نص مسجل ومختصر لمحاضرة الاستاذ الدكتور سّيار الجميل الشفوية التي ألقاها في منتدى المثقفين العراقيين
مساء يوم الاربعاء 13 ابريل 2005
ايها الاخوة ايتها الاخوات
مرحبا بكم واسعدتم مساء مثمّنا حضوركم هذه الامسية الرائقة في هذا المساء الجميل ، وأشكر القائمين على المنتدى الثقافي العراقي على دعوتهم الكريمة لي .. وكل الاخوة والاخوات الذين كرّموني اليوم والاصدقاء الاعزاء بما قدّموه من حسن الكلام عنّي والذي لا استحقه ابدا ، ودعوني أقدّم بعض الافكار المغايرة التي ربما تثير التفكير وتحّي المسكوت عنه في ما نقدّمه من تحليلات عن العراق في واقعه السياسي المضني ومستقبل العراق في الافق القريب والبعيد .. وهو يمر بأصعب مرحلة تاريخية في حياته .. ودعوني ايضا ، انطلق من مقدمة لأركز على ثلاثة محاور اساسية ، ثم انتهي بالاستنتاجات والرؤية المستقبلية والوصايا السبع التي اراها ضرورية للعراق ، وسواء كنت على خطأ ام صواب ، فهي مجموعة اجتهادات تمّثل عصارة معرفية ازعم انها طيبة ومفيدة انتجتها اتعاب اكثر من ربع قرن ، واستخلصتها من قراءات هذا العراق ودروسه والتأمّل في تكويناته التاريخية وبكل مفاصله الاجتماعية ومراحله السياسية واساليبه الثقافية .. وساكون حياديا ما استطعت من اجل طرح معرفي ومعالجة نقدية ودرس مقارن .
معنى العراق ومركزيته في التاريخ والجغرافيا
لا اقصد بمصطلحه بقدر ما اعني مضامينه التي تتميز بتعقيداتها على مر التاريخ ، خصوصا اذا ما علمنا بأن اي واقع سياسي للعراق يمّثل صفحة صعبة جدا من التحولات وان لا فهم لأي واقع سياسي في العراق ما لم يدرك واقعه الاجتماعي بكل ما يحفل به هذا الواقع من تراكيب وتنوعات .. انه نسيج متباين ولكنه متلاقح مع بعضه ومتعايش معه حضاريا ان لم يكن سياسيا ، ولما كان هذا الواقع الاجتماعي يتصّف بمثل هذه الندرة البالغة ، فان اي واقع سياسي للعراق هو انعكاس حقيقي للواقع الاجتماعي وهذا ما وجدناه دوما على امتداد عصور شتى . وعليه ، اقترح على الاخوة الاعزاء ان يتاح لي المجال في وقت آخر كي ألبي الدعوة من اجل ان احّلل الواقع الاجتماعي في العراق ومستقبله برؤية مغايرة هي الاخرى .. من اجل الوقوف على التناقضات الخفية والمعلنة التي صنعت حياتنا السياسية والتي كانت عليه في العهد السابق بكل تصادماتها وتراجيديتها المريرة .. او كما تبدو عليه اليوم خلال سنتين من سقوط النظام السابق . وهذا ” المعنى ” هو الذي يحيلنا الى القول – بكل تأكيد – بأن العراق يمتلك تاريخا ثقيلا جدا على امتداد العصور .. ثقيلا جدا ، ولكن اين يكمن ثقله ؟ أجيب : يكمن ثقل العراق في قيمته التاريخية والجغرافية معا ..
انه بلاد الشمس كما سميت منذ الاف السنين : بلاد انسان ما قبل التاريخ وبلاد التجمعات عند الضفاف .. بلاد ما بين النهرين : دجلة (= تايكرس : سريع الجريان) والفرات المعروف كل منهما بعذوبة مياهه في هذا العالم .. بلاد اول قرية واول زراعة واول مدينة واول معبد واول الديانات واول الملاحم والاساطير واول الكتابة واول الدول واول مسّلة للقوانين واول العربات واول المكتبات واول الوثائق الرسمية واول الاختام واول المدونات واول الموسيقى واول الاسلحة والجيوش واول الحدائق والجنائن المعلقة .. الخ فمن دواعي اعتزاز العالم كله ان يقول بأن وادي الرافدين مهد اولى الكلاسيكيات وبلاد اولى الحضارات البشرية في التاريخ .. وأسأل من يستمعني : هل هكذا بلاد ثقيلة جدا يكون مصيرها كالذي نجده اليوم عند مطلع القرن الواحد والعشرين ؟ واذا كانت تمتلك عراقتها من مركزيتها التاريخية ، فان مركزيتها في المكان والجغرافية تثير الجدل والتفكير معا .. انها قلب هذا العالم سواء كان القديم منه بقاراته القديمة الثلاث ، او قلب عالم اليوم بقاراته كلها . والعراق قلب الشرق الاوسط اذ يتوسطه جيوستراتيجيته بين ابعاد البحار الاربعة : المتوسط والخليج وقزوين والاسود . ولكم اخواتي اخوتي ان تطلّعوا على ما قدمته في نظرية الدواخل والاطراف والتحول من مثلث الازمات الى مربع الازمات في الشرق الاوسط منذ اكثر من عشر سنوات ( انظر كتابي : العولمة الجديدة والمجال الحيوي للشرق الاوسط : مفاهيم عصر قادم ، بيروت 1997 ) .
