اضغط لمشاهدة الصورة بقياس كبير
في خضم الفوضى الفكرية التي تجتاح ثقافتنا العربية اليوم، نقرأ بين الحين والآخر غرائب وعجائب ينشرها البعض ممن يدّعى نفسه مثقفا، ويلغى بجرّة قلم كل ما اتفق عليه العلماء والمختصون والمؤرخون من معلومات .. ولعل أغرب مقال قرأته هذا الأسبوع، كان لفنان ومخرج مسرحي عراقي، إذ نشر مقالا يدافع فيه عن القائد المغولي هولاكو، الذي اشتهر بقسوته وغلظته وخصوصا في غزوه بغداد وإسقاطه لدولة الخلافة العباسية بعد أن عمّرت لأكثر من خمسة قرون . إنني لا أعترض على المقال، وهو يصب جام غضبه على الخليفة العباسي المستعصم بالله الذي أعدمه المغول عام 1258م عند سقوط بغداد، ولكنني سأقف منتقدا دفاعه عن هولاكو، واستخفافه بالمؤرخين، وادعاءه أنه يمتلك (الرأي التحليلي العلمي) مخالفا بذلك كل ما ورد في مصادر التاريخ المختلفة العربية والأجنبية، فضلا عن تشويه ما قاله المؤرخون غير العرب عن شخصية هولاكو الذي كان يدّمر كل من يعترض طريقه. وكنت أتمنى على المؤرخين العرب اليوم أن يوقفوا سيل مثل هذه الكتابات المدمرة، ولكن يبدو أنهم يؤثرون السكوت في تناول أي موضوعات حساسة.
كل المؤرخين الذين كتبوا عن بشاعة ما اقترفه هولاكو في بغداد عام 1258 م، لم يكونوا بساذجين يا هذا، ولا بمخدرين في نشوة الخيال القومي المريض ـ كما قلت ـ .. فما علاقة كل هذا الوصف بأناس لم يكتبوا من فراغ، مثلما فعلت، بل اعتمدوا على مصادر موثقّة تماما، وهى متنوعة، وإذا كان المؤرخون العرب ساذجين ومخدرين، فماذا تقول بمؤرخين آسيويين وأوروبيين أجمعوا على بشاعة مجازر هولاكو في بغداد ؟!
ما التحليل العلمي الذي تمتلكه يا هذا مقارنة بالعاطفة الفارغة من أي مضمون عقلي كالذي وصمت به المؤرخين ؟! وتهاجم أساتذة التاريخ الذين علموك في المدارس كيف تلعن هولاكو القاسي القلب والهمجي والبربري والتترى .. ولم يعلموك كيف تشتم الخليفة المستعصم بالله الذي وصفته بالماجن الذي ابتعد عن شعبه وغرق في ملذاته !! هل قرأت سيرة هذا الخليفة العباسي الأخير الذي حكم قرابة 15 سنة بعد أبيه المستنصر بالله، وأعدمه هولاكو عام 1258م وكان يحمل شهادة علمية وعرف باتزانه ومسالمته ورقة طبعه معتمدا فى تصريف شئون دولته على وزيره محمد بن العلقمى لسنوات طوال .. صحيح أنه سّرح جيشه ولم يستعد لحرب ضارية إذ خذله المستشارون خذلانا كبيرا .. فليس من حق كائن من كان أن يتهم هذا الخليفة بالنعوت اللاأخلاقية الظالمة!
ذكرتَ أن الكتب الأوروبية أخبرتك بسجايا هولاكو الحسنة.. هل بإمكانك أن تعلمني بعناوين هذه الكتب؟ علما بأن كل أدبيات العالم التي مرّت علّى، لم تمنح هولاكو صك غفران، فالصورة قاتمة وكئيبة عن هولاكو وتاريخه، وما اقترفه من جرائم بحق الناس، يقول هذا المعجب بطيبة هولاكو وحكمته: «هولاكو سمح للناس وللجند أن يستبيحوا ممتلكات الوزراء والأمراء وكل الأغنياء من أهل البلد وهكذا أيقظ شهوة الغزو العربية فنهب الناس ما عودّهم عليه خلفاؤهم حين يسمحون لهم بنهب وزير غضب عليه الخليفة أو عائلة البرامكة رغم إحسانهم للناس آنذاك ..»!
هذا الكلام غير مسئول، ولا يدرك معنى الظاهرة المغولية في تاريخ العصور الوسطى .. هذا الكلام يأتي من (مثقف عراقي جديد) يستهين بتاريخه وبمأساة وطن ذبحه الغزاة، ولم يدرك عوامل انهيار الأمم، كي يجد الأخطاء كلها في شخص سليل خلفاء يكرههم، وبرامكة لم يزل يعجب بهم ! إنه كلام يأتي ممن يدرك تماما ما فعله الخونة بتاريخ بغداد .. وما مارسته الطوابير الخامسة والسادسة في قلب المجتمع العراقي، ولكنه يتجاهلها ولم يذكرها ! هذا الكلام يأتي على لسان من لم يعرف الحيادية ولا الموضوعية في التفكير .. ولم يسأل نفسه: هل الآلاف المؤلفة من الناس التي قتلها هولاكو كانت كلها من الوزراء والأعيان والأمراء والأغنياء؟ وهل يا ترى كانت شهوة الغزو العربية أتعس وأسوأ من شهوة الغزو التترية ؟ إنه كلام يصدر عمن لم يدرك كيف كانت بغداد أيام سقوطها .. وقد بنى الخليفة المستنصر (أبو المستعصم) جامعته المستنصرية قبل سنوات قلائل من حطام بغداد على يد هولاكو، والتي لم تزل قائمة حتى اليوم!
