الصناعية وحرب النجوم والشركات متعددة الجنسيات وتطورات الغات وثورة الاتصالات واختراقات مسافات الزمن وجيوستراتيجيات المجالات الحيوية والاحزمة الجغرافية .. الخ
5/ لنكن اذكياء قليلا ولنفكر في ما نقول ولنفكر في دنيانا نحن العرب والمسلمين اليوم ونتساءل : هل نحن بعيدون اليوم عن العولمة التي غزتنا في عقر بيوتنا وهبت علينا في كل مرافقنا ؟ هل نحن لا نستقبل قنوات العالم الفضائية ؟ هل نحن معزولون عن القارات الاخرى ؟ هل ان قضايانا باقية ميتة في الادراج الخفية ؟ ألم نشارك العالم كله في قضاياه ومصالحه؟ كيف لنا ان نتعامل مع السيوف المسلطة علينا من دون معرفتنا بها ؟
6/ غيبوبة الثقافة العربية عن كل ما صدر في العالم عن العولمة وان ركاما هائلا من المعلومات والتحليلات والتجارب في منشورات لم يعرّب بعضها سوى كتابين او ثلاثة للاسف . لقد عرّبت في القرن العشرين عشرات الكتب عن ظواهر كبرى اخرى كالاشتراكية – مثلا – عكس ما تحتاجه ثقافتنا من ترجمات هزيلة عن العولمة عربيا .. وعليه نتساءل : اذا لم تتمكن الثقافة العربية من اولويات الظاهرة فكيف تستطيع المشاركة في اساليبها وحلقاتها المتنوعة ؟؟
العولمة : ظاهرة تاريخية في سلسلة الظواهر التاريخية الحديثة
لابد ان نخالف كل من يقول بأن العولمة قد بدأت بالاستكشافات الجغرافية في القرن الخامس عشر ، ذلك ان ظاهرة ” العالم ” هي غير ظاهرة ” العولمة ” – كما يشيع العديد من الكتاب العرب سواء من عندياتهم او من خلال ترجماتهم لكتب ومقالات تختلط فيها عليهم المصطلحات والمفاهيم وسعة حجوم الظواهر المركبة – ! ولكن دعونا نتسلسل في ظواهر تاريخ الانسان الحديث: الاصلاح الديني في القرن السادس عشر والثورة الماركنتالية العالمية في القرن السابع عشر ، والثورة الفكرية والسياسية في القرن الثامن عشر وظاهرة الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر وبتطور فكرة الاستعمار وولدت الظاهرة الكولينيالية في العهد الفكتوري ، ومن ثم تطور وسائل الانتاج والرأسمالية ونمط الانتاج الرأسمالي مما ساعد على تطور الحركات الطوباوية اولا والنقابية ثانيا والاشتراكية ثالثا لتغدو ظاهرة عالمية بولادة العالم الاشتراكي او ما اطلق عليها بـ ” الشيوعية العالمية ” التي قابلتها ظاهرة الامبريالية السياسية في الغرب مع ولادة ظواهر اخرى في القرن العشرين : النازية والفاشية والصهيونية وغيرها من التي حملت للعالم النمط الأوروبي سواء عن طريق المثاقفة أو عن طريق الهيمنة ، ناهيكم عن الثورة الديموغرافية التي ضاعفت تعداد البشرية في نصف قرن ممتد بين 1950 و2000 من بليونين ونصف البليون الى ستة بلايين نسمة ، واخيراً ثورة المواصلات والاتصالات وثورة تكنولوجيا الأقمار الاصطناعية والألياف البلورية البحرية، لكل العالم ان يكون حاضراً في كل العالم في الزمن .
ولادة ما اسمي بـ ” النظام العالمي ”
انهار الاتحاد السوفيتي عام 1992 وبدأت فكرة الاستقطاب العالمي أي انفراد قوة كبرى وحيدة في العالم تستحوذ عليها الولايات المتحدة الأمريكية التي تبشر بنظام عالمي جديد . وهذا ” النظام ” لا كما يربطه البعض من كتابنا وسياسيينا العرب بـ ” النظام الدولي ” ! فهو سعي امريكي من نوع لا سابقة له لاحداث البديل واقراره على العالم ليقبل به صاغرا او مستسلما او معجبا في القرن الجديد ! ولكن متى سيولد هذا النظام ؟ ومتى ستحدد له علاقاته الجديدة ؟ هناك تكهنات وتنبؤات جديدة وعديدة ، فالمرحلة حتى نهاية العقد الأول سيمر العالم خلالها بمخاض صعب جدا سيتخلى فيه عن نظام القرن العشرين ويدخل نظاما عالميا جديدا له سماته وخصائصه وتكويناته الجديدة . وعليه ، فان عدة دول ستتلاشى ، وان عدة نظم ستنهار ! وثمة خرائط سترسم بالقوة او بالسلم على الارض ، وسوف تزداد قبضة القوى الكبرى على المصالح الحيوية في العالم بانتظار توازن جديد ومرعب للقوى الدولية والاقليمية وحتى المحلية . وستكتفي اكثر من قوى في العالم بما سيصيبها .. وستلعب كتلة الاتحاد الأوربي ضمن سياقات تحالفية جديدة ومع دخول روسيا الاتحادية عضوة في حلف الاطلسي ، وسيتبلور دور الصين التي يبدو ان مصالحها الاقتصادية ستفرض عليها قبول النظام العالمي الجديد ضمن حسابات لا عهد للعالم بها من قبل .