لقد وجدت منذ العام 1993 ، بأن العراق يمثّل مركزية المجال الحيوي للشرق الاوسط ودواخله وكل أطرافه المحيطة به التي تتأثر به تأثيرا مباشرا ، ولا يمكنها الحياة من دونه مطلقا ، ولي في الكتاب المذكور جملة من التوقعات المستقبلية ، اذ سجّلت بعضها ، متمنيا ان ترجعوا الى الكتاب المذكور لتجدوا بأن ما توقعت حدوثه وقت ذاك قد حدث فعلا ، ولكن ليس في الـ 2009 كما قلت ، بل في مطلع هذا العقد ! كان البعض من اصدقائي يسألونني عن توقعاتي في نهاية صدام حسين وحكمه ومنذ العام 1991 و1992 ، فكنت أجيبهم بأن نهايته ستكون في العام 2009 . كانوا يقولون : وهل سيبقى الحصار الاقتصادي على العراق حتى ذلك الوقت وهم يرشقوني بتعليقاتهم غير مصدّقين ما اقول ؟ فكنت اجيبهم بأن الحصار الاقتصادي سيختفي مع رحيل صدام عن حكم العراق .. كنت ادرك بأن صداما لا يمكن ان يبّدله او يغّيره او يثور عليه شعبه نظرا للقسوة اللامتناهية التي اتصف بها في تصفية كل من يخالفه اذ يمحقه ويمحق اهله لسابع درجة من الوجود .. ولكنني كنت أدرك ادراكا عميقا بأن صداما قد دّول المسألة العراقية ، وما دامت القضية قد دوّلت ، فمن الصعب اخراج صدام من عنق الزجاجة .. خصوصا وانه قد اختار المواجهة مع العالم بعقلية بدائية وبمراهنات آنية .. ذلك ان صداما كان ناجحا في تكتيكاته ولكنه فاشل في صنع القرارات الاستراتيجية ، فكل قراراته الاستراتيجية قد اخذت العراق والعراقيين الى التهلكة وبئس المصير ! ومن له القدرة – هكذا تعلمت من قراءة التاريخ الاوربي – على ان يواجه العالم ويدّول قضيته ، فلقد خسرها وخسر نفسه وبلاده وخسر الدولة ومؤسساتها . أما لماذا أخترت العام 2009 ، فذلك نتاج حسابات تاريخية عندي اعذروني انني لا استطيع البوح بها فهي اسرار مهنة خطيرة !
قيمة العراق الثمينة التي لا يعرفها العراقيون
من المؤسف حقا ان العراقيين ابناء العراق لا يدركون قيمة بلادهم ابدا ، وهم لا يعرفون أيضا حجم التحديات والمخاطر التي تواجهها بلادهم محليا واقليميا ودوليا خصوصا اذا ما علمنا بأن بعض العراقيين قد وصل بهم الامر الى كراهية اسم العراق ، بل ويحتقر بعضهم كل وجوده .. لقد سمعت احدهم يوما وقد كان قد خرج من سجن قصر النهاية الرهيب مضطربا معتوها انه يلوم ( قدره ) لماذا جعله عراقيا وهو يكفر بكل الكائنات العراقية ؟؟ ويبدو لي بأن انفصالا حقيقيا سايكلوجيا قد حدث بين العراق من طرف وبين كثير من العراقيين من طرف آخر ! بل وتصل درجة التناقضات الى حد لا يمكن تخّيله ، وثمة ازدواجيات وثنائيات وتعدد انتماءات وتنوع ولاءات قد خلق جملة هائلة من التيارات والافكار والاتجاهات .. فهل يمكن لأي عراقي ان يكون فوق كل الانتماءات والثنائيات والميول والعلاقات ؟ هل له القدرة على ان يلغي من تفكيره وسايكلوجيته كل ما يتعلق به وباهوائه او شخصه او عشيرته او طائفته او مذهبة او جنسه .. ويتمسك بعراقيته فقط ، كما هو الحال في كل المجتمعات في كل هذا العالم الواسع !
والعراقيون ايضا ، لا يمكنهم ان يوظفوا اي منهج او اسلوب او حوار او تفكير او اجندة سياسية وطنية عراقية الانتماء والهوية والهوى قبل اي مذهب او دين او طائفة او عشيرة او قبيلة او مدينة او اقليم .. الخ وعليه ، والحالة واسعة من التناقضات والتصادمات المريرة ، تجد بأن اغلب العراقيين ليس باستطاعتهم نقد اوضاعهم انفسهم بأنفسهم ولا نقد مجتمعهم ولا نقد تواريخهم ولا تجاربهم ولا نقد عاداتهم أو تقاليدهم وتصرفاتهم .. فكيف باستطاعتهم نقد ذواتهم والاخرين حتى يكون باستطاعتهم اعادة النظر بتفكيرهم السياسي .. علما بأن ليس هناك اي بناء سايكلوجي وطني حقيقي من دون درس التجارب السياسية والاعتراف بالخطأ والتعّلم منه .. هكذا نجد بأن من لا يستطيع نقد الاوضاع ، فهو يهرب منها ويغدو عدوا لدودا لها . وعليه ، فلقد وجدت بأن العراق على امتداد التاريخ كان جاذبا دوما للطارئين وطاردا دوما للقاطنين !