كتب هذا العراقي الجديد أيضا، وهو مثال حي للآلاف من أمثاله الذين ينكرون تاريخ العراق الحضاري والسياسي .. كونهم ينطلقون من منطلقات مخالفة تماما، فيشوهون كل عناصره وتراكيبه وأحداثه .. يكتب قائلا أن حكاية قذف هولاكو للكتب العلمية في نهر دجلة بحيث أصبح النهر أزرق لكثرة الكتب التي نزفت حبرها فيه .. هذه الحكاية يكذبها صاحبنا، إذ إنه يرى أن هولاكو لم يرم في النهر سوى كتب الشعراء والخطباء وكتب السيرة الشخصية ومدونى جلسات الخليفة وحسابات الجند والمرتزقة وكتب دواوين بيت المال والجواري والغلمان وغيرها في حين احتفظ بكل الكتب العلمية والحضارية، وكأنه كان برفقته.
.. وكأن هولاكو في نزهة علمية وقد تفرغ لمعرفة ما يرمى بدجلة، وما لا يمكن أن يرمى فيه ! كانت بغداد تحترق والناس في هلع وأعمال السيف فيهم، الغزاة ينهبون القصور والدواوين، فهل وصل أمر المثقف الجديد إلى درجة كهذه من ضيق الأفق ؟ هل وجد مثل هذه المعلومة في أي مصدر من المصادر؟ وإذا كانت بغداد قد فقدت آلاف الكتب المتنوعة، فهل هي الحاضرة الوحيدة في العالم الإسلامي تحترز على الكتب، أم هناك العشرات من الحواضر الشهيرة بمدارسها ومكتباتها . يتابع هذا الكاتب قوله: «لم يرم هولاكو غير قذارة وعاظ السلاطين لسلطانهم لأنها تحمل النفاق والكذب، هولاكو كان محاطا بمستشارين أذكياء ومنهم علماء مسلمون جلبهم من أذربيجان وغيرها، ولم يكن دكتاتورا في الرأي أبدا وذلك ما جلب له النصر في الحروب..اعتماده على المشورة الصادقة».
وأبقى بدر الدين لؤلؤ حاكما على الموصل، ولكن غدر بابنه الملك الصالح، عندما أرسل إليه أحد قواده واسمه سنداغو نحو الموصل واستباحها بعد 4 سنوات من سقوط بغداد، وأخرج الملك الصالح إلى الصحراء وعراه ودهن جسمه بالسمن والعسل وأبقاه تحت الشمس المحرقة مصفدا بالأغلال حتى أكلته الحشرات ! أية مشورة صادقة اعتمدها هولاكو، إلا مشورة الخونة والعملاء الذين زرعهم في كل مكان من أصقاع الخلافة العباسية ؟ وأسأل أيضا: لماذا اختار هولاكو يوم عاشوراء لاستباحة بغداد ؟
ويتحفنا هذا المثقف الجديد بقول آخر .. عندما يكتب: «للأسف أن أساتذة جامعة ومثقفين وموظفين وصحفيين لهم علاقة بالتأريخ يصدقون هذه الأكذوبة التي تروج لها الصهيونية العالمية ومؤسسات أخرى بأن العرب انتهت حضارتهم في نهر دجلة حين قذف هولاكو بالنهر كتبهم الحضارية، التاريخ لم يخبرنا أن هولاكو أحرق كتبا في ساحة عامة أو جلد وقتل عالما ورجل دين مثلما حدث لابن حنبل وللحلاج وغيرهما» .
هل هذا بربكم كلام عقلاء؟ هل يعرف هذا الرجل أى قيمة لأناس صرفوا حياتهم على الثقافة والاختصاص ليشكك بعلاقتهم بعلم التاريخ ؟ وأنهم يصدقون أكذوبة تروج لها الصهيونية العالمية ؟ هل هذا الرجل بوعيه الكامل عندما كتب بأن التاريخ لم يخبره أن هولاكو أحرق كتبا أو جلد وقتل عالما ورجل دين .. إنه يريد أن ينزّه هولاكو ويرفعه درجات من أجل أن يجرد خلفاء بنى العباس عن أية إيجابيات .. هذا هو غرضه ! طيب .. التاريخ لا يمكن أن نجد فيه ملائكة يحكمون .. وما كان غيرهم إن حكموا سيكونون ملائكة كما يتخيلون!