استنتاجات
نستنتج من خلال هذه المقارنة التاريخية بان ميزان علاقات العالم في القرن التاسع عشر كان أوروبيا وقد اخترق العالم كله عسكريا كولينياليا . اما علاقات التوازن في القرن العشرين فقد كان الصراع فيه سياسيا ايديولوجيا بين كتلتي : شرق ـ غرب ضمن ما اسمي بـ الامبريالية ازاء الشيوعية العالمية . اما في القرن الواحد والعشرين فسيكون التوازن والصراع اقتصاديا وعولميا واعلاميا بين الشمال والجنوب ، أي ان انقسام العالم سيكون كابيتاليا من الناحية الكونية. أي بمعنى ان التكتل العالمي للأقوى سيكون في الشمال والتفكك في العالم هو في الادنى وعالم الجنوب انه يشمل على العالم الإسلامي وأفريقيا وامريكا الجنوبية . واذا كانت كل من القارتين الاخيرتين تحاولان ان تجد كل واحدة منها موطىء قدم لها ضمن سياقات جديدة ترتهنها الولايات المتحدة اليوم ، فان ارجاء العالم الاسلامي له تعقيداته ومشكلاته وازماته الصعبة وهو يقف اليوم من دون أي غطاء حقيقي يحميه من اتون الصراع الذي اسموه بـ ” صراع الحضارات ” ، ونخشى ان يدفع عالمنا الاسلامي كله ثمنا باهضا لوحده في رسم ابعاد المستقبل ، خصوصا وانه يمتلك مجالات حيوية جدا ، وثروات هائلة جدا ، ومناطق استراتيجية في قلب العالم .
وعلينا ان نفهم بأن نظاما عالميا جديدا تقوم صياغته اليوم على اسس تاريخية جديدة سيحل محل ما تعارف عليه العالم كله من النظام الدولي . وعلينا ان ننتبه ليس الى استخدام المصطلحات والمفاهيم والتعابير استخداما صحيحا فقط ، بل لابد ان ندرك ما تحتوي عليه من المضامين الخطيرة ، ونفهم ما يحصل من متغيرات صعبة وتحولات مؤثرة ! فهي ليست كما يصفها البعض من كتابنا ومفكرينا العرب بـ ” اللعبة ” ، كما ورثوا ذلك من ادبيات القرن العشرين ! انها ليست ” لعبة الامم ” السياسية ، بل تأسيس نظام تاريخي عولمي جديد له آلياته وعناصره التي ستكون نتائجها مخيفة ومرعبة من خلال تطبيقات القوى الجديدة في عالم اليوم ، وما دورها في تغيير خارطة العالم الجغرافية وخصوصا في عوالمنا الاسيوية والافريقية من عالم الجنوب ، أي بمعنى : العالم الاسلامي ضمن خلخلة المناطق والمجالات الحيوية .. وما تأثير ذلك كله على عالمنا العربي والاسلامي ؟ وهل ندرك ما ستقود اليه جملة تلك التغيرات على مصيرنا ومستقبلنا في هذا الوجود ؟؟ وما هي المشكلة الشرقية التاريخية التي تنتظرنا في هذا القرن ؟ انها ستنبثق حتما من ثنايا الصراع الذي يشيعونه منذ قرابة عشر سنوات باسم ” صراع الحضارات ” بين الشمال والجنوب !