ان العراقيين اليوم بحاجة ماسة الى الشفافية بعيدا عن الغلو والتعصّب والتطرف وعليهم ان يؤسسوا مشروع غلاسنوست عراقي يتضمن ثلاثة مبادئ وقيم اساسية ، هي :
اولا : تقّبل الرأي الاخر ، فاغلبهم لا يمكن ان يرضوا على شئ وان قبلوه ، فسرعان ما ينقلبوا عليه ..
ثانيا : وعليهم بالواقعية البراغماتية فهم أناس عاطفيون جدا في تقييمهم للامور يتسرعون فيفشلون ثم يندمون على ما صنعوه بايديهم او ما قالوه على السنتهم او حتى لما لم يفكرّوا فيه ، اذ يتهم اهل العراق دوما بالعاطفة المتوقدة والتسّرع والتفّرد من دون القبول للاستماع الى الاخرين ..
ثالثا : وعليهم بالموضوعية تقبل النقد وهم لا يعترفون باخطائهم بسهولة ولا يتنازلون واحدهم للاخر كيلا تأخذهم العزة بالاثم اذ يعتبرون اي تنازل بمثابة سواد للوجه !
ان هذه الضرورات الثلاث لابد ان تدعمها الموضوعية والحيادية والوسطية في تقييم الاوضاع والشخوص والاحداث .. من دون اي تخندق ولا خلق مواجهة لا لزوم لها . ولقد ازداد شراسة التناقضات وطفت على السطح بعد ان كانت مختبئة او نائمة على عهد الطاغية ، فلنا ان نقيس حجم التصادمات والعراق يعيش فراغا سياسيا رهيبا .
الثنائيات العراقية وليدة شتى التناقضات بين الشارع والمشروع
عاش العراقيون طوال احقاب تاريخية في جدلية صعبة جدا ، اذ كانوا متخندقين منذ قرابة الف واربعمائة سنة ضمن ثنائيات واضحة ، وخصوصا بين خط شارع سياسي وخط مشروع حضاري ، ولم يلتقيا الا لماما . ومن المفجع انهم بقوا يستلهمون الافتراق من اسس تلك الانقسامات الحادة ويعيشون على تشظياتها . وعليه ، فان الثنائية ( او : الازدواجية ) في الذهنية العراقية والتفكير معا قد ولدت كل مشكلات العراق الداخلية ، بل وولّدت عنها كل الصراعات السياسية العراقية على امتداد تاريخ طويل جدا ، والتي تكمن من ورائها جملة هائلة من الاسباب والمسببات والدوافع والمعلولات التي قد تبقى خفية مسكوت عنها ، وهي تذكي تحت الرماد نارا كي تندلع بين زمن وآخر ضمن مسمّيات شتى . دعونا نتوقف قليلا على معنى الانقسام التاريخي في العراق بين اتجاهين اثنين عبر التاريخ ، هما :
اولا : شارع الخط السياسي الصعب والدموي المرير.
ثانيا : مشروع الخط الحضاري والثقافي والابداعي المدهش .
خّطان طويلان لا يلتقيان الا لماما ، فتجد تاريخ العراق السياسي منذ القدم صعب ودموي وتزدحم به الكوارث والانتفاضات والاستبداد والقمع ومشروعات القتل وقطف الرؤوس وما صدام حسين الا واحدا مّثل هذا الخط افضل تمثيل .. انه خط شارع عنيف يعمل على تهميش الخط الثاني الذي يمثله المشروع الحضاري . وتجد تاريخ العراق الحضاري منذ القدم مبدع ومدهش قدّم للانسانية اعظم المنجزات وازدحم فيه الفلاسفة والعلماء والادباء والفقهاء والشعراء والاطباء والرواة والنحاة والمؤرخين واصحاب المدارس من اللغويين والمترجمين والمثقفين العظام .. وكم تعّرض المشروع الحضاري العراقي في خطّه الرائع لهجمات مرّوعة من قبل اصحاب خط الشارع السياسي وكل من يمثل هذا الشارع من جبابرة عتاة وبرابرة طغاة مستبدين وقادة وحكام ومسؤولين جلادين .. ويمكننا ان نسجل هنا – مثلا – ثنائية ظاهرة متصادمة شاعت في كل من العراق والاندلس قبل اكثر من الف سنة ، تلك هي ” الشعوبية والعروبة ” ، فالشعوبية ذهب ضحيتها في العراق اروع الناس بعد ان اتهموا بها او بالزندقة ومنهم – مثلا – ابن المقفع الذي وضع حيا في تنور واجلسوه على مسامير وسجر التنور به ! فتخّيل الصورة التي انتهى اليها احد ابرز مثقفي العراق !! وتطال الثنائيات بين السياسة والابداع كل من الامام جعفر الصادق ومن اتى من بعده ، وتلميذيه ابو حنيفة والشافعي فسجن الاول وهرب الثاني وعانى ابن حنبل .. ولا ننسى مصرع المتنبي ومأساة الحلاج ومعاناة اخوان الصفا والمرجئة والاشاعرة وكثير غيرهم ممن عرفهم مجتمعنا منذ مئات السنين .. وتبقّى التهم تكال ضد هذا وضد ذاك في ظل مسمّيات دينية او سياسية ليس الا ، اي ضمن صراع الشارع ضد المشروع ، مرورا بكل السكونيات والانعزالات ووصولا الى شارع صدام المتبلد ازاء مشروع عمالقة العراق الاذكياء !!