تعال فقط أيها المثقف الجديد لأخبرك ببعض الذي فعله هولاكو عندما أعدم خارج أسوار بغداد، مئات العلماء والأدباء والفقهاء .. يقول شاهد عيان وهو ثقة: «في سنة 656هـ وصل التتار إلى بغداد وهم مائتا ألف ويقدمهم هولاكو فخرج إليهم عسكر الخليفة فهزم العسكر. ودخلوا بغداد يوم عاشوراء فأشار الوزير على المستعصم بمصانعتهم وقال: أخرج إليهم أنا في تقرير الصلح فخرج وتوثق بنفسه منهم وورد إلى الخليفة وقال: إن الملك قد رغب في أن يزوج ابنته بابنك الأمير أبى بكر ويبقيك في منصب الخلافة كما أبقى صاحب الروم في سلطنته ولا يريد إلا أن تكون الطاعة كما كان أجدادك مع سلاطين السلجوقية وينصرف عنك بجيوشه فليجب مولانا إلى هذا فإن فيه حقن دماء المسلمين، ويمكن بعد ذلك أن تفعل ما تريد، والرأي أن تخرج إليه فخرج إليه في جمع من الأعيان فأنزل في خيمة. ثم دخل الوزير فاستدعى الفقهاء والأماثل ليحضروا العقد فخرجوا من بغداد فضربت أعناقهم وصار كذلك تخرج طائفة بعد طائفة فتضرب أعناقهم حتى قتل جميع من هناك من العلماء والأمراء والحجاب والكبار. ثم مد الجسر وبذل السيف في بغداد واستمر القتال فيها نحو أربعين يوماً فبلغ القتلى أكثر من ألف ألف نسمة، ولم يسلم إلا من اختفى في بئر أو قناة وقتل الخليفة رفساً. قال الذهبي: وما أظنه دفن وقتل معه جماعة من أولاده وأعمامه وأسر بعضهم وكانت بلية لم يصب الإسلام بمثلها ولم يتم للوزير ما أراد وذاق من التتار الذل والهوان ولم تطل أيامه بعد ذلك وعملت الشعراء قصائد في مراثي بغداد وأهلها» .
ونقرأ ما كتب عن سيدة البلاد بغداد بعد اجتياحها المأساوي على أيدي المغول ، إذ بقيت مدمرة خالية من السكان حتى استرجعت أنفاسها ، ولكنها بقيت مجروحة ومتألمة وهي تبكي أيام مجدها وسؤددها وحضارتها العظيمة . وصفها أحدهم قائلا : ” اجتاح المدينة العقبان وانقضوا على الحمام والذئاب افترست قطعان الغنم واختلط الحابل بالنابل وانتشر القتل والإرهاب… الأسرّة والأرائك المصنوعة من الذهب قطعوها بالسكاكين اربا اربا، أولئك الذين في بيوت الحريم اختطفوهن ورموهن في الشوارع والأزقة وجعلوهن لعبا في أيديهم ومات السكان بأيدي الغزاة ” نقل المستشرق ديفيد مورغن هذه الفقرة نقلا حرفيا عن توصيف شاهد عيان ، والمستشرق مورغن احد ابرز المتخصصين في الشؤون التاريخية المنغولية . ويضيف العديد من المؤرخين والمستشرقين ( نقلا عن مصادر موثقة ) إن الوحش المغولي خرب قنوات الري والزراعة وقتل كل الماهرين في الصناعات ، وهرب القسم الآخر من أصحاب المهن والحرف ، كما أورد ذلك عدد من المؤرخين المسلمين والغربيين ، بل يقول المؤرخ روفان اميتاي بريس بأن ” أعداء العباسيين ساعدوا هولاكو في حملته على بغداد .. ” .
أخيرا، لنحترم ذاكرتنا قليلا .. إن مؤرخينا القدماء والمحدثين والمستشرقين ما كانوا بكاذبين، وقد كتبوا تواريخهم إبان العهد الايلخانى للعراق وبلاد فارس، ومن أشهرهم الإمام الذهبي وسبط ابن الجوزى ورشيد الدين بن فضل الله الهمذانى وأبو شامة وابن الساعي والجوزجانى ، ومحمد بن علي بن طباطبا المعروف بابن الطقطقي وغيرهم، ومن المستشرقين: بويل وبوزوورث وبيتر جاكسون وجاك وذرفود وجون مان وجورج لين وجوستن ماروزي وهيو كيندي وجيمس جامبرس وارك هلدنبرك وديفيد مورغان وفريزر إيان وغيرهم. أما المؤرخون العرب فمن أبرزهم: جعفر خصباك ، وعبد المنعم رشاد ، وفؤاد عبد المعطى الصياد ، وعباس إقبــال، والسيد الباز العرينى، وعبدالسلام عبد العزيز فهمي وغيرهم.؟
نشرت في روز اليوسف المصرية ، العدد 4274 – السبت الموافق – 8 مايو 2010 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com