العولمة وموقعها من مساحة التفكير المعاصر
اذن العولمة ظاهرة موضوعية وليست ذاتية ابدا ، ولكن اين تقع من مساحة التفكير العربي المعاصر ؟ لقد نجح البعض من الزملاء والاصدقاء الكتاب العرب في التوصّل الى اجابات جد مهمة في تفسير الظاهرة وتفكيك عناصرها سواء من كان مؤيدا معها ام كان معارضا لها ، وقلما نجد تفكيرا حياديا ازاء كل معالمها .. وعليه لم يستطع المفكرون العرب ان يصلوا الي اجابات قاطعة على اسئلة لا حصر لها ، فهناك من رأى في العولمة مرحلة انتقالية شديدة المراس إلي زمن دولي مجهول الابعاد والمضامين، ولكن بالنسبة لآخرين فان تلك المرحلة ليست مجهولة الابعاد بل تتسم بتعددية مراكز القوى وتوازنها النسبي عبر مرحلة انتقالية تبرز فيها الولايات المتحدة كقطب وحيد للعالم . وهناك من فسرها على ضوء معارضته الايديولوجية الشديدة ضدها فاراد اقترانها بالاستعمارات القديمة والحديثة وتقسيم تطوراتها الى ثلاث مراحل متتالية هي: مرحلة الليبرالية الوطنية ثم مرحلة الاجتماعية الوطنية ثم مرحلة الليبرالية المعمولة، وهناك من يقف في وسط الجانبين ويعلق بأن البشرية على مفترق طرق: اما اعادة انتاج نظام الهيمنة، او خلق ما بعد الهيمنة، والذي يستمد مضمونه من ارضية مشتركة بين التقاليد المكونة للحضارة الانسانية، أما اخرون فلهم رأي مختلف كثيرا اذ يعتبرون النظام العالمي الجديد هو امتداد للنظام العالمي القديم واعادة انتاج للرؤية المعرفية العلمانية للامبريالية . ( قارن بين اراء كل من : سمير امين وانور عبد الملك وسيار الجميل وهم اول من كتب في العولمة من العرب وألّفوا فيها ونبهوا الى مخاطرها منذ مفتتح بداية عقد التسعينيات مع اراء السيد ياسين ومحمد السيد سعيد وعبد الوهاب المسيري .. ) .
وهناك من يؤكد بانها تبلورت مترافقة من انتهاء مرحلة النظام الدولي القائم علي توازن القوي بين القطبين الكبيرين، الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، وبانهيار الاتحاد السوفييتي اعلن عن انهيار للمنظومة الاشتراكية والتي هي النقيض الايديولوجي للنظام الرأسمالي ( انظر افكار : سمير امين واسماعيل صبري عبد الله ورمزي زكي )، ولقد تبلور عن ذلك تفرد الولايات المتحدة الامريكية كقطب وحيد في العالم يسيطر على المجالات الحيوية في العالم ، اي بمعنى الهيمنة على اقتصاد السوق، وسيادة الثقافة الامريكية كثقافة عالمية، وهذا ما هو حاصل اليوم .
والعولمة تبني نظامها على انقاض الدولة الوطنية حيث يجري تفتيت الوحدات، والتكوينات السياسية کالدول الى كانتونات، ودويلات صغيرة ضعيفة، ومهزوزة، ومبتلية بالكوارث، والصراعات، والازمات ( ويمكن مراجعة افكار كل من : خلدون النقيب وبرهان غليون وعصام خفاجي وجلال امين وبول سالم وغيرهم ) . واقول انه الذين يختلفون مع هذا الرأي فانهم يقرون بأن العولمة، وان لم تؤد بالضرورة الى قهر الدولة الوطنية لصالح جماعات تحت او فوق وطنية، فأنها حتما ستؤدي الي تغير جوهري في مضمون ووظيفة الدولة. وان ذلك التغيير في دور الدولة يؤذي مضمونها فهي لم تعد مستودعا للهوية والذات ، وان المصالح المستحدثة ربما لا تتطابق مع الدولة الوطنية، وتتراءى مسألة الهوية من زاويتين اثنتين: اولاهما تكبيرية اممية او عابرة للحدود مثل حال الهوية الاسلامية، وثانيهما تصغيرية تعكس انتماء جماعة عرقية قد تكون متناهية في الصغر كما هو الحال لبعض انتماءات عرقية وقبلية في اسيا وافريقيا . وقد قدم البعض من الكتاب جملة من المستلزمات بصدد الهوية والانتماء والقيم ازاء العولمة ومنهم : حسن حنفي ورضوان وسعيد حارب المهيري السيد ياسين ومحمد عابد الجابري واحمد صدقي الدجاني وغيرهم ) .