هذه الثنائية لابد من الوعي بها من اجل الدعوة لتجسير العلاقة المستقبلية بين الطرفين ، اذ لا يمكن للسياسيين ان يمتهنوا العراق من دون اي تجسير بينهم وبين المثقفين والمختصين .. ولا ننسى الثنائية التي أكّد عليها الاستاذ الراحل علي الوردي بين البداوة والتمدن في العراق والتي لازمت تاريخ العراق منذ مئات السنين .. ولابد لي ان اذكر شيئا عن ثنائيته الشهيرة فلقد كنت قد التقيت بالاستاذ الوردي في آخر لقاء لي معه في كونتينتال عمّان بالاردن في العام 1996 ، فقال يسألني : سمعت انك تزيد على الثنائية العراقية شيئا فتغدو ثلاثية الابعاد ، اصحيح ذلك ياسّيار ؟ قلت له : صحيح ان سمحت لي ، انني اضيف ( الريف العراقي ) فطبع البداوة مستفحل ومتغلغل في العراق ، ولكن لا تنسى بأن ريف العراق لم يكن بدويا بكل اصنافه وتنوعاته القديمة ، ولكنه بقي مسحوقا ومقموعا على امتداد مئات السنين وما ثورة الزنج ايام الثورة الزراعية ابان العهد العباسي الاول مرورا بقمع بعض الاقليات وصولا الى تجفيف الاهوار العراقية قبل سنوات الا بعدا ثالثا في حمأة الصراع .. ممّا ولّد عند الناس الطيبين في الريف ذلك الشعور المزمن بالكبت والتوجس والعزلة والتحسس بالعذابات ! قال – رحمه الله – : صدقت اريدك يا سّيار ان تكتب رؤيتك التاريخية للمجتمع العراقي ! فانا عالم اجتماع كتبت عن تاريخ المجتمع العراقي ، ولكنك مؤرخ يمكنك ان تكتب طبيعة المجتمع العراقي لتعرف الناس بما هي حقائق ذلك المجتمع !
ثنائية التناقضات العراقية المعاصرة
ثمة ثنائية معاصرة اخرى انتجت ثنائيات وتناقضات لا حصر لها ، ومنها ما ساد في تاريخنا العراقي المعاصر منذ العام 1909 وسيبقى ذلك حتى العام 2009 ، اي بمساحة زمنية يقّدر عمرها بمائة سنة .. انها مواجهة ثنائية صعبة كلفتنا الكثير الكثير نحن العراقيين المتنوعين وخصوصا من حياتنا وثرواتنا وخيراتنا واستقرارنا السياسي وتدخلات الاخرين في شؤوننا .. انها مواجهة ثنائية لصراع واضح بين الوطني العراقي من طرف وبين القومي العربي من طرف آخر .. علما بأن العروبة الاجتماعية هي غير القومية العربية – كما اشير الى ذلك دائما في كتاباتي ومؤلفاتي – ، فمنذ العام 1909 ولد الطيف القومي في العراق الذي بدأ عروبيا نظيفا ولكنه انتهى شوفينيا قذرا .. وبموازاته ايضا ولد منذ العام 1909 الطيف الوطني في العراق الذي بدأ غريبا ومهمّشا وعاش مأكولا مذموما وانتهى مذبوحا في واقع كهذا الذي نعيشه ايها الاخوة في كل مكان.. نعم لقد ذبح الطيف الوطني في العراق بعد ان تفكك الطيف القومي الشوفيني الذي لعب ما استطاع ان يلعب في مقدّرات العراق السياسية والاجتماعية والثقافية !
واليوم نحن نعيش ثنائية من نوع آخر ستستغرق بنا زمنا آخر من دون ان يدرك ابناء العراق جميعا اين تكمن مصالحهم العليا مع الاسف الشديد .. انهم يعيشون اليوم ثنائية : الدين والدنيا ، او بين الاسلام السياسي والعلمنة المدنية . ولكن كيف ولد هذا الانقسام ؟ أو بالاحرى : كيف نقسم تاريخنا المعاصر الذي ولد عنه واقعنا السياسي اليوم وهو جزء منه متلاقح معه ومنتج عنه ؟
ان العام 1909 علامة تاريخية فارقة لعقدين من السنين شهدا تكوين جيل سياسي جديد ، كان قد ولد في حدود سنة 1989 ، وعمر الجيل بتقدير ابن خلدون وكارل مانهايم ( واخوكم المتحدث ) هو المقّدر بـ 30 سنة ( ويمكن مراجعة كتابي المجايلة التاريخية : فلسفة التكوين التاريخي المنشور 1999 حول تفصيلات ذلك ) بمعنى : ان تاريخ العراق ( وغيره من التواريخ ) قد مّر بجيل الاستنارة الاولى من الافندية المثقفين والضباط الاقدمين 1989 – 1919 ، وولد جيل تكوين الدولة عام 1921 بعد احتلال العراق 1914 – 1918 من قبل الانكليز ليؤسس العراق المعاصر ذلكم الجيل الوطني الليبرالي 1919 – 1949 وفيه تنبثق الراديكالية العراقية على يد الشيوعيين العراقيين القدامى لتشكّل نقيضه ، ولكن الدولة القومية في العراق التي اسموها بـ ( بروسيا العرب ) اثمرت ثمرة مناقضة للوطنية الليبرالية والراديكالية معا ممثّلا بجيل القومية العربية 1949- 1979 وفيه انبثقت الاحزاب القومية والحركات الفاشية على شكل تنظيمات لتنّكل بالليبرالية الوطنية والراديكالية الوطنية معا .. وقامت القومية العربية بسرقة منجز 14 تموز/ يوليو 1958 لها بعد ان قام بها البرجوازيون المحليون الوطنيون والطبقة العاملة والضباط العسكريون العراقيون . لقد سرقت اغلب المنجزات العراقية السياسية والاقتصادية ، بل ووظفت توظيفا سيئا في العراق لتخلق انشقاقات وصراعات دموية لم ينسها العراقيون الذين عاشوا تجاربها المريرة في القرن العشرين ، وخصوصا في العام 1959 والعام 1963. عندما غرق العراق بحمامات الدم التي اجرتها الصراعات السياسية البليدة .
ولعل ابرز علامة تاريخية فارقة للشوفينية قد تجسّدت في العام 1963 ولكن ظاهرة القومية العربية انتهت في العام 1979 مع جيلها وبقيت تلعق جراحها كي ينبثق جيل عراقي جديد مع حدثين تاريخيين كان لهما تأثير بالغ في حياة العراق والمنطقة ، وهما :
اولا : الثورة الايرانية التي شالركت في صنعها كل التيارات السياسية والراديكالية والوطنية ليستعيرها الاسلاميون بقيادة الامام الخميني ، فتغدو ( اسلامية ) بترويج متعمد في العالم كله وتبدأ حياة دولة اسلامية تحد العراق شرقا ..
ثانيا : تسّلم صدام حسين القيادة ووصوله الى سدة الحكم العليا وانفراده بالحكم وضربه رفاقه في الحزب وبدايات اندلاع الحرب القذرة بين العراق وايران .
ان ما انتجهما كل من الحدثين الاثنين في اعلاه قد تمّثل بتدفق تيارات دينية اصولية اسلاموية بدأت قليلة في المرحلة الاولى ثم تكاثرت بشكل مذهل مع افول القومية العربية التي غدت احزابها وتياراتها وحركاتها كسيحة وبليدة واكثر شوفينية مع غزل وتقارب من الاسلاميين ولأول مرة نجد ملتقيات دينية اصولية تجتمع مع قومية شوفينية ، علما بأن اغلب الاحزاب القومية كانت تعلن علمنتها على الناس .. فبانت ضحالتها وهي تسعى الى غايتها مبررة وسيلتها من اجل البقاء والمحافظة على وجودها !
ومع ازدياد حدة التناقضات السياسية والصراعات الدموية التي وصلت الى اوجها ، بل واصطبغ العراق لأول مرة في تاريخه بسياسات التدّين التي لم يعرفها ابدا طوال حياته .. ولم يتوقف الامر على تأثير ايران ، بل عمل النقيض صدام حسين على اذكاء ما اسماه بالحملة الايمانية للوقوف في الضد .. وعليه ، فلقد اشترك العاملان في صناعة جيل اليوم .. انه الجيل الذي يمتد بين 1979 – 2009 . وللعلم رجاء فأن العراق لم يحكمه طوال التاريخ اي رجل دين ابدا ، فالخلفاء العباسيون لم يكونوا برجال دين ولا فقهاء ولا ائمة ولا ملالي ، اذ كانت هناك على الدوام : طبقة من الفقهاء وعلماء الدين ومؤسسي المذاهب على خلاف دائم مع رجال الحكم .
العراق والاحتلال
الاحتلال : قدر العراق الصعب على امتداد التاريخ ! والاحتلال اليوم له غرابته على كل العراقيين المعاصرين لأنهم لم يتربوا على ان يجدوا عساكر اجنبية على اراضيهم أبدا .. علما بأن هناك قطاعات واسعة من العراقيين في الشمال والجنوب او حتى في الوسط تقبل بالاحتلال الامريكي ثمنا غاليا للخلاص من حكم طاغية ما كان له ان يرحل الا بقوة دولية وحرب مدمرة .. في حين ما مرّ قرن من القرون الا ويعيش العراق احتلالا اجنبيا يأتيه من وراء الحدود ! انه التحدي الفعال الذي يدّمر النفس والانسان قبل ان يدّمر الاشياء والتشيؤات . العراق قدّر له على امتداد التاريخ ان يكون مركزية عالمية للتجاذب بين القوى الكبرى في العالم مذ افتقد قوته الامبراطورية وسطوته التاريخية في العصور القديمة .. لم يخلص العراق من بطش داريوس الثالث الايراني الا على يد الاسكندر المقدوني عندما هزمه في اربيلا الشهيرة سنة 331 قبل الميلاد .. ولم يخلص العراق من بطش يزدجرد ملك ايران الا على يد الفاتحين العرب المسلمين في معركة نهاوند عام 640 م / 21 هـ .. ولم يخلص العراق من سطوة الامويين الا بعد تحالف العلويين مع العباسيين في ثورة خراسان ، ففاز العباسيون وذبح الامويين وابعد العلويين .. ورمى ابو جعفر المنصور رأس ابو مسلم الخراساني مع قطع الذهب من شرفته الى جماعته فانشغلت بالذهب من دون رأس ابو مسلم .. وكانت الاضطرابات السياسية والانقسامات المذهبية والانشطارات بين تناقضات الفرس وسطوة الترك شارعا سياسيا صعبا يعيشه العراقيون وهم في ازهى مشروع حضاري قدم للعالم اروع المنجزات !