ان العولمة ايضا هي ظاهرة تحتوي على ثورات قوية في داخلها استلهمتها عن الثورة الصناعية والتكنولوجية على امتداد القرن 20 وهي تحكم العالم اليوم بكل ما وصلت اليه المعرفة الانسانية ( ويمكن مراجعة افكار وتحليلات انطوان زحلان ونادر فرجاني في هذا الصدد ) . اما عن الادوار الاخرى الثقافية والاعلامية والاجتماعية .. فثمة افكار رائجة متضاربة وعديدة لعدد من الاخوة الكتاب والمفكرين العرب الذين يتضخم عندهم الذاتي على حساب الموضوعي دوما ، بل وان ما يروج في هذا العصر عن العولمة افكارا وتطبيقات تجعلهم يدلون بارائهم التي يبدو قسم منها متسرعا وخصوصا تلك التي يتناولها رجال من علماء الدين في الفضائيات العربية او تأتي من قبل ساسة وصحفيين وكتاب اعمدة يومية .. يتخذون مواقفهم مما يسمعونه من شعارات رائجة في الاذاعات والفضائيات من دون اية قراءات علمية في مصادر حقيقية .
ويأتي دور العولمة الثقافية والميديا الاعلامية التي تعتبر بالنسبة للمجتمعات العربية من اخطر العوامل والتي عالجها العديد من الكتاب العرب في كتبهم ومقالاتهم ، واعطوا مقترحات عملية بصدد تأثير مخاطر الثقافة الكونية والانفتاح غير المبرمج بين اجزاء واسعة من العالم ( ويمكن مراجعة ما كتبه كل من : محمود عبد الفضيل وسعد الدين ابراهيم ومنير الحمش وتركي الحمد وعبد الخالق عبد الله.. وغيرهم ) وكثيرا ما شاعت مقالات عنيفة في الصحافة العربية ضد العولمة والعولمة الثقافية بالذات كتبها كتاب عرب اسلاميون وقوميون يؤمنون بخصوصياتهم .. من دون تقديم اية بدائل حقيقية لما يمكن فعله وعمله فهذا المجال علما بأن العرب دولا ومجتمعات لم يعد باستطاعتها ايقاف عجلة العولميات الميدية وثورة الاتصالات والفضائيات والاعلاميات المباشرة وشبكات الانترنيت وانسجة الديجيتالات .. الخ .
ما الذي يمكن قوله ؟
ان العولمة ستترك تأثيراتها على الواقع العربي ، ويتضمن الخطاب العربي المعاصر اليوم اعلى درجات الذاتية من التخوفات على الواقع والمصير علما بأن اغلب المفكرين العرب يطمحون الى التغيير ولكن ليس على الطريقة العولمية مع اقتناع بعضهم بضرورة العولمة ، ولابد من اتخاذ اجراءات وقائية ليس للاحتراز من الظاهرة ، بل للتقليل من مخاطرها العاتية سواء على الدول والمجتمعات .. الخصوصية والقيم والاخلاقيات . ان هذا الخلاف الذي يتضمنه الخطاب العربي المعاصر يعكس نفسه علي طريقة التعاطي مع الظاهرة نفسها . ويحتدم الخلاف بين انواع المفكرين والمثقفين العرب وخصوصا في بدايات القرن الواحد والعشرين ، فهناك محافظون اسلاميون متنوعون وهناك ليبراليون متحررون ومتغربون وهناك راديكاليون ماركسيون واشتراكيون .. وهناك قوميون ناصريون وبعثيون .. هناك متخصصون ومؤدلجون واعلاميون وسياسيون .. الخ فالعرب جميعا وبمختلف مواقفهم ومواقعهم وعناصرهم وانتماءاتهم انخرطوا في هذا العصر وبدأوا يعيشون في عصر العولمة ولم يدركوا حتى اليوم اساليب الانسجام والتعامل مع الظاهرة من الناحية الموضوعية من اجل بناء المصالح العربية في المستقبل .
نستنتج ان العرب لم يستطيعوا توظيف تطورات العصر بما يحقق مصالحهم الاستراتيجية . ولم يفهم العرب علي امتداد القرن العشرين حركة التاريخ .. فكان ان خسروا جولتهم باجترار الشعارات وتوارثهم المسميات والمثاليات والطوباويات ، بدل محاكاة الواقع والمضامين والفهم والتهيؤ والتسلح بمواجهة المشاريع المضادة او المؤامرات الخطيرة، او حتى المجادلات المحاكة لقضاياهم وتناقضاتهم.
اشكركم على حسن اصغائكم والسلام عليكم .
شاهد أيضاً
انقسام العالم الإسلامي والتصدعات الاجتماعية في الشرق الاوسط… 2007 جواز مرور صعب
مختصر مترجم للمحاضرة التي القاها الاستاذ الدكتور سّيار الجميل في منتدى دراسات المستقبل المنعقد في …