ولم يقض على العباسيين الا المغول بقيادة هولاكو باحتلاله بغداد وذبح العباسيين عن بكرة ابيهم عام 1258م ! وهكذا توالت حكومات كل من السلاجقة والبويهيين والجلائريين الذين قضى عليهم التركمان ، ولم يخلص العراق من هجمة تيمورلنك العنيفة ، ولم يقض على البايندريين الا الشاه اسماعيل الصفوي باحتلاله بغداد من قبل الصفويين .. ولم يقض على الصفويين الا العثمانيين في القرن السادس عشر ! وعاد الشاه عباس الاول ليحتل بغداد في القرن السابع عشر فيخرجه مراد الرابع بعد سنين ويعود العثمانيون كرة اخرى .. ليحاول نادر شاه في القرن الثامن عشر عدة مرات فلم يفلح ! ولم يقض على العثمانيين في العراق الا الانكليز في القرن العشرين .. وحكم صدام حسين ليأتي بالامريكان الى العراق منذ العام 1991 ، فيحتلونه في العام 2003 ويغدو صدام اسيرا في قبضتهم في مطلع القرن الواحد والعشرين !
هذه الدورة التاريخية الكبرى للعراق التي لا يحس بوطئتها وبقوة تحدياتها ورهبتها على العراق واهل العراق الا من يفكر طويلا بتاريخ العراق وكوارث اهله ومصائر شعبه .. فاعلموا احبائي كم دفع اهلنا على امتداد تاريخنا من اثمان باهضة من اجل خلاصهم من دون ان يستقر بهم التاريخ ابدا .. انني واثق بأن العراق سيبقى في مواجهة التحديات على المدى ما دام يقع في هذا المكان الذي يشكّل مجالا حيويا للعالم كله . ولا يفكّر احدا ان العراق بقي مستقلا عن هيمنة ومشروعات القوى الكبرى في العالم ، لا في ايام العهد الملكي ولا اثناء الحكم الجمهوري . ومذ دخل العراقيون في مفاوضاتهم بقيادة نوري السعيد ليحققوا قانون مناصفة الارباح مع شركات النفط في العام 1952 اذ اعتبر هذا قاعدة اساسية لقانون رقم 80 الذي حققه العراقيون في مفاوضاتهم في العام 1960 بقيادة عبد الكريم قاسم الذي قال : انني اوقع على قرار اعدامي .. خرج الانكليز من الباب ، ليدخل الامريكيون من الشباك ، وبدأت سلسلة الانقلابات العسكرية التي كان من ورائها هذا الطرف او ذاك ابان الحرب الباردة بين معسكري الشرق والغرب .
العراق بين البريطانيين والامريكيين
لقد كتب وقيل الكثير عن الانكليز في العراق ، وغدا الانكليز لهم كنيتهم على لسان العراقيين ممثلا ذلك بكنية أبي ناجي ، وللعلم أن العراقيين رحبوا على مدى ست سنوات بالانكليز بين 1914- 1920 .. ولكم ان ترجعوا الى كتب تاريخنا لتجدوا بأن الانكليز حوصروا – مثلا – في الكوت قرابة ستة اشهر ، وتكبّدوا خسائر فادحة ، ولكن الصراع واشتعال الحرب كان بين جيشي الانكليز والاتراك من مدينة عراقية الى أخرى وليس بين العراقيين والانكليز .. لقد توغلت في التعّرف على موقف العراقيين .. كانوا يتفرجون ويرحبون بالقادم الجديد الذي انقذهم من الاتراك العثمانيين وهم فرحين بالليرات الذهبية ، بل ساعد العراقيون الانكليز في بداية الامر من اجل دحر الاتراك . ولقد قاوم الاتراك في كل مكان من العراق مقاومة شديدة وخصوصا في حمرين ولكنهم اندحروا .. ولكن بعد مضى ست سنوات ، انفجر العراقيون بوجه الانكليز بعد ان اصبح العراق لهم وتخلّصوا تماما من الاتراك العثمانيين !
ولكن اذا قمنا بفحص ما قاله الانكليز انفسهم وخصوصا اصحاب العلاقة وندقق ما قاله ارنولد ولسن والمس غرترود بيل والسير برسي كوكس والعقيد لجمان وغيرهم .. كلهم يجمعون على ان العراق المعاصر من صناعتهم ، فهم الذين أوجدوا المؤسسات الحديثة ، وهم الذين خلقوا الاساليب الجديدة وهم الذين بنوا جيش العراق قبل انبثاق الدولة .. وهم الذين حددوا الحدود وهم الذين كانوا من وراء اصدار معظم القوانين الادارية والتشريعات العراقية للبلاد ، وهم الذين كانوا وراء ابقاء الموصل عراقية .. لقد كانت لهم املاءاتهم على العراقيين الذين يقال بأنهم لو بقوا على ما كانوا عليه ايام العثمانيين لما كانوا قد حصلوا لا على العراق ولا على دولة تسمى بالعراق !! وانهم لو بقوا منفردين في تأسيس بلادهم لاختلفوا وتنازعوا من دون اي اتفاق كما حدث في ما بينهم على من يقودهم .. وهذا ما حدا بالانكليز لترشيح فيصل بن الحسين ملكا عليهم فقبلوه بكل اعتزاز من دون بقية العراقيين وذهب وفد عراقي الى الحجاز يمّثل العراقيين كي يستحصل الموافقة على فيصل من ابيه الشريف حسين بن علي فقال قولته الشهيرة : انني لا امانع ولكنني اخاف ان يكون مصيره مصير جده الامام الحسين ( ع) في كربلاء .. ويعلّق احد المؤرخين قائلا بأن العراقيين صبروا على العائلة المالكة 38 سنة فقط ، ليفعلوا بحفيده فيصل الثاني في العام 1958 ما كان اجدادهم قد فعلوه بالامام الحسين (ع) !! وكما انهم قد ندموا على فعلتهم الاولى ، فلقد ندموا على فعلتهم الثانية ! واليوم ، هو غير الامس .. اليوم وبعد قرابة مائة سنة ، خرج صدام حسين من حكم العراق واقتيد اسيرا على ايدي الامريكان بعد ان كانوا وراء حكمه .. اليوم هو وضع آخر يختلف عما كان عليه على ايدي البريطانيين .. اليوم ثمة كوادر ونخب عراقية واسعة مع حجم الوعي بالعراق .. اليوم انتحرت الدولة التي عرفناها ، فلابد من توليد قناعات عند جميع العراقيين بولادة دولة جديدة .. اليوم لا يمكن لأي احد من الاخوة في السلطة او أي قريب منها ان ينكر وجود املاءات امريكية بحيث ان الاخوة العراقيين يقعون اليوم بين المطرقة والسندان .. ولكن هل باستطاعتهم ان يحظوا بواحد مثل فيصل الاول ؟ هل باستطاعتهم ان يكونوا فوق الميول والاتجاهات ؟ هل باستطاعتهم ان يتبّعوا سياسة ( خذ وطالب ) ؟ هل باستطاعتهم ان يكسبوا الرأي العام في العراق باسلوب براغماتي سلس ينجحون حقيقة وفعلا في اتباعه واقناع العراقيين به من خلال وسائل سياسية ذكية يغلبوا فيها مصالح العراق على اي شيئ آخر ؟؟
سبع وصايا من اجل مستقبل جديد للعراق والعراقيين
ثمة نقاط او ملاحظات لابد لي من ابدائها بهذه المناسبة خصوصا وان العراق يمر اليوم بمرحلة من المتغيّرات الصعبة التي نحن بأمس الحاجة الى استيعابها ودفع الاثمان البالغة من أجلها دفعا لأية انقسامات او تشظيات او تشرذمات قد تحدث في العراق – لا سمح الله – ، فما الذي يمكننا ان نلفت الانظار اليه :
1/ صورة العراق الضبابية :
لم تزل الصورة ضبابية وغير واضحة لرسم معالم اي واقع سياسي جديد للعراق .. وان كل ما نسمعه او نقرأه هو من باب ارضاء الخواطر او تهييجها بالضد .. فالعراقيون متخندقون اليوم في خندقين اثنين ، خندق من يطمح نحو التغيير في العراق ويتحمل كل تبعات ما سيحدث .. وخندق من يريد ارجاع القديم الى قدمه ويقف بالضد من اية تغييرات حصلت او قد تحصل . ان الذين تخندقوا في الخندق الاول يحملون ازدواجية في الهوية فهم يوافقون على ان الذي حصل في التاسع من ابريل 2003 ضرورة من اجل تحرير العراق .. وعليه فهم يتهمون بالممالئة للامريكان .. وان الذين تخندقوا في الخندق الثاني يحملون ايضا ازدواجية في الهوية فهم لا يوافقون على كل ما حصل منذ التاسع من ابريل 2003 .. وعليه ، فهم يتهمون بالممالئة لنظام صدام حسين .. وعليه ، فان العراق اليوم بحاجة الى نقيض النقيض .. انه يحتاج الى البعد الثالث الذي يمكن ان يأخذ على عاتقه رسم معالم المستقبل ، والا سيبقى الصراع بين الخندقين .
2/ المخاض التاريخي الصعب :
ان العراق قد انهى حقبة تاريخية من حياته التي عاشها في القرن العشرين ، وانتهى منها بعد خرجت البلاد منهوكة من حروب وحصارات عبر ثلاثة عقود .. وقد انسحقت الدولة التي عرفناها بكل مؤسساتها العسكرية والمدنية .. كي يبدأ تاريخ جديد لدولة عراقية جديدة لا يمكنني التكهن ابدا بها ، اذ يشغلني امر المخاطر والتحديات التي تلم بها والصورة المرعبة التي قد يجدها المرء اثر تقسيم البلاد .. ولكنني برغم كل هذه التخوفات الآنية ، فانني متفاءل بالمستقبل البعيد اذ ربما تبدو الملامح الحقيقية بعد العام 2009 القادم ! وان العراق والعراقيين سيمران بمخاض تاريخي لا مفّر منه ابدا ، كي تبدأ حياة العراق الجديد بعد خمس سنوات من اليوم .
3/ التفاؤل مع رصد أسوأ الاحتمالات :
أتمنى على الاخوة العراقيين كلهم من كلا الخندقين الاثنين أن يكونوا متفاءلين .. ليس بما هو واقع اليوم ، بل بما هو قادم من الزمن .. ولكن اطالبهم بأن يفكروّا بأسوأ الاحتمالات من خلال رصد المتغيرات وحجم التبدلات في الاجندة الدولية والاجندة الاقليمية .. ولا يمكن ابدا من ابقاء الاوضاع الداخلية والمحلية في حالة من الفوضى مع فقدان النظام والقانون ، اذ لا يمكن ابدا ان يجري بناء مؤسسة امنية وعسكرية بمعزل عن سلطة قضائية نافذة وقوية .. ولابد ان يحاسب كل المفسدين في ارض العراق ويأخذون عقابهم من دون اي تدخلات ، فالحالة تنذر بالخطر خصوصا وان ثمة مسؤولين ضمن لائحة الفساد .
4/ وحدة العراق الوطنية :
لابد ان يدرك كل العراقيين بأن وحدة العراق الوطنية لابد ان تكون هدفا حقيقيا لكل العراقيين . ان اي اشاعة لروح الانقسام والانفصال مهما كان مصدر تلك الاشاعة ، او حتى جعل النوايا حقائق متبادلة كما اسمع من حين الى آخر ومن قبل عراقيين سامحهم الله ، فان ذلك سيؤدي بحياة العراق كلّه ، فاعلموا ان هناك دولتين كبيرتين تجاوران العراق .. ولا يمكن لأي جزء عراقي ان ينفصل عن جسد العراق يمكنه ان يعيش ساعات لوحده منعزلا وينعم بما يريد ، اذ سيلتهمه المفترسون الاقليميون الذين يتربصون بالعراق والعراقيين . فهل فّكر العراقيون في اي مكان منه بأن اختلافهم في كل القضايا ولكن مطلوب منهم الانسجام والاتفاق على هذا المبدأ الذي لم يدرك مخاطره الا العقلاء الذين يعرفون ما العراق وما تاريخه وما جغرافيته ؟
5/ العلمنة للحكم والسياسة والاسلام فضاء رائعا للتعايش
لابد ان يدرك كل العراقيين في الدواخل والشتات بأن التنوع الديني والمذهبي والطائفي والاقلياتي .. ومع احترامنا لكل الاديان والاسلام في مقدمتها ، فلا يمكن البتة ان يسود الدين الا في المجتمع بعيدا عن الدولة ونظام حكمها ، وبعيدا عن ادران العراق السياسية والايديولوجية .. وان يبقى الاسلام فضاء رائعا في التعايش الاجتماعي لا في صناعة السياسات العراقية .. واعلموا ايها العراقيون بأن الانطلاق من اي اجندة دينية او طائفية سيؤجج الغليان في المجتمع العراقي لأن كل طرف سيسحبه الى طرفه ويبدأ صراع من نوع جديد العراق في غنى عنه ، فضلا عن ردود فعل الاقليات الدينية العراقية المنسجمة من الاف السنين . وندائي الى كل الاحزاب الدينية والطائفية في ان تدرك ما اقول !
6/ تداعيات المسألة العراقية :
ان ما حدث في العراق عند مطلع القرن العشرين ، وما اسمي بـ ” المسألة العراقية ” قد شكّل بداية حقيقية لمرحلة تاريخية وسيغدو العراق عنوانا وجذرا لما سيأتي من ولادات تاريخية ليس في العراق وحده ، بل في المنطقة والعالم اجمع ، باعتبار ان المسألة العراقية غدت منطلقا للتغيير ربما نحو الاحسن وربما نحو الاسوأ لا ندري الان .. ولكن لابد ان يدرك كل من العراقيين وجيران العراق بأن استقرار العراق ورحيل الارهاب عنه سيؤمن مستقبلهم ومصيرهم كلهم .. اما اذا حدث العكس – لا سمح الله – فستغرق المنطقة كلها بالفوضى ! وعليه ، لابد ان تكونوا اذكياء في التعامل مع الاحداث والمتغيرات .
ولكن كيف ؟
7/ العراق بحاجة الى نخبة سياسية ذكية ونزيهة :
ان الحاجة تدعو اساسا الى ان تتبلور نخبة سياسية عراقية ذكية ونزيهة ووطنية لها القدرة على التعامل مع الاخرين وخصوصا الولايات المتحدة الامريكية . نخبة براغماتية تضع مصالح العراق العليا فوق كل المصالح الشخصية والفئوية والحزبية والطائفية والمذهبية .. لكي تتحدث بلغة الاخر ولها القدرة على منازلته والتفاوض معه من موقع قوي شريطة استقرار الاوضاع في كل دواخل العراق .
وأخيرا ..
اعزائي الاصدقاء ، لدي اشياء اخرى ساحتفظ بها الان الى مناسبة اخرى .. اشكركم على حسن اصغائكم مع تمنياتي لكم بالنجاح والتوفيق ولعراقنا الحبيب بالتقدم وتحقيق امنيات كل العراقيين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
( ايلاف 17 ابريل 2005 )
شاهد أيضاً
انقسام العالم الإسلامي والتصدعات الاجتماعية في الشرق الاوسط… 2007 جواز مرور صعب
مختصر مترجم للمحاضرة التي القاها الاستاذ الدكتور سّيار الجميل في منتدى دراسات المستقبل المنعقد في …